الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
كيف يُنجبُ أبناءً ويَتْرُكُهم عالةً على الناس, يتركُهُم يتجرَّعون الأسى والحسرة, إذا رأوا يتيمًا يمشي على الأرض غبطوه؛ لأنه يلقى عطْفًا من الناس أمامهم, أمَّا هُمْ فلَهُم أبٌ يتقلَّب في النعيم, وهم يعيشون في الفقرِ الأليم, ولا يشعر أحدٌ بحالهم.. مَن لم يرحمْ أبناءه وبناتِه، ويعطفْ ويحنُّ عليهم، يُخْشى عليه ألا يرحمه الله يوم القيامة, فالجزاء من جنس العمل.. يقول العلاّمةُ محمد رشيد رضا: "وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلَهُ:
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنّ الخُطَبةَ في الجمعة الماضية, كانت مُقدِّمةً لعلاج المشاكل الأسرية, التي ذاقتْ بُيوت كثيرٍ من الناس الْعَنَتَ والْأَلَمَ بِسَبَبِهَا, حتى أُصيب بعضهم بأمراضٍ نفسيّةٍ وعُضويّة منها, فلا بدّ أنْ نعرف أسبابها ليسهل علينا علاجُها.
فمن أسباب المشاكل الأسريّة: البعدُ عن الإسلام وتعاليمِه القويمة:
وهذا هو السبب الأساسُ لكلِّ مشاكلِ الأُسر وغيرها, فالدين الإسلامي جاء بالتعاليم العظيمة, التي من التزمها وقام بها حقّ القيام: فلن يصدُرَ منه إلا كلُّ خُلقٍ حسن جميل, وسلوكٍ طيِّبٍ فضيل.
فالشريعةُ الإسلامية تأمرنا جميعًا - أفرادًا وجماعات, وأُسَرًا ومُجتمعات- بأنْ نسعى في بذلِ الخير والبر, والإصلاحِ بين الناس, والكفِّ عن القبيح والشر. قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114].
وتأمرنا أنْ نعفو ونُسامح من أخطأ علينا, ابْتغاء مرضاة الله, لا خورًا وضعفًا. قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى: 40].
وتأمرنا بإحسان الظن بالآخرين, والْتماس الأعذار لهم, وعدمِ حملِ أفعالهم على أسوأ محمل, وتنهانا عن الغيبةِ والتجسس. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12].
وتأمرنا بأنْ يرحم الكبير منَّا الصغير, ويُوقِّر الصغيرُ منَّا الكبير. قال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا".
وتأمرنا شريعتُنا السمحةُ بعدم نقل الكلام بين الناس, وألا نذكرهم إلا بالخير والإحسان, إلا إذا كانوا أشرارًا فنحذِّر الناس منهم؛ لئلا يُجالسوهم فيُصْبِحوا أشرارًا مثلهم.
عَنِ الْمَرْء لَا تسْلْ وَسلْ عن قرينه | فكلُّ قرينٍ بالمقارن يَقْتَدِي |
وتأمرنا شريعتُنا العظيمة: بالعدل والإنصاف, وتنهانا عن الظلم والميل بدون حقّ. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
إنَّها الشريعَةُ العظيمة, المنزلةُ لإنقاذ البشرية, وإسْعاد الإنسانية, كما قال تعالى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ, بإنْزالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ: زَاجِرٌ عَنِ الْفَوَاحِشِ والظلم, والرَّديء من الأخلاق والتعامل، (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) أَيْ: مِنَ الشُبَه وَالشُّكُوكِ، والقَلَقِ والْحَيْرَةِ, والْحَسَدِ والْحِقْدِ والْبَغْضَاءِ لِلْمُؤْمِنين، (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنين) [يونس: 57] فهو مع ذلك كلِّه, جاء لنشر الْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ بين الناس.
فهذا السبب هو أعظم الأسباب ولا شك, وما يأتي من الأسباب كلها بلا اسْتثناءٍ, إنما هو مُتفرِّعٌ منه, وذلك بسبب مُخالفةِ الأُسَرِ لِمَا أمرها الله -تعالى-, وارْتِكابها لِمَا نُهيتْ عنه.
