البحث

عبارات مقترحة:

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

المقتدر

كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

الأحاديث الطوال (10) في بيت النبوة (1)

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. حرص المؤمنين على معرفة أحوال النبي في بيته .
  2. تأملات في حديث اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته .
  3. أهم الدروس والعبر من هذه الحادثة. .

اقتباس

تَتَطَلَّعُ نُفُوسُ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَعَامُلِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَعَلَاقَتِهِ بِنِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-؛ لِلتَّأَسِّي بِهِ فَهُوَ الْقُدْوَةُ، وَلِمُوَاسَاةِ النَّفْسِ فِي حَالِ كَدَرِهَا بِسَبَبِ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ صَاحِبٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَاقَى مَا يُلَاقِي الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ مِنِ اخْتِصَامِ النِّسْوَةِ وَغَيْرَتِهِنَّ. وَهَذَا حَدِيثٌ طَوِيلٌ يَحْكِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَرْوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَيَقُولُ: «مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. 

?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ? [آل عمران: 102]، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء: 1]، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كِتَابُ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: تَتَطَلَّعُ نُفُوسُ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَعَامُلِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَعَلَاقَتِهِ بِنِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-؛ لِلتَّأَسِّي بِهِ فَهُوَ الْقُدْوَةُ، وَلِمُوَاسَاةِ النَّفْسِ فِي حَالِ كَدَرِهَا بِسَبَبِ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ صَاحِبٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَاقَى مَا يُلَاقِي الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ مِنِ اخْتِصَامِ النِّسْوَةِ وَغَيْرَتِهِنَّ.

وَهَذَا حَدِيثٌ طَوِيلٌ يَحْكِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَرْوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَيَقُولُ: «مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، قَالَ: فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ: مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّـهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ، قَالَ: فَلاَ تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي، فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ.

 قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللَّـهِ إِنْ كُنَّا فِي الجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ - أَيْ أَتَفَكَّرُ فِيهِ -، إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا، وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ.

 فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّـهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ، فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّـهِ، وَغَضَبَ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَزْوَاجِهِ، فَأَخَذَتْنِي وَاللَّـهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا...» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:«لمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى، وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ، فَقَالَ عُمَرُ، فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ - وَمُرَادُهَا عَلَيْكَ بِوَعْظِ ابْنَتِكَ -.

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ وَاللَّـهِ، لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُحِبُّكِ، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ.

فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَتْ: هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي المَشْرُبَةِ، فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ المَشْرُبَةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ - وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَنْحَدِرُ - فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.

ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي، فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللَّـهِ، لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنِ ارْقَهْ.

فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، - وَهُوَ الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ - قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ.

 قَالَ: «مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ» قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّـهِ، وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ!

 فَقَالَ: «يَا ابْنَ الخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟»، قُلْتُ: بَلَى.

 قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ، وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ، فَإِنَّ اللهَ مَعَكَ، وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ اللهَ بِكَلَامٍ، إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، آيَةُ التَّخْيِيرِ: ?عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ? [التحريم: 5]، ?وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ? [التحريم: 4].

 وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِنِّي دَخَلْتُ المَسْجِدَ وَالمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى، يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ، أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ، قَالَ: «نَعَمْ، إِنْ شِئْتَ».

فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا، ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، قَالَ: «إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ»، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي، لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ?وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ? [النساء: 83] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ».

والتَّخْيِيرُ هُوَ المَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ، بَدَأَ بِي، فَقَالَ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»، قَالَتْ: قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 28-29].

 قَالَتْ: فَقُلْتُ: فِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَ مَا فَعَلْتُ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

فَرَضِيَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ بِحُبِّنَا لَهُمْ فِي دَارِ النَّعِيمِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ يَظْهَرُ وَلَاءُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَحَبَّتُهُمْ لَهُ، وَالْحُزْنُ لِمَا أَصَابَهُ، حَتَّى جَمَعَهُمْ حُزْنُهُمْ لِأَجْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي المَسْجِدِ يَنْكُتُونَ الْحَصَى، قَدْ أَطْبَقَ الصَّمْتُ عَلَيْهِمْ.

وَيَظْهَرُ الْوَلَاءُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلِيًّا فِي مَوْقِفِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ أَقْسَمَ إِنْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَتْلِ حَفْصَةَ لَيَقْتُلَنَّهَا لِأَجْلِهِ وَهِيَ ابْنَتُهُ، وَفِي وُقُوفِهِ مَعَهُ لَوْ طَلَّقَ جَمِيعَ نِسَائِهِ، وَفِي نُصْحِهِ لَهُنَّ مِنْ إِغْضَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَيَظْهَرُ وَلَاءُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ فِي اخْتِيَارِ الْعَيْشِ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَظَفِهِ وَقِلَّتِهِ، عَلَى فِرَاقِهِ وَتَمَتُّعِهِنَّ بِمُتَعِ الدُّنْيَا.

وَفِيهِ حِلْمُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى نِسَائِهِ، وَصَبْرِهِ عَلَى مَا يَقَعُ بَيْنَهُنَّ؛ فَإِنَّهُ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا لِتَأْدِيبِهِنَّ، وَنَالَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُزْلَةِ مَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى وَالنَّصَبِ؛ لِأَنَّ اعْتِزَالَ الْأَهْلِ شَدِيدُ الْوَطْأَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ بِمَقْدُورِهِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِنَّ غَيْرَهُنَّ، أَوْ يَعْتَزِلَهُنَّ وَفِي عُزْلَتِهِ يَتَزَوَّجُ فَلَا يَقَعُ فِي الْعُزْلَةِ مَعَهُنَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِخَوَاطِرِهِنَّ، وَحَتَّى لَا يَزِيدَ أَلَمُ اعْتِزَالِهِ إِيَّاهُنَّ، فَتَحَمَّلَ مَا تَحَمَّلَ لِأَجْلِهِنَّ.

فَهَلْ نُحَقِّقُ المُوَالَاةَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا حَقَّقَهَا أَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَنُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ، وَنُعَادِي أَعْدَاءَهُ، وَنُحِبُّ مَا أَحَبَّ، وَنَكْرَهُ مَا كَرِهَ، وَنُطِيعُ أَمْرَهُ، وَنَجْتَنِبُ نَهْيَهُ، وَنَلْتَزِمُ دِينَهُ؟!

?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ? [آل عمران: 31-32].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...