العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | سعد الدريهم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - الأديان والفرق |
التطرف والغلو فكر، والفكر يسري في الناس ما لم يواجه بفكر مضاد يوقفه على قصوره ومكامن الخلل فيه عند ذلك يتقاصر الباطل ويتلاشى، وخير مثال على ذلك أن الخوارج الأول جاءهم ابن عباس -رضي الله عنهما-، وكانوا أربعة آلاف، فناقشهم فرجع نصفهم. فعلينا بالعلم فبالعلم بعد توفيق الله ينجو الإنسان، وما هلك من هلك إلا من قصور علمه، كما أن دخول الإنسان في متاهات الأمور مظنة الانحراف والميل حتى وإن كنت على جانب من العلم، ومن سأل الله الثبات على الحق بصدق بلغه الله ذلك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا نضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة في الله، اتقوا الله تعالى، واشكروه؛ إن كنتم إياه تعبدون.
مر رجل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم الغنائم، فقال: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا لم أعدل أنا فمن يعدل؟!"
حقاً أيها الأحبة في الله، إذا لم يعدل محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن يعدل؟ ومن يقوم بميزان العدل؟! لا أحد والله يقوم بذلك! إنه لا أعدل في البشر من محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى ذلك يجب أن يطمئن قلب العبد المؤمن الصالح، ومن لم يطمئن قلبه بذلك فعليه أن يراجع إيمانه وإسلامه.
فمحمد -صلى الله عليه وسلم- خيرة الله من خلقه، ووصفه ربه بالخلق العظيم، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظِيْمٍ) [القلم: 4]، ومن مستلزمات ذلك الخلق العظيم العدل والإنصاف، فَنَفْيُ العدل عن محمد -صلى الله عليه وسلم- تكذيب لله في قيله، ومن كذَّب الله كفر.
أرأيتم أيها الأحبة إلى هذا الخطل، وهذا الميل العريض في المنطق؟! رجل من العامة يقول لنبيٍّ مسدَّدٍ من السماء: اعدل يا محمد! ما هذا الجفاء؟ وأي صفاقة انتظمها ذاك الخطابُ من ذلك السفيه؟!
لقد نادى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- باسمه المجرد "يا محمد"، وقد نهينا عن ذلك من ربنا، حيث قال: (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُوْلِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور: 63]، وجاء بكلامه في صيغة الأمر "اعدل"، والأمر في صيغته مشعرٌ بالاستعلاء ورؤية النفس تجاه المأمور؛ إنه خطاب وربي جمع الشر، وجاء بالباطل في صورة الحق، وما من مرادٍ وراء ذلك إلا الحط من صاحب الرسالة-صلى الله عليه وسلم-..
لكن سيزول منك العَجَب عندما تدرك أن ذلك الرجل المفتات على النبي -صلى الله عليه وسلم- يُدْعَى بذي الخويصـرة التميمي. وعندما طلب الفاروق عمر -رضي الله عنه- من النبي أن يضرب عنقه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".
ولم تمضِ الأيام حتى كان ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد اتعد أصحاب هذا وأبناؤه على الخروج على جماعة المسلمين، وكان ذلك زمن علي -رضي الله عنه-، فقتلوا الناس نحراً، وأظهروا في الأرض الفساد وكان من جملة من قتلوا عبدالله بن خباب -رضي الله عنه- حيث نحروه وقتلوا زوجته وكانت حاملاً وبقروا بطنها.
وعندما استشرى شرهم أرسل إليهم عليٌّ -رضي الله عنه- رسولاً ناصحاً وموجهاً؛ فقتلوا الرسول إمعاناً في البغي ولإفساد، فجرد لهم جيشاً فقتلهم حتى هزمهم، وقال الناس بعد ذلك: الحمد لله الذي قطع دابرهم، فقال علي -رضي الله عنه- وانتبهوا لما قال -رضي الله عنه-: "كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء".
ومقصد علي -رضي الله عنه- أن الذي حمل هؤلاء على فعلتهم فكر؛ وهذا الفكر يخرج بين فترة وأخرى ويتقمصه رجال ونساء، وقد أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه كلما خرج منهم قرن قطع وإن آخرهم سيخرج مع الدجال.
وهؤلاء الغلاة أيها الجمع الكريم، لو تأملنا قوم استنطقوا النصوص من كتاب وسنة من خلال جهلهم المركب وقواعدهم الخاطئة؛ فأحلوا وحرموا وراحوا يعملوا جهلهم في الناس؛ فأتلفوا الدماء والأموال، وأشاعوا الخراب والدمار، وعجت الأرض من ظلمهم، وهم يرون في فعلهم القرب من الله والديانة، وفيهم والله يصدق قول الحق سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِئُكُمْ بِالأَخْسَرِيْنَ أَعْمَالاً الَّذِيْنَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف: 103- 104].
