الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
ثبت في الصحيحين أنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، سألتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سؤالاً عجيباً غريباً، قَالَتْ: يا رسول الله: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟! سؤالٌ مُفاجئٌ وصعبٌ على النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حيث بدأ يعود بذاكرته إلى السنوات الخالية، والأيام الماضية.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، قيومِ السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسعت رحمته جميع المخلوقات، وامتدت نعمه وآلاؤه من في الأرض والسماوات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، فمن اتقاه وقاه، وأعانه وهداه.
أمة الإسلام: ثبت في الصحيحين أنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، سألتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سؤالاً عجيباً غريباً، قَالَتْ: يا رسول الله: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟!
سؤالٌ مُفاجئٌ وصعبٌ على النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حيث بدأ يعود بذاكرته إلى السنوات الخالية، والأيام الماضية.
أيُّ يومٍ كان أشدَّ عليه مِنْ يومِ أُحُد، ذلك اليومُ الذي قُتل فيه سبعون من أصحابه، ومُثلت بجثثهم، وبُقرت بُطون كثيرٍ منهم.
ذلك اليومُ الذي شُج فيه وجهه، وكُسرت فيه بعض أسنانه، ودخلت الحديدةُ الواقية في رأسه.
فإنْ لم يَكُنْ هذا اليومُ أشدَّ يومٍ مرّ عليه، فرُبَّما يكون يومَ الخندق، الذي قال الله تعالى فيه، حاكياً حال المؤمنين يومها، وما هم فيه من الشدَّةِ والخوف والأذى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا).
فهل هناك يومٌ كان أشدَّ عليه -صلى الله عليه وسلم-، من هذين اليومين؟!
نعم، إنه يوم العقبة، قَالَ -صلى الله عليه وسلمَ- مُجيباً على سُؤالها: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ -أي: لقيت منهم العناء والشدَّة والأذى- وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ". وهو اليوم الذي وقف -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة، التي بمنى، يدعو الناس إلى الإسلام، فما أجابوه، بل آذوه وسبُّوه، فذهب إلى الطائف علَّه أنْ يجد آذاناً مصغية، وقلوباً واعية.
قال: "وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ".
وذلك أنه لَمَّا كان -صلى الله عليه وسلم- بمكة، كان أَبو طَالِبٍ يحميه ويحوطه، ويمنعه من أذى المشركين الحاقدين، والكفارِ والمجرمين، وكانت عنده خديجةُ بنتُ خُويلدٍ -رضي الله عنها-، زوجته ومصدرُ أُنسه، وسندُه وشريكُ دربه، لكن كتب الله لهما الموتَ في السنة العاشرة من البعثة، فافتقد الدعم الحسيَّ والمعنوي، فَاشْتَدَّ عليه الْبَلَاءُ، وتطاول عليه مِنْ قَوْمِهِ السُفَهَاءِ، وَتَجَرّؤُوا عَلَيْهِ وجاهروه بِالْأَذَى، فَخَرَجَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الطَّائِفِ، رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَيَمْنَعُوهُ مِنْهُمْ، فدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وقرأ عليهمُ القرآن، وشرح لهمُ ما جاء به من الإسلام، فما كان منهم إلا أن ردُّوا قولَه، وسفَّهوا رأيه، وَآذَوْهُ مَعَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَذَى، وَنَالُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَنَلْهُ قَوْمُهُ، وَكَانَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، فَمكث بَيْنَهُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، لَا يَترك أَحَدًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ إِلَّا جَاءَهُ وَكَلَّمَهُ، فَقَالُوا له بكلِّ وقاحةٍ: اخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، فجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ -رضي الله عنه- يَقِيهِ بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَصَابَهُ جراحٌ فِي رَأْسِهِ وقدمه.
صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى رسولنا وإمامنا وقدوتنا، كم جاهد بلسانه ويده، كم بذل كلَّ ما يملكه لأجل هذا الدين العظيم، كم صبر على الأذى والظلم، والسبِّ والضرب، لأجل أنْ يُبلِّغ رسالة ربه، ولأجل أنْ يُوصلَ إلينا هذا الدين بيُسرٍ وسهولة، فها نحن نَقْطِفُ ثمراتِ جهده، ونتفيَّأُ ظلال بذله، ونتقلّب بالأمن والإيمان جرَّاء صبره.
فصلوات الله وسلامه عليه كلَّما ذكره الذاكرون، وصلوات الله وسلامه عليه، كلما غفل عن ذكره الغافلون، وحشرنا في زمرته وتحت لوائه، وأوردنا حوضه الذي لا يظمأ مَن شرب منه، إنه جواد كريم.
بعد هذا الأذى النفسيِّ والجسمانيِّ، رجع مِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ حَزينًا كئيباً، وخلال رجوعه دَعَا بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟! إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَم إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ".
