الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم وهي تعاني فترة عصيبة من حياتها أن ترجع إلى مصدر عزتها ومنبع عزها إلى كتاب الله المبارك وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- المشرقة، وسيرته وجهاده العظيم؛ متأملة ما فيها من الدروس والعبر، فلن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أمر أولها،.. ألم يعانِ -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه من تكذيب أهل الشرك وأذاهم؟ ألم يقاسِ -صلى الله عليه وسلم- مجاهرتهم له بالعداوة وقيامهم بحربه ومقاتلته؟ ألم يفقد في هذه الحروب كثيرًا من أحبابه؟ ألم يُصب في بدنه الشريف بجراحات؟ هذا وهو أكرم الخلق على ربه وأعظمهم عنده منزلة، فلا إله إلا الله ما أعظم نوازل الحياة وما أشد مصائبها على أهل الإيمان!!..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أما بعد:
فيا عباد الله/ ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم وهي تعاني فترة عصيبة من حياتها أن ترجع إلى مصدر عزتها ومنبع عزها إلى كتاب الله المبارك وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- المشرقة، وسيرته وجهاده العظيم؛ متأملة ما فيها من الدروس والعبر، فلن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أمر أولها.
نعم فهل هناك هدي أفضل من هديه -صلى الله عليه وسلم-؟ هل من تربية أعظم من تربيته -عليه الصلاة والسلام-؟ هل يوجد جيل خير من أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم-؟
ألم يعانِ -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه من تكذيب أهل الشرك وأذاهم؟ ألم يقاسِ -صلى الله عليه وسلم- مجاهرتهم له بالعداوة وقيامهم بحربه ومقاتلته؟ ألم يفقد في هذه الحروب كثيرًا من أحبابه؟ ألم يُصب في بدنه الشريف بجراحات؟
هذا وهو أكرم الخلق على ربه وأعظمهم عنده منزلة، فلا إله إلا الله ما أعظم نوازل الحياة وما أشد مصائبها على أهل الإيمان، لكنهم يتواصون بالصبر والشكر، وهذا من أسرار عظمة هذا الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" .
وبعد هذه المقدمة، تعالوا بنا إلى غزوة من غزوات المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- لنستلهم منها شيئا، لنستلهم منها دروسًا وعبرًا، غزوة اجتمع فيها النصر والهزيمة وظهر فيها النفاق بأظهر علاماته وأجلى صفاته، كما ظهر فيها الإيمان وأثره العظيم في النفس والاستعلاء على الشهوات الدنيوية والإخلاص لله رب العالمين.
إنها الغزوة التي كانت درسًا عمليًّا للصحابة الكرام -رضي الله عنهم- وإن كان الثمن غاليًا من القتلى والجرحى، وما أصاب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيها إلا أن الدرس باقٍ على مر العصور.
إنها غزوة أُحد التي ذكرها الله في سورة آل عمران، وبيَّن ما أصاب المسلمين فيها من ابتلاء، وكيف أن الله تعالى أمدهم وقوَّى عزائمهم بعد أن أدبهم؛ ذلك أن قريش بعدما أصيبت في عظمائها وأشرافها الذين قُتلوا في غزوة بدر امتلأت قلوب القوم غيظًا وحنقًا على المسلمين، فاستعدوا مع حلفائهم، وخرجوا متجهين إلى المدينة استَعدُوا أقوامهم وخرجوا متجهين إلى المدينة النبوية.
ولما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمسير القوم استشار أصحابه في الخروج إليهم أو البقاء في المدينة، فأشار عليه الشباب ومن لم يحضر غزوة بدر بالخروج رغبةً في الجهاد وشوقًا إليه، وكان من رأيه -صلى الله عليه وسلم- ورأي الشيوخ أن يمكثوا في المدينة وأن يقاتلوا من دخلها في الطرقات ومن أسطح البيوت، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لملاقاة قريش في يوم الجمعة بعد الصلاة، وبينما هو في الطريق انسحب عبد الله بن أبي رأس المنافقين بثلث الجيش.
وكانت هذه أول فائدة من هذه الغزوة وهي تمييز المنافقين والفصل بينهم وبين المؤمنين الصادقين، قال الله جل وعز: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران:166- 167].
تعلل هذا المنافق بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خالفه وأخذ بقول غيره، فأكذبه الله –عز وجل- في كل ما ادعاه: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران:167]، وكادت هذه الخيانة من هؤلاء المنافقين أن تؤثر في بعض أهل الإيمان لولا عصمة الله لهم من ذلك (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:122].
وقاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة أشد القتال، قال علي -رضي الله عنه-: "كنا إذا اشتد بنا البأس اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وقاتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنه- قتال الأبطال، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال للرماة -وهم خمسون رجلاً أمرهم بأن يحموا ظهور المؤمنين- ألا ينزلوا من الجبل، ولكن لما رأى الرماة هزيمة المشركين قالوا: "الغنيمةَ الغنيمة"، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ قال لهم عبد الله بن جبير أميرهم: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! أي بأن تبقوا في أماكنكم.
قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، ثم انطلقوا يجمعون الغنائم، فلما رأى المشركون ذلك التفوا ثانية على المسلمين، وأحاطوا بهم وانقضوا عليهم، وأخذ الصحابة -رضي الله عنهم- يتساقطون شهداء قرب أُحد، وفقد المسلمون اتصالهم بنبينا -صلى الله عليه وسلم- وأُشيع بينهم أنه قُتل وأسقط في أيدي المسلمين كما قال الله: (فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ) وطاشت الأحلام وذهل المسلمون عن أنفسهم، فمنهم من ولى هاربا، ثم رجع على استحياء وفي هؤلاء نزل قول الله جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155].
ومنهم من انطلق صاعدًا فوق الجبل وألقى سلاحه من هول الفاجعة لما سمع بقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقد ثبت مع جماعة من أصحابه يقول: "إليَّ أيها الناس أنا رسول الله" ومر أنس بن النضر على قوم ممن أذهلتهم الشائعة، وقد ألقوا بأسلحتهم قال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال : "إن كان قد قُتل فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه".
وفي هذه الأثناء كُسرت رباعية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجُرحت شفته السفلى وشُج في وجهه الشريف وجُرحت وجنته الشريفة، ودخلت حلقتان من المغفر فيها، ووقع -صلى الله عليه وسلم- في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق، وكان أول من عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد شائعة قتله كعب بن مالك فإنه رأى عينيه تزهران (تضيئان) من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن اصمت، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وأُخرج من الحفرة وجعل أبو عبيدة بن الجراح يحاول إخراج حلقتي المغفر من وجهه الكريم -صلى الله عليه وسلم- وكره أن يتناولهما بيده لئلا يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعض على إحدى الحلقتين بفمه فاستخرجها وسقطت ثنيته -رضي الله عنه- معها، ثم عض على الأخرى فاستخرجها فوقعت ثنيته الأخرى، فكان من أحسن الناس هتمًا، رضي الله عنه.
وكانت فاطمة تغسل جرحه -صلى الله عليه وسلم- وعليّ يسكب الماء، فلما رأت أن الماء لا يزيد الدماء إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم كما جاء في صحيح البخاري.
وقاتل جبريل وميكائيل -عليهما السلام- دفاعًا عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين، ورغم ما نزل بالمسلمين من جراحات، وما لحق بالرسول -صلى الله عليه وسلم- من أذى فإنه كما سبق شج وجهه وكسرت رباعيته وجرحت وجنته وشفته السفلى من باطنها ووهى منكبه من ضربة ابن قمئة، وجحشت ركبته وأصيب بقتل عمه حمزة وجماعة من أصحابه إلا أن القتال استمر وانسحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن لحقه من المسلمين نحو شعاب أحد، وتمكنوا من صد المشركين ونصرهم الله -عز وجل- وقد كان المسلمون قد اغتموا لما أصاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما أصابهم فأنزل الله عليهم النعاس فناموا يسيرا، ثم أفاقوا وقد زال عنهم الخوف والحزن وامتلأت قلوبهم من الطمأنينة: (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران:154].
وهذه الطائفة أنفسهم هم المنافقون الذين لم يفكروا بمصاب المسلمين ومصير الإسلام حد قال قائل منهم: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا) فرد الله عليهم (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:154].
أما المشركون فيأسوا من إنهاء المعركة بنصر حاسم وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين وصبرهم، فكفوا عن مطاردة المسلمين في شعاب أحد، لكن أبا سفيان تقدم وخاطب المسلمين أفي القوم محمد؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم ابن أبي قُحافةَ؟، فقال: "لا تجيبوه" قال: أفي القوم ابن الخطاب؟، فقال: إن هؤلاء قُتِلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبتَ يا عدوَّ الله، أبْقَى الله لك ما يُحزنك، قال أبو سفيان: اُعْلُ هُبَل؟، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- "أجيبوهُ" قالوا: ما نقول؟، قال: قولوا: "الله أعلى وأجَلُّ" قال أبو سفيان: لنا العُزَّى، ولا عُزّى لكم، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أجيبوه" قالوا: ما نقول؟، قال: قولوا: "الله مولانا ولا مولَى لكم".
