الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
أولادنا أمانة في أعناقنا، فلا يكن همنا فيهم حصولهم على دنيا فانية، ومنافع زائلة، ومناصب متحولة، وكراس مدورة، وتركهم بلا تربية إسلامية وتوجيه رشيد؛ لأن هذه الأمور ستصبح وبالاً عليهم، بل ليكن همنا -مع هذه الأمور- إصلاحهم قولا وفعلا وعقيدة؛ حتى يستفيدوا من حياتهم في الخير، ونشره، والدعوة إليه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق الكريم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه وتوبوا إليه جميعاً أيها المؤمنون؛ لعلكم تفلحون، واشكروه -سبحانه- على نعمة الإسلام، واسألوه الهداية إليه والثبات عليها إلى يوم الدين.
عباد الله: جعل الله -سبحانه وتعالى- البنين من زينة الحياة الدنيا، فقال -سبحانه-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46].
وذكر -سبحانه وتعالى- أن البنين مما زين للناس حبه والتعلق به، فقال -جل وعلا- (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) [آل عمران:14].
فلا جرم أن تتعلق النفوس بهم، وتشتاق لرؤيتهم، وتتعب لراحتهم، وتشقى لإسعادهم، وتنفق لحياتهم، وتجزع لمصابهم، وتسر لسرورهم، وتحزن لحزنهم:
وإنما أولادنا بيننا | أكبادنا تمشي على الأرض |
لو هبت الريح على بعضهم | لامتنعت عيني من الغمض |
بل إن الوالد لا تسعه الدنيا إذا وفق ولده في زواج أو في دراسة أو في تجارة أو في أي مجال من مجالات الحياة المتعددة، حتى ولو فاقه ولده وسبقه في علم أو منصب أو جاه، بل يرى أن تفوق ولده أو نجاحه في حياته تفوّق له، ونجاح له:
وكم أب قد علا بابن ذرا شرف | كما علا برسول الله عدنان |
وما ذاك إلا غرس في القلوب من محبة الأولاد والفرح بهم؛ ولهذا ابتلي أبو الحنفاء خليل الرحمن إبراهيم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- بذبح ابنه إسماعيل؛ لما في هذا الابتلاء من المشقة والألم، ولكن إبراهيم -عليه السلام- نجح في هذا الابتلاء، وقدم مرضاة الله وطاعته على محبة الأبناء والتعلق بهم، وآثر طاعة الله على هوى النفس وطاعة الشيطان، فاستحق مرتبة الخلة التي هي أعلى المحبة.
وإذا أردتم -عباد الله- معرفة محبة الآباء لأولادهم فانظروا إلى حالنا مع أبنائنا عند قرب الاختبارات المدرسية، فبيوتنا يحصل فيها استنفار وحركة دؤوبة لا تعهد في غير هذا الوقت الذي يسبق الاختبارات، حتى ... [إنه يعطل مسؤولياته و] يقطع زياراته، ويؤجل أسفاره، ويمضي جل وقته في بيته؛ حرصاً منه على أبنائه في هذه الفترة العصيبة التي تسبق الاختبارات، وليطلع عن كثب على سيرهم في مراجعة موادهم، ويحصل منه لهم توجيه وإرشاد، ويحفز هممهم ويقوى من عزائمهم، ويعدهم ويمنيهم؛ بل ويكون له اتصال بالمدرسة والمدرسين على غير عادته وعلى خلاف طبعه، كل ذلك من أجل أن يتفوق أولاده في اختباراتهم، ويظفروا بالدرجات العالية.
ولا شك أن هذا مطلب كل والد، وغاية من أجلّ غاياته، وأمنية يحلم بها، لا يسره أن يرى ولده خائباً خاسراً متأخراً عن أقرانه، عرضة للّمز والهمز، هدفاً للنظرة الساخرة، ولا يحب أن يكون هو السبب في تأخر ولده وخسارته بإهماله وترك متابعته وتوجيهه.
وهذا -عباد الله- نوع من أنواع الرعاية الملقاة على عاتق الوالد نحو أولاده، أن ينشّئ الوالد ذرية متعلمة واعية تقوم -بإذن الله- بإدارة شؤون الحياة التي يكلفها بها ولي الأمر ويأتمنها عليها، وهذا ديدن كل الشعوب والأمم، لا ترضى أن تكون متخلفة في مجالات الحياة عن غيرها، وتجدون أن القوى الكافرة الكبرى تحب فرض سيطرتها على الشعوب الضعيفة والبلاد المستهلكة، وتسعى إلى أن تكون هي المتبوعة لا التابعة، هي الآمرة لا المأمورة.