وإنك لو تلفت لوجدت من آثار ذلك الفكر الغالي أمثلة كثيرة، والدواعش مثال ناطق بذلك، وعندما تقرأ في بدايات النشأة من هؤلاء الخوارج تجد أنهم نزع من البيوت والعوائل والقبائل، وكلها بيئات طابعها الاعتدال والاتزان.
وعندما همّوا بالخروج منعوا من قبل الأهل والقرابة، فمنهم من فر ومنهم من حجز وربما لحق بهم بعد ذلك، وهكذا الحال هنا فالدولة تمنع وكذلك الأهل، لكن ثمة من يتسلل ليلحق بذلك الفكر الخارجي النخر، وقد صليت بلاد الشام والعراق ومن قبلُ بلادنا بشرهم؛ فانظر للدماء التي بسببهم جرت أنهاراً، وانظر لتلك الرؤوس وتلك الأشلاء التي لم يراعوا حرمتها، فالدماء عندهم رخيصة، وقتل مسلم وادع أمر هين، وهذا من قلة الفقه والدين، وإلا لو وعوا لأدركوا أن دم المسلم أعظم حرمة عند الله من الكعبة، لكنه الجهل والهوى، نسأل الله العافية..
وعندما تنعم النظر في الأحداث الجارية تجد أن هذا الفكر العفن لا هم له إلا إشغالُ المسلمين وتفريقُ جمعهم والوضعُ فيهم قتلاً وفي بلادهم تخريباً، فهم كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم: يقتلون أهل الإسلام ويتركون عباد الأوثان؛ لذا تجدهم في العراق والشام يستهدفون المجاهدين من أهل السنة بينما الروافض والنصيرية والنصارى واليهود وسائر الديانات بمأمن منهم ومن مكرم وإفسادهم، وهذا أمر يتواصون به، فلقد كان أسلافهم يتورعون عن أكل تمرة سقطت، وعندما جرح أحدهم خنزيراً لأحد النصارى ذهبوا لاستحلاله وقاموا بتعويضه عن ذلك! بينما سيوفهم تعمل في أهل الملة، فيا له من ورع سامج!! نسأل الله أن يريح المسلمين من شرهم، فقد استفحل والله وعظم. إنه قوي عزيز..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، ونشكره على توفيقه وامتنانه، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً.
أما بعدُ:
فيا أيها الأحبة في الله، التطرف والغلو فكر، والفكر يسري في الناس ما لم يواجه بفكر مضاد يوقفه على قصوره ومكامن الخلل فيه عند ذلك يتقاصر الباطل ويتلاشى، وخير مثال على ذلك أن الخوارج الأول جاءهم ابن عباس رضي الله عنهما، وكانوا أربعة آلاف، فناقشهم فرجع نصفهم.
فعلينا أيها الأحبة، بالعلم فبالعلم بعد توفيق الله ينجو الإنسان، وما هلك من هلك إلا من قصور علمه، كما أن دخول الإنسان في متاهات الأمور مظنة الانحراف والميل حتى وإن كنت على جانب من العلم، ومن سأل الله الثبات على الحق بصدق بلغه الله ذلك.
أيها الأحبة في الله: إن بوادر هذا الفكر الجافي الغالي الخارجي تبدو في فلتات ألسنة من حولنا من الأبناء والبنات؛ فإذا رأيت ذلك فتعاهده بالتوجيه والحجة البالغة، وإذا لم تكن ذا حجة فعليك بالاستعانة بمن له مراس في ذلك، فاجتثاث هذا الأمر في بواكيره أسهل منه بعد تمكنه، وإياك أن تغذيه من خلال سب الحكام والحكومات والأمر بالخروج عليهم؛ لأن من حولك ربما يبنون عليه نتائج أخرى من تكفير واستحلال للدماء والأموال، وهذا هو مبدأ الأمور لو عقلنا.
وهنا أيها الأحبة، عزيمة على أهل العلم بالتوجه لنقد هذه الأفكار وبيان خللها، وأنها معاول لهدم الإسلام والإساءة له، وإذا لم ينفع ذلك فعلى الدول أن تقمع هذا الفكر وتستأصله، وقد أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بذلك وأخبر أنه لو أدركهم أي هؤلاء الخوارج لقتلهم قتل عاد وإرم؛ وإن قتلهم لأجر لمن قتلهم إلى قيام الساعة.
اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم أن تأخذ بيد هذه الأمة لكل خير وأن تجنبها مكامن الخلل والهلاك، اللهم عليك بمن رام تفريق شملنا اللهم شتت شمله واخزه يا قوي يا عزيز، اللهم إن قوى الشر في هذا العالم تحيك المكر لهذه الأمة، اللهم أبرم لهذه الأمة سبل الخلاص من هذا المكر والشر، اللهم احفظ لنا وحدتنا، اللهم أدم علينا أمننا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
عباد الله، اعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وأنسه، فقال عز من قائل حكيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين …، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، والباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، اللهم وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
عباد الله، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.