فالبيت الذي قد مُلئ بشتَّى أنواع المعاصي, من قنواتٍ هابطة, وأغانٍ ماجنة, وقلَّةِ مُحافظةٍ على الصلوات, وتبرجٍّ وسفور: لا شكّ أنه لن يكون بيتًا مُترابطًا مُتماسكًا, ولن يعيش أفراده مع بعضهم بألفةٍ وسعادة - غالبًا-, قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) [طه: 130].
ومن الأسباب أيضًا: ظُلْم وبغيُ الوالدين أو أحدِهما, ومِن المعلوم أنَّ الله -تعالى- فطر عباده على الرحمة, وغرس في قلوبهمُ الرأفة, ولا ينحرف عن ذلك إلا مَن انتكَستْ عنده الفطرة, ورقَّ الإيمان في قلبه.
هل هناك قلبٌ على وجه الأرض, يصبر على هجرِ أبنائه وفَلَذَاتِ كَبِدِه؟!
وهل هناك قلبٌ ينبضُ, يصبرُ على رؤيتهم وضمِّهم, أو تُطاوعه نفسُه أنْ يبخل عليهم مع غناه؟!
للظُّلم بين الأقْربين مَضَاضَةٌ | والذُّلُّ ما بين الأَبَاعِدِ أَرْوَحُ |
فإذا أَتَتْكَ مِن الرِّجال قَوارِضٌ | فَسِهُامُ ذِي الْقُرْبى الْقَرِيبة أَجْرَحُ |
كيف يُنجبُ أبناءً ويَتْرُكُهم عالةً على الناس, يتركُهُم يتجرَّعون الأسى والحسرة, إذا رأوا يتيمًا يمشي على الأرض غبطوه؛ لأنه يلقى عطْفًا من الناس أمامهم, أمَّا هُمْ فلَهُم أبٌ يتقلَّب في النعيم, وهم يعيشون في الفقرِ الأليم, ولا يشعر أحدٌ بحالهم.
ما أشدّ الظلم إذا كان من القريب, فكيف إذا كان من الأبِ الحبيب؟!
وظلمُ ذوي القربى أشدُ مضاضةً | على النفسِ من وقعِ الحسامِ المهندِ |
فلْيعلم هؤلاءِ الْمَحْرُومون: أنَّهم على خطرٍ عظيمٍ, فمَن لم يرحمْ أبناءه وبناتِه، ويعطفْ ويحنُّ عليهم، يُخْشى عليه ألا يرحمه الله يوم القيامة, فالجزاء من جنس العمل.
يقول العلاّمةُ محمد رشيد رضا -رحمه الله, بعد كلامٍ طويلٍ حول هذا الموضوع-: "وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلَهُ:
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ | تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ |
وَأَعُدُّهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الشِّعْرِيَّةِ, حَتَّى كِدْتُ بَعْدَ إِطَالَةِ التَّأَمُّلِ, فِي أَحْوَالِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْأَوْلَادِ, وَتَدَبُّرِ مَا أَحْفَظُ مِنَ الْوَقَائِعِ فِي ذَلِكَ، أَجْزِمُ بِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا صَحِيحٌ مُطَّرِدٌ، فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ غَنِيٍّ قَدِ انْغَمَسَ فِي التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ، وَأَفَاضَ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ مَنْ يَعِيشُ فِي الْبُؤْسِ وَالضَّنْكِ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ وَالِدِهِ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ الرِّزْقِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَعَبْدِ الرِّقِّ.
إِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ غَافِلُونَ عَنْهُ، فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ وَصَايَا الْوَالِدَيَنِ حُجَّةٌ، عَلَى أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَعْبَثَا بِاسْتِقْلَالِ الْوَلَدِ مَا شَاءَ هَوَاهُمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ, أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ وَالِدَيْهِ وَلَا هَوَاهُمَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَالِمًا وَهُمَا جَاهِلَيْنِ بِمَصَالِحِهِ، وَبِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، وَهَذَا الْجَهْلُ الشَّائِعُ, مِمَّا يَزِيدُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ, إِغْرَاءً بِالِاسْتِبْدَادِ فِي سِيَاسَتِهِمْ لِلْأَوْلَادِ, فَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَقَامَ الْوَالِدِيَّةِ يَقْتَضِي بِذَاتِهِ, أَنْ يَكُونَ رَأْيُ الْوَلَدِ وَعَقْلُهُ وَفَهْمُهُ, دُونَ رَأْيِ وَالِدَيْهِ وَعَقْلِهِمَا وَفَهْمِهِمَا، كَمَا يَحْسَبُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمُسْتَبِدُّونَ, أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ رَعَايَاهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا وَرَأْيًا". ا.هـ
ومن صور ظُلْم وبغيِ الوالدين أو أحدِهما: القسوةُ والحدَّةُ في الْتَّعامل, واللجوءُ للضرب الْمُبرح.
ومن ذلك أيضًا: إهمالهم وعدمُ تربيتهم تربيةً صحيحةً سليمة, فبعضُ الآباء يُنجب الأبناء, ولا يرعاهم رعايةً صحيحة, ولا يتعاهدهم ويَتَّخذُ الأسباب في صلاحهم, بل يُطعمهم ممَّا لذّ وطاب, فيأكلون دون تفريقٍ بين ما ينفعهم ويضرهم, فينشئون مرضى من التخمة والموادِّ الضارةِ, في كثيرٍ من الأكلات والوجبات, وحَمْقى وفُجَّارًا, من كثرة ما يُشاهدونه ويُمارسونه من المعاصي, والأفلام والألعاب الْحديثة, التي تُضرّ بدينهم وعقولهم وأجسادهم.
أليس هذا من الظلم والبغي والعقوق؟!
ومن ذلك أيضًا: عدمُ الْمُبادرة إلى تزويجهم وعفافهم. والواجبُ على الأب والأم, أنْ يتقوا الله في أولادهم, وأنْ يتخذوا السبل الناجحةَ في تربيتهم, وأنْ يُبادروا إلى إعْفافهم وتزويجهم.
نسأل الله تعالى, أنْ يُجنّبنا المشاكل والهموم, وأنْ يُعيذنا من الظلم والجور, إنه سميعٌ قريب مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: ومن أسباب المشاكل الأسريّة: عقوقُ الوالدين, والتقصيرُ في حقّهما, وهو من أمّهات أسْباب الخلافات الأسرية, بل هو المشكلة والمعضلة.
والعاقُّ لا يُرجى خيرُه لأُسرته وأهله, فمن لم يكن به خيْرٌ لوالديه, كيفَ يكون فيه ذرُّةُ خيرٍ لغيرهما؟!
والبيت الذي فيه عاقٌّ يعيشُ أهلُه في نكد, ولا يستمتعون بطعم وحلاوةِ ترابطِ الأُسرة, ولا يهنئون بلذة العيش, فالعاقّ كدَّر عيشهم, وأفسد وحدتهم, ونغَّصَ حياتهم.
وصور العقوق كثيرة, منها التسويفُ حال أمرهم له, والتأفُّفُ والتذمّر, والقيامُ بالعمل على غير الوجه المطلوب.
فاتق الله أيّها العاقّ, وحاسب نفسك قبل أنْ يُحاسبك الجبّارُ الْمنتقم, أدخل السرور على والديك وأسعدهم, حتى تذوق السعادة في الدنيا والآخرة.
هذه بعض أسباب المشاكل الأسرية, والواجب على كلِّ أسرةٍ وفردٍ من أفرادها, أنْ يتجنبوا هذه الأسباب, حتى لا يقعوا فيما يُغضب ربهم -تبارك وتعالى-, وحتى يعيشوا مع أقاربهم بسعادةٍ وطُمأنينة, وراحةٍ وموَدَّةٍ واجْتماع.
وسأُكمل بقية الأسباب في الجمعة القادمة؛ بحول الله تعالى.