الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
أَيُّها المُسلمونَ: في وَقتِنا هذا بِحمدِ اللهِ تَقَدَّمَ الطِّبُّ تَقَدُّمًا هَائِلاً، وَصَارَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ على قَدْرٍ كَبيرٍ مِنَ المَهَارَةِ وَالدِّرَايَةِ، فَفَتَحُوا الرُّؤُوسَ والصُّدُورَ، وَشَقُّوا البُطُونَ والقُلُوبَ، وَفَصَلُوا التَّوَائِمَ وَحَقَّقُوا نجاحَاتٍ كَبِيرَةً، إلاَّ أنَّهُ وَمَعَ كُلِّ هَذَا التَّقَدُّمِ ظَلَّ أُناسٌ يَشتَكُونَ أَمرَاضًا مُزمِنَةً، وَأَعرَاضًا مُقلِقَةً، لم يَعرِفْ لها الأَطِبَّاءُ أَسبَابًا، ولم يجِدُوا لها عِلاجًا، فَكَانَ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ على نِعمٍ التي ولا تُعدُّ، وعلى إحسانٍ لا يُحدُّ، نَشهدُ أن لاَّ إله إلا الله وحده لا شريكَ له عَوَّذَ نَبِيَّهُ مِن شَرِّ النَّفَاثَاتِ في العُقَدِ، ومِن شَرِّ حَاسِدٍ إذا حَسَدَ، عَليهِ المُعتَمدُ ومِنهُ المُستَمَدُّ، هو حَسبُنا ونِعمَ الوَكيلُ، ونَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا ونَبِيَّنا مُحمَّدا عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ خَيرُ البَشَرِ.
الَّلهم صَلِّ وسَلِّم وبارِك عليهِ وعلى آلِهِ وَصحبِهِ والتَّابِعينَ لَهمِ، ومَنْ تَبِعَهُم بِإحسَانٍ في طَهَارَةِ القُلُوبِ، وسَلامَةِ الصُّدُورِ، وحُسنِ التَّوكُّلِ والمُعتَقَدِ.
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكم -يا مُسلِمونَ- وَنفْسِي بِتقوى اللهِ القائِلِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أَيُّها المُسلمونَ: في وَقتِنا هذا بِحمدِ اللهِ تَقَدَّمَ الطِّبُّ تَقَدُّمًا هَائِلاً، وَصَارَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ على قَدْرٍ كَبيرٍ مِنَ المَهَارَةِ وَالدِّرَايَةِ، فَفَتَحُوا الرُّؤُوسَ والصُّدُورَ، وَشَقُّوا البُطُونَ والقُلُوبَ، وَفَصَلُوا التَّوَائِمَ وَحَقَّقُوا نجاحَاتٍ كَبِيرَةً، إلاَّ أنَّهُ وَمَعَ كُلِّ هَذَا التَّقَدُّمِ ظَلَّ أُناسٌ يَشتَكُونَ أَمرَاضًا مُزمِنَةً، وَأَعرَاضًا مُقلِقَةً، لم يَعرِفْ لها الأَطِبَّاءُ أَسبَابًا، ولم يجِدُوا لها عِلاجًا، فَكَانَ لا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إلى الأصلينِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، لِنَتَبَيَّنَ الأسبَابَ، ولِنَتَعَرَّفَ على العِلاجِ، فقد قالَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً" [رواه البخاري].
عبادَ اللهِ: والمُعايِشُ لِحالِ كَثيرٍ من النَّاسِ يَجِدُ أنَّ عِندَ بَعضِهم مِنَ الأَوجاعِ المُضنِيَةِ، التي أَقَضَّت مَضَاجِعَهم، وَنَغَّصَتْ عِيشَتَهُم، ما يَستَوجِبُ التَّذكيرَ بِحقِيقَةِ وُقُوعِ العَينِ أَو ما يُسمَّى بِالحَسَدِ، ففي القرآنِ الكريمِ جاءَ ذِكرُهُمَا، وبالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ جاءَ ذِكرُهُمَا وعِلاجُهُما، فَيَعقُوبٌ -عليه السلام- قَالَ لأبْنَائِهِ: (يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) [يوسف:67].
قالَ الشيخُ السَّعدِيُّ: وذَلِكَ أَنَّهُ خَافَ عليهم العَينَ، لِكثرَتِهم وَبَهَاءِ مَنظَرِهِم، وَلِكَونِهم أَبنَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَفِي القُرآنِ أيضَا إِخبارٌ مِن اللهِ -تعالى- عن حَسَدِ الكَافِرينَ لِرَسُولِهِ، فقالَ: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) [القلم:51].
