البحث

عبارات مقترحة:

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

حلف الفضول

العربية

المؤلف ياسر دحيم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. بين حلف المطيبين وحلف الفضول   .
  2. سبب حلف الفضول ولمَ سمي بهذا الاسم؟   .
  3. بيان حكم الأحلاف في الإسلام   .
  4. وجوب نصرة المظلوم   .
  5. النبي ينتصر للمظلومين   .
  6. التحذير من خذلان المظلومين   .
  7. لا يُقَدِّسُ اللهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِم. .

اقتباس

لقد أمرنا الله ورسوله بنصرة المظلوم والذب عنه, والأخذ على يد الظالم, وإذا وجد في الأمة من يقف ضد الظالم مع المظلوم؛ فالأمة حية ولازالت بخير, أما إذا فشا الظلم, وأكل القوي الضعيف, وهابت الأمة أن تقف في وجه الظلمة فلا خير فيها حينذاك....

الخطبة الأولى:

الحمد لله وعد بنصر أوليائه وبدحر وهزيمة أعدائه، أحمده سبحانه وأشكره على فضله وجوده وعطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في صفاته ولا في أسمائه, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خصه الله من بين خلقه باصطفائه, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله: مع سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- نتلمس ما يكون نبراساً لحياتنا من مواقفه -صلى الله عليه وسلم-, ومع حادثةٍ وقعت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته, هذه الحادثة التي تدل على ما كان عليه أهل الجاهلية من مروءة ونخوة ونجدة؛ على ما هم فيه من جاهلية وكفر ومساوئ الأخلاق, إلا أن عندهم بعض الصفات الطيبة التي أثنى عليها نبي الإسلام وأقرها.

معاشر المؤمنين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ". [رواه أحمد وهو في السلسلة الصحيحة], ويقصد به حلف الفضول فهم في الأصل من جماعة المطيبين, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدرك حلفَ المطيبين كما ذكر ذلك أهل السير, وسبب حلف المطيبين أن قريشاً تنازعوا في الذي كان جعله قُصي لابنه عبد الدار من السقاية والرفادة واللواء والندوة والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف، وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش، وتحالفوا على النصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنةً فيها طيب، فوضعوا فيها أيديهم وتحالفوا، فلما مسحوا أيديَهم بأركان البيت سموا المطيبين، وكان هذا قديماً، ثم حدث حلفٌ آخر حضره النبي هو حلف الفضول وكان في دار عبد الله بن جدعان, وقد قال -صلى الله عليه وسلم-:" لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت". [البيهقي في السنن الكبرى].

عباد الله: حلف الفضول هو اتفاق وقع في مكة المكرمة قبل بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنحو عشرين سنة، وقد شاركت فيه عشائر مهمة من قريش منها بنو هاشم, وبنو زهرة بن كلاب, وبنو عبد المطلب, وأسد بن عبد العزى, وتيم بن مرة, وحضره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في حدود العشرين من عمره.

وسمي حلف الفضول بحلف المطيبين لأن المشاركين فيه عامتهم من الذين عقدوا حلف المطيبين وهو حلف قبل هذا, وأما سبب عقد حلف الفضول فهو أَن رجلا من زبيد قدم مَكَّة مُعْتَمِرًا فِي الْجَاهِلِيَّة وَمَعَهُ تِجَارَة لَهُ فاشتراها مِنْهُ رجل من بني سهم, فأواها إِلَى بَيته ثمَّ تغيب فابتغى مَتَاعه الزبيدِيّ فَلم يقدر عَلَيْهِ, فجَاء إِلَى بني سهم يستعديهم عَلَيْهِ فأغلظوا عَلَيْهِ, فَعرف أن لَا سَبِيل إِلَى مَاله, فطوف فِي قبائل قُرَيْش يَسْتَعِين بهم فتخاذلت الْقَبَائِل عَنهُ, فَلَمَّا رأى ذَلِك أشرف على جبل أبي قبيس حِين أخذت قُرَيْش مجالسها, ثمَّ قَالَ بِأَعْلَى صَوته:

يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومِ بِضَاعَتُهُ

بِبَطْنِ مَكّةَ نَائِي الدّارِ وَالنّفَرِ

وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ

يَا لَلرّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ

إنّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمّتْ كَرَامَتُهُ

وَلَا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ

فَلَمَّا نزل من الْجَبَل أعظمت ذَلِك قُرَيْش فتكالموا فِيهِ, فقام الزبير بن عبد المطلب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا الى نصرة المظلوم وقال: "مَا لِهَذَا مُتَرّكٌ", فَاجْتَمَعَتْ هَاشِمٌ وَزُهْرَةُ وَتَيْمُ بْنُ مُرّةَ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ فِي دَار عبد الله بن جدعَان وصنع لَهُم يَوْمئِذٍ طَعَاما كثيرا, وَكَانَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمئِذٍ مَعَهم قبل أن يُوحى إِلَيْهِ, وَكَانَ الَّذِي تعاقد عَلَيْهِ الْقَوْم وتحالفوا: "ليكوننّ يدا واحدة مَعَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظّالِمِ، حَتّى يُؤَدّى إلَيْهِ حقّه وأن لَا يظلم بِمَكَّة غَرِيب وَلَا قريب وَلَا حر وَلَا عبد الا كَانُوا مَعَه حَتَّى يَأْخُذُوا لَهُ بِحقِّهِ ويردوا إِلَيْهِ مظلمته من أنفسهم وَمن غَيرهم" ثمَّ عَمدُوا إِلَى مَاء زَمْزَم فجعلوه فِي جَفْنَة ثمَّ بعثوا بِهِ إِلَى الْبَيْت فغسلت بِهِ أَرْكَانه ثمَّ أَتَوا بِهِ فشربوه, فقالت قريش: "لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي فَضْلٍ مِنْ الْأَمْرِ" ثم ساروا جميعاً إلى العاص بن وائل وانتزعوا منه سلعة الزبيدي وردوها إليه، وقال في ذلك الزبيدي:

إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا 

  ألا يقيم ببطن مكة ظالمُ

أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا 

  فالجار والمعتر فيهم سالمُ

فهذا الحلف بما يقوم عليه من قواعد إحقاق الحق, ونصرة المظلوم, وردع الظالم, وتضافر الجهود في وجه الباطل؛ حضره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة، الأمر الذي يكسبه الدلالة على مشروعية بل ضرورة التعاون مع أي كان فيما يتعلق بإحقاق الحق ونصرة المظلوم، لذلك عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليؤكد على هذا الحلف وصلاحية فكرته في ظل الإسلام، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: " لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمُومَتِي حِلْفًا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمُرَ النَّعَمِ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ". [رواه البيهقي والبزار], ومعنى حلف الفضول، أي حلف الفضائل, والفضول هنا جمع فضل وقيل لأنهم أخرجوا فضول أموالهم للأضياف.

وبهذا أرسى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تشريعاً في الإسلام أقر من خلاله الوقوف مع المحق ولو كان كافراً, وفي مواجهة الظالم الباغي ولو كان صديقاً حميماً أو أخاً أو قريباً. قال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء: 135].

قال الإمام ابن كثير: "وكان حلف الفضول أكرم حلف سُمع به وأشرفه في العرب". قال النووي في [تهذيب الأسماء]: "حلف المطيبين، ومعهم حلف الفضول، هما حلفان كانا في قريش قبل نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم-, والحِلْف بكسر الحاء وإسكان اللام هو العهد والبيعة, وسمي الحلف الأول بحلف المطيبين لأنهم أخرجوا جفنة فملأوها طيبًا فكانوا يغمسون أيديهم فيها ويتبايعون، وقيل: لأنهم أخرجوا من طيب أموالهم شيئًا أعدوه للأضياف.
والحلف الثاني: سمي بالفضول، قيل: لأنهم أخرجوا فضول أموالهم للأضياف، وقيل: لأنه قام بأمرهم جماعة اسم كل واحد منهم فضل منهم: الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة".

عباد الله: لقد ورد في الشريعة ما يدل على تشجيع مثل هذه الأحلاف, التي تقوم لنصرة المظلوم ودفع الظلم, وهذا من التعاون على البر والتقوى, قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) [المائدة: 2], والتداعي لدفع الظلم هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والله يقول: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]. بل أمر نبينا -عليه الصلاة والسلام- بالوقوف ضد الظلم يقول -صلى الله عليه وسلم-: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا؛ فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قال: "تردعه عنَ الظُّلْمِ، فذَلِكَ نَصْرُك إياه" [رواه البخاري]. وحين ذكر رسول الله حلف القبائل في الجاهلية قال: "وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت".

وعن عاصم قال: قلت لأنس -رضي الله عنه- أبلغك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "لا حلف في الإسلام". فقال قد حالف النبي -صلى الله عليه وسلم- بين قريش والأنصار في داري". [أخرجه البخاري], وعند مسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". وأخرج الترمذي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في خطبته: "أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده يعني الإسلام إلا شدة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام".

