الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وكلما بعد القلب عن الله كانت الآفات إليه أسرع، والبعد عن الله -عزَّ وجلَّ- مراتب متفاوتة، فالغفلة تبعد العبد عن الله, وبُعد المعصية أعظم من بعد الغفلة, وبُعد البدعة أعظم من بعد المعصية, وبُعد الشرك والنفاق أعظم من ذلك كله، والمعاصي تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف والعزة، وتكسوه أسماء الذل والذم والصغار...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي القدير السميع البصير الذي أحاط بكل شيء علما وهو اللطيف الخبير, علم ما كان وما يكون, وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الإخوة: اتقوا الله حق تقاته، واحذروا وساوس النفوس وشرورها.
عباد الله: النفس البشرية عالم غريب، وسر عجيب، حيث تتفاوت النفوس تفاوتاً عجيباً وتختلف اختلافاً كبيراً، منها ما هو في الثرى، ومنها ما هو في الثريا، فهناك نفوس زاكية مطمئنة، بينما هناك نفوس أمارة مضمحلة، ولله در ابن القيم حيث قال: "سبحان الله، في النفس: كِبْر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل.
وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجُعْل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفارة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، غير أن الرياضة والمجاهدة تُذْهب ذلك، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند ولا تصلح سلعته لعقد لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم".
عباد الله: ولعظمة النفس البشرية أقسم الله على عظمة خالقها وأهمية الحرص على تطهيرها، أحد عشر قسماً متوالية في كتابه فقال -سبحانه-: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 1- 10] أي قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل، وقد خاب من دساها أي خذل نفسه وأبعدها عن الهدى حتى ركب المعاصي، وترك طاعة الله -عز وجل-.
وهذه الطهارة منها ما مخالفته خروج من الملة كالشرك بالله، ومنها ما مخالفته تنقص في الإيمان كالمعاصي وسيء الأخلاق. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الإخوة: لا شك أن الناس متفاوتون أعظم تفاوت في إرادتهم وشهواتهم، وفي أعمالهم ومقاصدهم, وفي ثوابهم وعقابهم، وذلك بحسب علمهم وجهلهم، وبحسب إيمانهم وكفرهم، وقبل كل ذلك بحسب طبيعة نفوسهم. ولو شاء الله لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الحق والهدى، فإن مشيئته مطلقة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكن حكمته -سبحانه- اقتضت أن خلقه لا يزالون مختلفين، متبعين للسبل الموصلة إما إلى الجنة لذوي النفوس الطيبة، أو إلى النار لأصحاب النفس الخبيثة، كل يرى الحق فيما يقوله ويفعله، والضلال في قول غيره إلا من رحم الله.
عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- خلق البشر كلهم، وجعل منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة؛ ليتبين للعباد عدل الله وحكمته, وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر, وليقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 118 ،119]، فالناس في معرفة الحق، وفي قبوله ورده متفاوتون، وفي الطاعات والمعاصي التي يفعلونها بإرادتهم مختلفون.
أيها الإخوة: إن من النفوس نفوسًا خُلقت كدرة، ضيقة، لا تحب الخير للناس، تقف موقف الجهال الذين لا فرق بينهم وبين الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، فهؤلاء نفوسهم حيوانية، لم ترتقِ إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة, فهؤلاء حالهم أخس من أن تُذكر، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها. فهم أصحاب النفوس الخبيثة من نفسه كلبية يشابه الكلب في جشعه وطمعه، لو صادف جيفة تُشبع ألف كلب لوقع عليها، ونبح كل مخلوق يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة، همه شبع بطنه من أي طعام حصل له طيب أو خبيث، حلال أو حرام، (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12].
ومنهم من نفسه حمارية لم تُخلَق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان، وأقله بصيرة. ومنهم من نفسه سَبُعية، همّه العدوان على الناس، وقهرهم بما وصلت إليه قدرته. ومنهم من نفسه فأرية، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره. ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه، فيُدخل الرجل القبر، ويدخل الجمل القدر.