أيْ: يَعِينُونَكَ بِأبصَارِهِم، بِمعنى يَحسُدُونَكَ.
قال ابنُ كَثِيرٍ -رحمه الله- فِي تَفسِيرِهِ: "وفي الآيَةِ دَلِيلٌ على أنَّ العَينَ إصَابَتُها وَتَأْثِيرُها حَقٌّ بِأَمْرِ اللهِ -عز وجل-".
أمَّا السُّنَّةُ النَّبويَّةُ، فَقد أثْبَتَتِ العَينَ، وأنَّها تَقَعُ بِحَقٍّ بِأمرِ اللهِ وَقَدَرِهِ، ففي صحيح مُسلمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ أنَّهُ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا".
وفي حَدِيثٍ حَسَّنَهُ الأَلبَانِيُّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهً قَالَ: "أَكثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِن أُمَّتِي بَعدَ قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ بِالعَينِ".
وفي حَدِيثٍ عن جَابِرٍ -رضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "العَينُ حَقٌّ، لَتُورِدُ الرَّجُلَ القَبرَ، والجَمَلَ القِدرَ".
اللهُ أكبرُ -عبادَ اللهِ-: نؤمِنُ -واللهِ- بأنَّ الْعَيْنُ حَقٌّ، وأنَّها تَقَعُ بِأَمرِ اللهِ وَقَدَرِهِ، ولِذلِكَ النَّاسُ مَعَ حَقِيقَةِ العينِ طَرَفَانِ ووسطٌ، فقسمٌ: ضَعُفَ عِندَهُم التَّصدِيقُ بِها، حَيثُ لا يُصَدِّقُونَ إِلاَّ ما يُشاهِدُونَهُ، ويُحِسُّونَ بِهِ، وَمِن هُنا فلا يُقِرُّونَ لِلعَينِ بِأَثَرٍ، وَلا يَعتَرِفُونَ لها بِتَأثِيرٍ، قالَ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-: "أَبطَلَت طَائِفَةٌ مِمَّن قَلَّ نَصِيبُهم مِن السَّمعِ والعَقلِ أَمرَ العَينِ، وقَالُوا: إنِّمَا ذَلِكَ أوهَامٌ لا حَقِيقَةَ لَهَا، وهؤلاءِ مِن أجهَلِ النَّاسِ، وأَبعَدِهِم عن مَعرِفَةِ الأَرَوَاحِ، والنُّفُوسِ وصِفَاتِها وأَفعَالِها وتَأثِيرَاتِها".
وقِسمٌ آخَرُ: أَسرَفوا بِأَمْرِ العَينِ، فَطَارَدَتُهم الأَوهَامُ، وَحَاصَرَهُم القَلَقُ، وَضَعُفَ عِندَهُم اليَقِينُ، واخْتَلَّ لَديهم مِيزَانُ التَّوَكُّلِ على اللهِ -تَعَالى-، فَصَارَ الواحِدُ منهم رِعدِيدًا هَيَّابًا، حتى وَصِلَ بِهِ الحَالُ إلى كُرهِ النَّاسِ واتهامِهِم في كُلِّ مُصِيبَةٍ تَقَعُ لَهُ، هذا الصِّنفُ يا مُؤمِنُونَ: استَدَرَجَهم الشَّيطَانُ فَأمرَضَهم وَأَقعَدَهُم ومَا بِهم مِن عِلَّةٍ، ونَسُوا قولَ اللهِ -سُبحَانَهُ-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد: 22].
عبادَ اللهِ: وبينَ القِسمَينِ نَقِفُ جَمِيعاً -بِإذنِ اللهِ- مَوقِفَ الوَسَطِ المُتَّزِنِ المُعتَدِلِ، فَنُؤمِنُ بِوقُوعِ العَينِ، ونُصَدِّقُ بِتَأثِيرِها وَمَضَارِّها بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وأمرِهِ، مَعَ فِعلِ الأسبابِ الشَّرعِيَّةِ التي تَقِي، وتُحَصِّنُ مِنها، وأنْ نَستَعمِلَ الرُّقى الشَّرعيَّةَ لِلشِّفاءِ منها.
مُنطلِقينَ مِن قولِ اللهِ: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3].
وفي هذا المَقامِ، فإنَّ النُّصحَ والتَّوجيهَ واجِبٌ لِلعَائِنِينَ مِمَّن ابتُليَ بِحسَدِ النَّاسِ، فَنَقُولُ لَهُ: اتقِ اللهَ في نَفسِكَ وإخوانِكَ، ولا تَضُرَّ المُسلِمِينَ، فَتِلكَ -واللهِ- صِفَةٌ ذَمِيمَةٌ، وإيذَاءٌ لا مُبِرِّرَ لَهُ!.