وتركز في ذلك على المسلمين وبلادهم؛ لعلمهم ويقينهم بأن الإسلام هو عدوهم الأول، وأن المسلمين هم عدوهم الأكبر، فمتى ما نشأ أولاد المسلمين على قدر كبير من العلم والمعرفة والإدراك، وتعلقوا بدينهم، وتمسكوا به، فلن يقدروا عليهم، ولن يهنأ لهم مقام بينهم.
من أجل هذا -عباد الله- كان على المسلمين مسؤولية كبيرة تجاه أولادهم بالسعي في إصلاحهم وتقويمهم وتربيتهم على الدين القويم، والخلق الكريم قبل كل شيء:
حرِّضْ بنيك على الآداب في الصغر | كيما تقر بهم عيناك في الكبر |
حتى إذا ما تعلم الولد وأدرك وتولى عملا من أعمال المسلمين أداره بقوة وأمانة، وسار فيه على هدي نبيه، عليه الصلاة والسلام.
وإن الواقع -عباد الله- يشهد بأن الولد الصالح الذي يحمل العقيدة الصافية عقيدة التوحيد متفوق في دراسته، صالح في إدارته، سديد في آرائه، حريص على أمته ومجتمعه، أمين على العمل الذي قلده إياه ولي الأمر، نابذ كل فكر دخيل وعقيدة ضالة، هدفه صلاح مجتمعه واستقامته، ليس هدفه منصباً يتولاه، أو مالا يتقاضاه، أو غرضاً من أغراض الدنيا يحصله ويحوزه.
نعم -عباد الله-، ليكن هدف كل والد وغاية كل مرب تربية جيل صالح يخدم أمته وينفعها، ويعرف مصلحته وهدفه، دنيا وآخرة؛ لأن الولد قد يكون وبالا على أمته وعلى والديه إذا ربي على حب الدنيا وجعلها غاية له وهدفاً له، ونشأ عاريا من كل خلق كريم، وسلوك قويم، وعقيدة صحيحة ثابتة، أو أُهمل وترك فريسة للشياطين من الإنس يغوونه ويضلونه ويحشون فكره بآراء هدامة وأفكار ضالة، ويهيئونه لأن يكون داعية إلى الضلال، ومرشداً إلى الغواية...
فيا عباد الله: أولادنا أمانة في أعناقنا، فلا يكن همنا فيهم حصولهم على دنيا فانية، ومنافع زائلة، ومناصب متحولة، وكراس مدورة، وتركهم بلا تربية إسلامية وتوجيه رشيد؛ لأن هذه الأمور ستصبح وبالاً عليهم، بل ليكن همنا -مع هذه الأمور- إصلاحهم قولا وفعلا وعقيدة؛ حتى يستفيدوا من حياتهم في الخير، ونشره، والدعوة إليه.
عباد الله: يعاب على بعضنا حصر اهتمامه بأولاده ومتابعتهم عند قرب الاختبارات، فيضغط عليهم، ويطلب منهم أن يتفوقوا بدرجات عالية، وربما صاحب ذلك تهديد لهم ووعيد إذا ما أخفقوا في اختباراتهم، فيعود هذا بالأثر النفسي السيئ على الأولاد، يصاحبهم وهم جلوس على مقاعد الاختبارات، مع أنه قبل ذلك مهمل لهم، غير متابع لدراستهم وتحصيلهم، لا يسأل عنهم المدرس ولا مدير المدرسة، لا يراه أولاده إلا نزراً قليلاً من الوقت، لم ير منه أولاده قبل ذلك توجيها وإرشادا ومتابعة؛ بل هو غارق في مهماته ومسؤولياته، أو في تجارته وبيعه وشرائه، أو في سهراته وسفراته، ثم يأتي ويطلب منهم أن يتقدموا على غيرهم في الدرجات! فهذا أسلوب خاطئ لا ينبغي فعله.
فمن تمام الأمر أن يكون الوالد جامعاً بين عمله الشخصي وبين رعايته لأولاده من أول عتبة لهم في السنة الدراسة إلى نهايتها، مع الحرص على التربية على الخلق والدين وعقيدة التوحيد، وحمايتهم من الشرور والفتن؛ حتى تقر عينه بإذن الله بصلاحهم ونجاحهم، وفوزهم في الدنيا والآخرة.
اللهم وفق أولادنا في اختباراتهم، ويسرها عليهم، واجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.