فهذه النفوس الخبيثة سواء رأت أو علمت إذا تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب، وصادفت المعين على غرة وغفلة لدغته كالحية وأهلكته، نعوذ بالله من شرها: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق: 4 ، 5].
ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قَمَّه، وهكذا كثيراً من الناس يسمع ويرى المحاسن من أخيه فلا ينشرها، ويرى المساوئ فيجعلها فاكهته.
ومن الناس من هو على طبيعة الطاووس، ليس له هم إلا التطوس والتزين بالريش لا غير، أما زينة قلبه بالإيمان، وجوارحه بالأعمال، ولسانه بذكر الله فهو غافل عنه، غره الشيطان فتزين للمخلوق، ولم يتزين لخالقه.
ومنهم من هو على طبيعة الذرة، أجمع الخلق مالاً، وأقلهم أعمالاً. ومنهم من هو على طبيعة الجمل، أحقد الحيوان، وأغلظه كيداً. ومنهم من هو على طبيعة الدب، أبكم خبيث. ومنهم من هو على طبيعة القرد، يفسد كل ما تصل إليه يده.
ومنهم من هو على طبيعة الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً، وأكرمها طبعاً. ومنهم من هو على طبيعة الديك، يؤذن بالخير في كل مكان، ويؤثر غيره بما تحبه نفسه. ومنهم من هو على طبيعة الثعلب، يروغ في معاملاته كما يروغ الثعلب.
ومنهم من هو على طبيعة الغنم، حيث السكينة والتواضع. ومنهم من هو على طبيعة البقر، مهتم بنفسه، غافل عن غيره، وعن مصيره. وهكذا.. وكل من ألف ضرباً من هذه الحيوانات، اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى وأظهر.
أيها الأحبة: والناس صنفان: صنف انتصر على نفسه وقهرها وغلبها، وفطمها عن المعصية، وألجمها بلجام التقوى، وجعلها مطية إلى كل خير وطاعة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هذا الصنف الكريم، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10].
صنف أفلح في تزكية نفسه، زكاها بالطاعة وبالبعد عن المعصية والشهوات والشبهات، زكاها عن كل ما يغضب الله -عز وجل-. وصنف قهرته نفسه، وغلبته نفسه، وجعلته مطية إلى كل هوى وشهوة ومعصية وذنب، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 41].
فالنفس أمارة بالسوء، قال الله تعالى في حق هذه النفس حكاية عن امرأة العزيز: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف:53]. هذه النفس الأمارة تستوجب من المسلم التقي الذكي أن يكون منتبهاً مستيقظاً فطناً، فقد تزين لك المعصية والتسويف في آن، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً من هذه النفس الأمارة، وأن ينتبه إليها، وأن يقف معها لا أقول في كل ليلة، بل مع كل كلمة وعمل، بل قبل القول، وبعد القول، وقبل العمل، وبعد العمل؛ ليحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه في التجارة، وإلا لهلك الإنسان من حيث لا يدري ولن ينتبه إلا وهو في عسكر الموتى بين الأموات.
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم الزاهد العابد العالم: "يا أبا حازم! ما لنا نحب الدنيا ونكره الموت؟" فقال أبو حازم : "لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، وأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب". فقال سليمان : "يا أبا حازم ! فما لنا عند الله -جل وعلا-؟ فقال أبو حازم : "اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم أين مكانتك عند الله -جل وعلا-"، فقال: "وأين أجد ذلك؟" فقال أبو حازم : "في قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)" [الانفطار: 13-14] فقال سليمان : "فأين رحمة الله يا أبا حازم"؟! فقال أبو حازم : "(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)" [الأعراف:56] فقال سليمان: "فكيف القدوم على الله غداً؟" فقال أبو حازم: "أما المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالآبق يرجع إلى سيده ومولاه".