فَأينَ تفِرُّ مِن قولِ اللهِ -سُبحانَهُ-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 58].
وَقَولِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ".
لِذا فإنَّ مِن أعظمِ الوَصَايَا لِلعَائِنِ خُصُوصَا: أنْ يُكثِرَ مِن ذِكرِ اللهِ -تعالى-، وإذا رأى شَيئاً يُعجِبُهُ أنْ يَقُولَ: ما شَاءَ اللهُ، تَبَارَكَ اللهُ، فَقد أمَرَنا، فَقَالَ: "إذَا رَأَى أَحَدُكُم مِنْ نَفسِهِ أو مَالِهِ أو مِن أَخِيهِ مَا يُعجِبُه فَليدْعُ لَهُ بِالبَرَكَةِ، فِإنَّ العَينَ حَقٌّ"[صَحِيحُ الجَامِعِ].
وَالنُّفُوسُ المُؤمِنَةُ لا يُفَارِقُها الذِّكرُ، وَلا تَغْفُلُ عن الدُّعاءِ: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) [الكهف: 39].
أيُّها الكِرامُ: وَمُشكِلَتُنا أنَّنا في بعضِ الأحيانِ نُحِيطُ العَائِنَ بِشَيءٍ من الهَالَةِ والإجِلالِ والمَخَافَةِ، حتى يَعتَقِدَ أنَّ بِيَدِهِ ضَرٌّ أو نَفْعٌ، فالأمْرُ أمْرُ اللهِ والقَضَاءُ والقَدَرُ بِيدِ اللهِ –سُبحانَهُ-.
نعُوذُ باللهِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، كمَا نَسألُهُ أنْ يُبطِلَ عَينَ العَائِنِ، وأنْ يَشفيَ مَرضانا ومَرضى المُسلمينَ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ العظيمِ، وأستَغفِرُ اللهَ، فاستغفِرُوهُ إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانيةُ:
الحمدُ للهِ أسبغَ علينا الدُّرَر، نَشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له يعلمُ مَن أسرَّ بالقولِ ومَن جَهَر، وَنشهَدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورَسُولُه الشَّافِعُ المُشَفَّعُ في الْمَحْشَر، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ الغُرَر، والتابعينَ ومَنْ تبعَهُم بإحسانٍ وإيمانِ إلى الْمُستَقَر.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله -عبادَ اللهِ- كَمَا أمَرَ، وصُونُوا عَقِيدتَكم عن كلِّ ثَلْمٍ وكَدَرٍ.
أيُّها المؤمنونَ: اللهُ -تَعَالَى- مَا أَنزَلَ دَاءً إلاَّ وَأنزَلَ له شِفَاءً.
فاستَمِعوا بِقُلُوبِكم إلى حادِثَةٍ عَجِيبَةٍ! وَمَوقِفٍ مَهيبٍ! تَغَيَّظَ مِنهُ رَسُولُ اللهِ وغَضِبَ، في مُسندِ الإمامِ أحمدَ -رحمه الله- وغَيرُهِ عن أبي أُمَامَةَ بنِ سَهلِ بنِ حنيفٍ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ، وَسَارُوا مَعَهُ نحوَ مَكةَ، حتى إِذَا كانوا بِشِعبِ الخَرَّارِ مِنَ الجُحفَةِ اغتَسَلَ سَهلُ بنُ حُنَيفٍ، وَكانَ رَجُلاً أَبيَضَ حَسَنَ الجِسمِ وَالجِلدِ، فَنَظَرَ إِلَيهِ عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ وهو يَغتَسِلُ، فقال: ما رَأَيتُ كَاليَومِ وَلا جِلدَ مُخَبَّأَةٍ -أي الفَتَاةُ فِي خِدْرٍ لَم تَأتِها الشَّمسُ- فَلُبِطَ سَهلٌ -أي صُرِعَ وَسَقَطَ على الأَرضِ- فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسولَ اللهِ، هل لك في سَهلٍ؟ وَاللهِ مَا يَرفَعُ رَأسَهُ وَمَا يُفِيقُ، قال: "هَل تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِن أَحَدٍ؟" قالوا: نَظَرَ إِلَيهِ عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ عَامِرًا، فَتَغَيَّظَ عَلَيهِ، وقَالَ: "عَلامَ يَقتُلُ أَحدُكُم أَخَاهُ؟!" هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ -أي قُلتَ ما شَاءَ اللهُ تَبَارَكَ اللهُ- ثُمَّ قَال: "اغتَسِلْ لَهُ" فَغَسَلَ وَجهَهُ وَيَدَيهِ وَمِرفَقَيهِ وَرُكبَتَيهِ وَأَطرَافَ رِجلَيهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ في قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ ذلكَ المَاءُ عَلَيهِ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ على رَأسِهِ وَظَهرِهِ مِن خَلفِهِ، ثُمَّ يُكفِئُ القَدَحَ وَرَاءَهُ، فَفُعِلَ بِهِ ذلك، فَرَاحَ سَهلٌ مَعَ النَّاسِ لَيسَ بِهِ بَأسٌ.