قال ابن الأثير: "أصل الحِلْف: المُعاقَدةُ والمعاهدة على التَّعاضُد والتَّساعُد والاتّفاق, فما كان منه في الجاهلية على الفِتَن والقتال بين القبائل والغاراتِ؛ فذلك الذي ورد النَّهْي عنه في الإسلام بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حِلْفَ في الإسلام", وما كان منه في الجاهلية على نَصْر المَظْلوم وصلة الأرحام كحلْف المُطَيَّبين وما جرى مَجْراه فذلك الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: "وأَيُّمَا حِلفٍ كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شدة", يريد من المُعاقدة على الخير ونُصْرَة الحق وبذلك يجتمع الحديثان وهذا هو الحِلْف الذي يَقْتَضِيه الإسلام والمَمْنُوع منه ما خالف حُكْم الإسلام".

وقال النووي: "وأما المؤاخاة في الاسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق فهذا باق لم ينسخ, وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحاديث وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حلف في الاسلام", فالمراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه والله أعلم".

قال ابن حجر: "وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث؛ لأن فيه نفي الحلف, وفيما قاله هو إثباته, ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك, والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد".

قال القرطبي :"قال العلماء: فهذا الحلف الذى كان في الجاهلية هو الذى شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: "لا حلف في الاسلام" والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 42]".

بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1 - 3]

أقول ما تسمعون واستغفر الله

الخطبة الثانية:

الحمد الله الذي أعزَّ أولياءه بنصره، وأذل أعداءه بخذله، فنِعم المولى ونِعم النصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المصير.

عباد الله: لقد أمرنا الله ورسوله بنصرة المظلوم والذب عنه, والأخذ على يد الظالم, وإذا وجد في الأمة من يقف ضد الظالم مع المظلوم فالأمة حية ولازالت بخير, أما إذا فشا الظلم, وأكل القوي الضعيف, وهابت الأمة أن تقف في وجه الظلمة؛ فلا خير فيها حينذاك, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهَا". [رواه أحمد]. وفي البخاري عن البَرَاءِ -رضي الله عنه- قالَ: أَمَرَنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بسَبعٍ وذكر منها: "ونصْرِ المظلومِ".

بل أمر الله -عز وجل- بنصرة المظلوم والوقوف إلى جانبه حتى لو أدى إلى ذلك قتال الظالم, كما قال الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات: 9].

إن مجتمعاً يرى الأقوياء يظلمون الضعفاء وهو ساكت, ويأكلون حقوق المساكين والفقراء واليتامى ومن لا قوة لهم ولا سند؛ ثم لا يفعل أفراده شيئاً, هو مجتمعٌ سلبيٌ لا يستحق نصر الله له, ولا أن يعزه الله تعالى ويكرمه, عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟", فَقَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ, بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ, مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ, تَحْمِلُ عَلَى رَأسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ, فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ, فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا, فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا, فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللهُ الْكُرْسِيَّ, وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ, وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ, فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَتْ, صَدَقَتْ, كَيْفَ يُقَدِّسُ اللهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟" وفي رواية: "إِنَّ اللهَ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُعْطُونَ الضَّعِيفَ مِنْهُمْ حَقَّهُ" [صححه الألباني في صَحِيح الْجَامِع].

إن عزة أي مجتمعٍ ورفعته وتأييد الله له؛ إنما يكون بوقوف أفراده مع الضعفاء؛ لينالوا حقوقهم كاملةً غير منقوصة, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ تُنْصرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ", وفي رواية: "فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ".

عباد الله: كان من أخلاقه الكريمة -عليه الصلاة والسلام- نصرة المظلوم والوقوف معه, ذكر ابن هشام بسنده في سيرته قَالَ: "قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشٍ بِإِبِلِ لَهُ مَكّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْل  فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُؤَدّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنّي رَجُلٌ غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّي؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِك الْمَجْلِسِ: أَتَرَى ذَلِك الرّجُلَ الْجَالِسَ لِرَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَهُمْ يهزؤون بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ, اذْهَبْ إلَيْهِ فَإِنّهُ يُؤَدّيك عَلَيْهِ.

فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللّهِ إنّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّ لِي قِبَلَهُ وَأَنَا غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ وَقَدْ سَأَلْت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدّينِي عَلَيْهِ يَأْخُذُ لِي حَقّي مِنْهُ فَأَشَارُوا لِي إلَيْك، فَخُذْ لِي حَقّي مِنْهُ يَرْحَمُك اللّهُ قَالَ: انْطَلِقْ إلَيْهِ, وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَلَمّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ قَالُوا لِرَجُلِ مِمّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ.

قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حَتّى جَاءَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُحَمّدٌ فَاخْرُجْ إلَيّ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ قَدْ اُنْتُقِعَ لَوْنُهُ فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الرّجُلَ حَقّهُ, قَالَ: نَعَمْ لَا تَبْرَحْ حَتّى أُعْطِيَهُ الّذِي لَهُ, قَالَ: فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ: جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَاَللّهِ أَخَذَ لِي حَقّي.

وَجَاءَ الرّجُلُ الّذِي بَعَثُوا مَعَهُ فَقَالُوا: وَيْحَك مَاذَا رَأَيْت؟ قَالَ: عَجَبًا مِنْ الْعَجَبِ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ, فَقَالَ: لَهُ أعْطِ هَذَا حَقّهُ, فَقَالَ: نَعَمْ لَا تَبْرَحْ حَتّى أُخْرِجَ إلَيْهِ حَقّهُ, فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ فَأَعْطَاهُ إيّاهُ.

ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ أَبُو جَهْلٍ أَنْ جَاءَ فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَك مَا لَك؟ وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْت قَطّ, قَالَ: وَيْحَكُمْ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيّ بَابِي، وَسَمِعْت صَوْتَهُ فَمُلِئَتْ رُعْبًا، ثُمّ خَرَجْتُ إلَيْهِ وَإِنّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنْ الْإِبِلِ مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطّ، وَاَللّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي".

عباد الله: لما جاء رَاجِزُ بَنِي كَعْبٍ يَسْتَصْرِخُ رسول الله للنصرة والنجدة بعد أن نقضت قريش صلحها، وأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ بَنِي بَكْرٍ, فإذا هو ينشد:

يا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا

حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلُدَا

إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَ

وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا

فأجابه رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ" ثَلَاثًا، أو قال: "نُصرتَ وَنُصِرْتَ وَنُصِرْتَ" ثَلَاثًا.

وجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ, فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي, فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ, وَقَالُوا: وَيْحَكَ, تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ؟... إِنَّ اللهَ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يَأخُذُ الضَّعِيفُ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ وَهو غَيْرُ مُتَعْتَعٍ". [ رواه ابن ماجة وهو في صَحِيح الْجَامِع].   

عباد الله: لقد أصبحنا في زمن يأكل فيه القوي الضعيف ويظلمه, ولا يجد الضعيف له ناصراً معيناً يأخذ له حقه, فقد انتشر الظلم في مجتمعاتنا بصورة كبيرة, نجد من يرى الظلم ولا ينكره, بل يتفرج أكثرنا على الظلمة وهو يظلمون الناس ولا نحرك ساكناً, بل أصبح الظلمة يتحالفون ويجتمعون على الباطل وظلم الناس, أما أهل الحق فهم مفرقون وقد أصبحت مواقفهم سلبية, كلٌ يريد نجاة نفسه وسلامتها, ويظن بذلك أنه ناجٍ,كلا؛ -والله- فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ" [رواه أحمد].

إن خذلان المؤمن المظلوم منهيٌ عنه, إذ ليس من المروءة في شيء أن ترة مظلوماً ضعيفاً ثم لا تنصره -إن كنت قادراً على ذلك-, والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، ولَا يَحْقِرهُ وَلَا يَخْذلُهُ", وعدم نصر المظلوم هو من الخذلان له, وصاحبه متوَّعدٌ بالعقوبة في قبره, فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُو, حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَجُلِدَ جَلْدَةً وَاحِدَةً فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا, فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ قَالَ: عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي؟, قَالُوا: إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَمَرَرْتَ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ" [رواه الطبراني وهو في صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب].

كم  يستغيث بنا المستضعفون وهم

 قـتلى وأسـرى فما يهتز إنسانُ؟

ألا نـفـوسٌ أبيَّاتٌ لـها هـممٌ    

  أمـا عـلى الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

وقد حذر النبي من ترك الظلمة يظلمون الناس, دون أن يقف أحدٌ يردعهم ويحجزهم عن ظلم العباد, فإذا سكتت الأمة وخاف الناس جميعاً, فإن العقوبة تطال الجميع, قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، وَلَتَأخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأطِرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ أطْراً، وَلَتَقْصُرُنَّه عَلَى الحَقِّ قَصْراً ، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَننكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ" [رواه أَبُو داود والترمذي].

عباد الله: إن للباطل أنصاراً وللظلم أعوانا, ولذا ينبغي أن يكون للحق أنصارٌ وأعوان, فكونوا من أهل الحق وأنصاره روى أحمد والترمذي بسند صحيح أن رَسُولَ اللَّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ: "أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ"، كما أخرج أحمد وابن ماجه أنه -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ: "لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ، أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالًا ثُمَّ لَا يَقُولُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى".

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].