يا له مِن تضرُّعٍ وابتهال، وافتقارٍ إلى ربِّه في جميعِ الأحوال.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، أَيْ سرتُ دون شعورٍ لأيِّ جهةٍ سأتجه، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ"، أي: لم أنتبه حتى وصلتُ إلى قَرْنِ الثَّعَالِبِ، وهو المعروف بالسيل الكبير، الذي هُوَ مِيقَات أَهْل نَجْد.
ولكم أن تتخيلوا هذا الهمَّ الشديد، الذي جعله -صلى الله عليه وسلم-، يمشي هذه المسافة الطويلة، وهو لا يشعر بسيره، وهي مسافةٌ مع طولها، إلا أنها وعرةٌ وصعبة، كلُّها جبالٌ شاهقة، وأوديةٌ سحيقة، فأيُّ أذىً لحقه من هؤلاء المشركين الكفرة؟!
فبينما هو في هذا الهمّ والحزن الشديد، إذا به يرْفَعُ رَأْسه نحو السماء، فرأى سَحَابَةً عظيمةً قَدْ أَظَلَّتْه.
قال: "فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ -عليه السلام-، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، الذي أوْكَل الله أمرَ الجبال إليه، قال: فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟!".
أي إنْ أردتَ -يا رسول الله- أَنْ أُطْبِقَ عَلَى أهل مكة جميعاً، جَبَليْ مَكَّة، فأُطْبِقُهمَا حتى يَلْتَقِيَا عَلَى مَنْ بِمَكَّة، فيفنى أهلها، ولا يبقى منهم عينٌ تطرُف.
يا له من عرضٍ ما أحلاه على قلوب كثيرٍ منَّا، وما أجمله وأحسنه عند بعضنا.
ووالله لو عُرض هذا العرضُ على بعض الناس، ممَّن أوذي بأقلَّ من هذا الأذى بأضعافٍ كثيرة: لَبَادر بالموافقة وفرح بذلك.
أما الرؤوفُ الرحيم، البرُّ الحليم، الذي جاء بالرحمة والإحسان، ونبذِ الحقدِ والانتقام، فردَّ على هذا العرض بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ، مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".
ما أعظمَ شَفَقَته -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَوْمه، وما أشدَّ صَبْره وَحِلْمه، وقد قال الله تَعَالَى فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْت لَهُمْ)، قال عنه أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
فلم يُخيِّبِ الله ظنَّه، بل حقَّق أُمنيتَه ورجاءه، فأخرج من صلب أبي جهلٍ ابنه عكرمة، وأخرج من صلب الوليد ابنه خالد، وأخرج من صلب العاصي ابنه عمراً، بل وأسلم صناديدُ الكفر والشرك، فأسلم أبو سفيان، وأسلم سُهيلُ بن عمرو، وحكيمُ بنُ حزام، وغيرُهمُ الكثير.
ثم بعد هذا الدعمِ الملائِكيّ، والتأييدِ الإلَهيّ: دخل مكةَ وقدِ انزاحتْ عنه الهمومُ والأحزان، ووطَّن نفسه على الصبر على الأذى والعدوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أفاض على أوليائه الصبر واليقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام: تأملوا كيف جعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ما لقيه من الأذى النفسيِّ من الكفار، أشدَّ عليه من الأذى الجسدي في معركة أحد، والتي قتل فيها العشرات من أصحابه، وشُجّ وجهه، وكسرت رباعيته.
فهذا من أوضح الأدلة والبراهين، على أنَّ الدعوةَ إلى الله تعالى من أعظم الأعمال، وأنها قد تكون أشدَّ وأشقَّ من الجهادِ وقتالِ الأعداء.
فلا بدّ أنْ نعرف قيمةَ وقدرَ الدعاة إلى الله تعالى، الذين أمضوا أوقاتهم في تعليم الناس دينَهم، وبذلوا أموالهم في سبيل نشر الإسلام، وتحمَّلوا أذى الْمُنافقين والْمُغرضين، وصبروا على تسلُّطهم.
وصدق الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
ومِمَّا نستفيدُه من القصةِ أيضاً: أنَّ أعظمَ شيءٍ على الإنسان وأشدَّه عليه: أنْ يُؤذى أذىً شديداً، ويُستخفَّ به، ثم يَتهيأ له ويُمكنَ من الانتقام وأخذِ حقه، فيجد صعوبةً بالغةً في كبح جماح نفسه، وكفِّها عن الانتقام، ولذلك كان هذا الموقفُ أشدَّ المواقف على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
فنفسُه تُنازعه وتحثُّه على الانتقام لها، والتشفِّي ممَّن آذاها، والله يدعوه إلى الحلم والمسامحة، والعفوِ والرحمة، فإنْ طاوعَ نفسه وانْتقم لها: فاته الأجر العظيمُ والجزاءُ الكريم، وإنْ قدَّم رضا ربه على هوى نفسه: فهنيئاً له الأجر الذي لا حصر له: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
نسأل الله تعالى أنْ يجعلنا من العافين عن الناس، وأنْ يُطهِّر قلوبنا من الغلِّ والحقد، إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.