اللهُ أكبَرُ -عبادَ اللهِ-: في الحديثِ بَيَانٌ لِقُوَّةِ تَأثِيرِ العَينِ، وَبَالِغِ ضَرَرِها، حَيثُ جَعَلَتِ السَّلِيمَ سَقِيمًا فِي لَحَظَاتٍ، ثُمَّ شُفِيَ سَهْلٌ بِدُونِ أدوِيَةٍ ولا عَقَاقِيرَ طِبِيَّةٍ فِي لَحَظَاتٍ.
وَتَأَمَّلُوا كَم هي خَطِيرَةٌ تِلكُمُ العَينُ، وَذَلكُمُ الحَسَدُ، لِذا أَمَرَ نَبِيُّنا بِالتَّعَوُّذِ مِنَ العَينِ، فقال: "استَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ العَينِ، فَإِنَّ العَينَ حَقٌّ".
وفي الحدِيثِ مَا يَدُلُّ على أَنَّ أيَّ شَخصٍ يُمكِنُ أنْ يُعجِبَهُ الشَّيءُ الحَسَنُ، فَيحَسِدُ عَلَيهِ، وَقَد لا يَقوَى عَلَى دَفعِهِ وَلا رَدِّهِ، وَلِذَلِكَ لم يُعَاتِبْ -عليه الصلاة والسلام- عَامِرًا على ذلك، وإنَّمَا عَاتَبَهُ على تَركِ التَّبرِيكِ الذي كان في وُسعِهِ وَطَاقتِهِ.
وَمِن هُنَا -يا مُسلِمونَ-: أكثِروا مِن قولِ: "مَا شَاءَ اللهِ، لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ" فإِذَا فَعَلتَ ذَلِكَ لَم تَضُرَّ العَينُ مِنكَ بِأَمرِ اللهِ -تعالى-، وجانِبٌ آخَرُ: المَشرُوعُ للإنسانِ أَن يَستُرَ عن النَّاسِ مَا يَخَافُ أَنْ يحسُدُوهُمُ عليهِ، فَيَعقُوبٌ -عليه السلام- قَالَ لِبَنِيِهِ: (وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) [يوسف: 67].
ورُويَ أَنَّ عُثمَانَ -رضي الله عنه- رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا، فَقَالَ: "دَسِّمُوا نُونَتَهُ، لِئَلا تُصِيبَهُ العَينُ".
وَمَعناه: "سَوِّدُوا النُّقرَةَ التي في ذَقَنِهِ" وإنَّكَ لَتَعجَبُ مِنْ تَفَسُّخِ بَعضِ النِّسَاءِ في المُناسبَاتِ وَتَبَاهِيهِنَّ مَعَ كَثْرَةِ إصابَةِ بَناتِ جِنسِهِنَّ بالعَينِ والحَسَدِ، فَهلاَّ خَافُوا مِن العَينِ إذْ لَم يَخَافُوا مِن اللهِ -تعالى-؟! وما يَتَذَكَّرُ إلاَّ أُولوا الأَلبَابِ.
ولِسَائِلٍ أنْ يَقُولَ: وكَيفَ أتَّقِي العَينَ قَبلَ وُقُوعِهَا؟ وَبِمَ تُعَالَجُ إِذَا وَقَعَتْ؟
أَمَّا قَبلَ وُقُوعِها، فَإِنَّ خَيرَ ما يُتَّقَى بِهِ: الاستِعَاذَةُ بِاللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ. وَالمُحَافَظَةُ على الأَورَادِ صبَاحاً وَمَسَاءً، وَقِرَاءَةُ آيَةِ الكُرسِيِّ عِندَ النَّومِ، فَإِنَّكَ لَن يَزَالَ عَلَيكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ: "ومَن قَرَأَ الآيَتَينِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيلَةٍ كَفَتَاهُ" و "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَالمُعَوِّذَتَينِ، حِينَ تُصبِحُ وَحِينَ تُمسِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ تَكفِيكَ مِن كُلِّ شَيءٍ".