وما أن غادرت قريش مكان المعركة حتى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بدفن الشهداء ودموعه تزرف، وكانوا سبعين شهيدا، وقال "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" أمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا فقال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "والذي نفسي بيدِهِ، لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيلِ اللهِ، واللهُ أعلمُ بمن يُكْلَمُ في سبيلِهِ، إلا جاء يومَ القيامةِ، واللونُ لونُ الدمِ، والريحُ ريحُ المسكِ".
وظل ذكرى شهداء أُحد عميقًا في نفس الوفي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا ذُكِرَ أصحابُ أحدٍ أما "واللهِ لوَدِدت أني غُودِرت مع أصحابي بنحصِ الجبلِ يعني سفحَ الجبلِ"،
ونزل في شهداء أحد: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:169].
ونزل من القرآن ما يخفف جراحات المسلمين ليزيل عنهم أثار الإصابة (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:139- 141].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار مقدر الأقدار يكور الليل على النهار تذكرة لأولي القلوب والأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الكبير له الحكم والتقدير وله الملك والتدبير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الذين نصروا دين الله وجاهدوا في سبيل الله أولئك هم المفلحون.
أما بعد
فلقد كان المسلمون في المدينة يواجهون الشامتين والمنافقين المرجفين، ومن حول المدينة من الأعراب الذين ما زالوا على شركهم ويتطلعون إلى ثمار المدينة وخيراتها، وكان ثمة احتمال أن تندم قريش فترجع مرة أخرى لمهاجمة، فكان لا بد من سرعة التحرك لاستعادة مكانة المسلمين، ومن هنا أمر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- الجيش الذي حضر غزوة أحد أن يحضر لمطاردة قريش إلى مكان يسمى حمراء الأسد قرب المدينة، فبادروا -رضي الله عنهم- مسرعين على ما بهم من الجراح ولم يأذن لسواهم بالخروج.
وقد أثنى الله جل جلاله وتقدست أسمائه على مبادرته للخروج فقال: (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:172].
فقاموا في حمراء الأسد ثلاثة ثم راجعوا فسمع بهم الأعداء فهابوهم.
أيها المسلمون: إن الوقوف مع جميع الدروس والعبر من هذه الغزوة العظيمة وأحداثها قد لا يسمح به مقام كهذا غير أنه لا بد لي من الإشارة إلى اليسير من ذلك، وقد جاءت الآيات المباركات من آيات آل عمران مشيرة إلى أصولها وأمهاتها من قول الله -عز وجل- (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران:121]، إلى تمام ستين آية من هذه السورة.
ومن هذه الدروس: تعريف المسلمين بسوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم المعصية، فلقد خالف معظم الرماة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما أوصاهم به بألا يبرحوا مكانهم سواء انتصروا أم انهزموا، وكذلك إيثار بعضهم للغنيمة على الجهاد وعرض الدنيا على ثواب الآخرة، فسارعوا يجمعون الغنائم (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ –أي النصر- مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:152].
فلما ذاقوا عاقبة مخالفة أمر الرسول لم يعودوا إلى شيء من ذلك، ولم يقع مثل هذه النكبة، فإذا كانت هذه معاقبة خير القرون على مخالفة واحدة فما الظن بمن يخالف أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليل مرارا؟!
وإذا كان جيل الصحابة الأطهار يقول الله لهم: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:165]، فماذا عسى أن يقال في عصرنا ممن مخالفاتهم بالعشرات بل بالمئات؟! نسأل الله العفو والثبات.
إن العقوبة - يا عباد الله- على الذنب قد لا تكون حسية، بل قد تكون داهية عظمى تكون زيغا في القلب وطمسا عليه، ومسارعة في الفواحش والظلم والآثام والكفر والطغيان (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:176].
ومن فوائد هذه الغزوة تمييز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، ومنها أن الله جل جلاله يستخرج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، فإن الله -جل وعلا- لو نصر عباده دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء فهو سبحانه المدبر لعباده بحكمته.
ومنها أن الله -سبحانه- هيّأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم فقيّض لهم الأسباب التي توصلهم إليها، فحق على كل مبتلى وكل مصاب ومحزون أن يتأسى بنبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- وبأصحابه وما أصابهم وأن ينتظر الفرج من الله –عز وجل- وألا ييأس من روح الله وإعانته.
نسأل الله الكريم أن يذل أعداء الدين وأن يعز الإسلام والمسلمين وأن يجعل لكل مسلم ومسلمة من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن بلاء عافية ومن كل مرض شفاء إن ربي لسميع الدعاء.
اللهم أذل النفاق والمنافقين في كل مكان..