كُلُّ ذلِكَ ثَبَتَ عن نَبِيِّنا -صلى الله عليه وسلم-، ويُسَنُّ كذلِكَ أَنْ يُحَصِّنَ أَبنَاءَهُ ويُعَوِّذَهُم، فقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَينَ، وَيَقُولُ: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِن كُلِّ شَيطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِن كُلِّ عَينٍ لامَّةٍ".
وَأَمَّا إِذَا أَصَابَتِ العَينُ وَوَقَعَتْ، فَإِنَّ مِن عِلاجِها إِذَا عُرِفَ العَائِنُ: أَن يُؤمَرَ بِالاغتِسَالِ لِلمَعِينِ، وَيُصَبَّ عَلَيهِ المَاءُ، أو يَتَوَضَّأُ العَائِنُ، ثُمَّ يَغتَسِلُ مِنهُ المَعِينُ.
وَمِن عِلاجِ العَينِ بَعدَ وُقُوعِها: الرُّقيَةُ الشَّرعِيَّةُ بِالآيَاتِ القُرآنِيَّةِ، وَالأَدعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ كَقَولِ: "بِاسمِ اللهِ أَرقِيكَ، مِن كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نَفسٍ أَو عَينِ حَاسِدٍ اللهُ يَشفِيكَ، بِاسمِ اللهِ أَرقِيكَ".
وَمِنَ الرُّقى قَولُهُ: "اللهُمَّ أَذهِبْ عَنهُ حَرَّهَا، وَبَرْدَها وَوَصَبَهَا".
إخوة الإيمان: ومِمَّا يَنبَغِي التَّنَبُّهَ لَهُ: ألاَّ تَتَشَاءَمَ ولا تَتَطَيَّرَ، وأنْ تُحسِنَ الظَّنَّ باللهِ، وَنُقَوِّيَ جَانَبَ التَّوَكُّلِ عليهِ -تبارك وتعالى-، فَقد قالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ".
واللهُ -تَعالى- يَقولُ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3].
ثُمَّ لِنحذَرَ مِن التَّعلُّقِ بِأمرٍ غَيرِ مَشرُوعٍ، كما يَقَعُ لكَثِيرٍ مِن إخوانِنا المُسلِمينَ، من تَعلِيقِ التَّمَائِمِ والعَزَائِمِ، والأَسَاوِرِ، والرُّسومَاتِ، التي يَعتَقَدُونَ أنَّها تَقِي العَينَ، أو غيرَها، فقد قالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ".
وَقَالَ: "ِإنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ".
كَمَا نُحَذِّرُ مِن الذَّهَابِ لِلسَّحَرَةِ والدَّجَالِينَ، فَقد قالَ عليه الصلاة والسلام: "مَن أَتَى عَرَّافًا أَو كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بما يَقُولُ فَقَد كَفَرَ بما أُنزِلَ على محمدٍ".
واللهُ -تعالى- يقولُ: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101)].
ألا -عبادَ اللهِ-: فاحتَسِبُوا مَا يُقدِّرُهُ اللهُ ويَكتُبُهُ، واستَغفِرُوا ربَّكم واشكُرُوهُ على ما عافَاكُم مِمَّا ابتَلى بِهِ كثيراً من النَّاسِ: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر: 14].
فاللهم اجعلِ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قُلوبِنَا، ونورَ صدُرِناَ، وجلاءَ أحزانِنَا، وذهابَ همومِنَا.
اللهم اشرح صدورَنا بالإيمانِ، واعمرْهَا الإحسانِ، ولا تجعل فيها غِلاًّ وحَسَدَاً، يا رحيمُ يا رحمنُ.
اللهم مَتِّعنا بأسماعِنا وأبصارِنا، وعافِنا في دِينِنَا وأجسَادِنَا.
اللهم أسْلَمْنَا أنْفُسَنَا إليكَ، وَفَوَّضْنَا أُمُورَنَا إليك، لا مَلْجَا ولا مَنْجَى مِنكَ إلا إليك.
اللهم إنَّا نسأَلُكَ باسمِكَ الأعظَمْ، أنْ تُنَفِّسَ كَرْبَ المَكرُوبِينَ من المسلمين، وَهَمَّ المَهمومُينَ، وأن تَشْفِيَ مَرضَى المسلمينَ.
اللهم أنزل عليهم رحمَتَكَ وشِفَائَكَ يا ربَّ العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].