أيها الإخوة: وآفات النفوس كثيرة جداً، وكل داء له دواء، وعلاج آفات النفوس وأمراضها وأسقامها إلى الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله بالعلم الإلهي والوحي الرباني الذي فيه شفاء من كل داء من أدواء النفوس.
ومن أهم الآفات التي تصيب النفوس: آفة الكفر, وآفة الشرك, وآفة الجهل, آفة الكبر, وآفة الابتداع, وآفة البغي, وآفة الجفاء, وآفة البخل, وآفة الشح, وآفة الطمع, وآفة الجبن, وآفة الجزع, وآفة الجحود, وآفة الإسراف, وآفة النفاق, وآفة الخداع, وآفة الخيانة, وآفة الطغيان, وآفة العجلة, وآفة الغش, وآفة الغدر, وآفة الغل, وآفة القسوة, وآفة القنوط, وآفة الفسوق, وآفة المكر, وآفة الكيد, وآفة المن, وآفة الغيبة, وآفة النميمة, وآفة الظلم, وآفة الكذب,, وغير ذلك من الصفات والآفات التي تصيب النفوس. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الأحبة: ومن رحمة الله -سبحانه- بعباده أنه فطر الناس على التوحيد والإيمان بالله، وكلما انحرف الناس عن الفطرة أرسل الله إليهم رسولاً يردهم إلى التوحيد والإيمان بالله والعمل بشرعه، وعلاج ما أصابهم من الآفات بسبب الكفر والشرك والإعراض عن دين الله, كما قال -سبحانه-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة: 213].
وإن من أعظم الأمراض التي تصيب النفوس البشرية هو مرض الكفر والشرك بالله، والشفاء منه بالإيمان والتوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل كتبه. ومن مات على الكفر فلا حظَّ له في الآخرة كما قال -سبحانه-: قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التغابن: 10]، وقال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة: 68].
والشرك جَعْلُ شريك لله تعالى، وهو من أعظم الأدواء، وصاحبه مخلد في النار إذا مات ولم يتب منه كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة: 6]، والشرك يمنع الإنسان من دخول الجنة، قال -سبحانه-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72].
والجهل آفة تزول بالعلم الإلهي الذي جاءت به الرسل، وبه يعرف الإنسان ربه، والطريق الموصل إليه، وما للإنسان بعد القدوم عليه.
والبدع آفة تزول بمعرفة السنن والأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة, وهكذا باقي الآفات.
وهذه الآفات تصيب الناس بسبب كفرهم وشركهم، وعدوانهم، وضعف إيمانهم؛ عقوبة لهم: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 66-70]، والآفات درجات، والناس فيها متفاوتون فسالم ومستقل ومستكثر، ومبتلى ومعافى.
اللهم وفقنا للهدى واعصمنا من أسباب الجهل والردى وسلمنا من آفات النفوس واختم بالصالحات أعمالنا واغفر لنا ولجميع المسلمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله خالق الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقضي بالحق ويحكم بالعدل، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمداً عبده كان له قرين من الجن فأسلم, اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
عباد الله: النفوس تصيبها الآفات والأمراض كما تصيب الأبدان، بل آفات الأبدان سببها آفات النفوس، وكل علة في الخارج سببها علة في الداخل، وكل حُسْن في الجوارح سببه حُسْن في القلوب، وكل فساد في الجوارح سببه فساد في القلوب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ" [البخاري (52)، ومسلم (1599)].
وكلما بعد القلب عن الله كانت الآفات إليه أسرع، والبعد عن الله -عزَّ وجلَّ- مراتب متفاوتة، فالغفلة تبعد العبد عن الله, وبُعد المعصية أعظم من بعد الغفلة, وبُعد البدعة أعظم من بعد المعصية, وبُعد الشرك والنفاق أعظم من ذلك كله، والمعاصي تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف والعزة، وتكسوه أسماء الذل والذم والصغار، وشتان ما بين الأمرين: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 18-20].
أيها الإخوة: إن معاصي العبد تسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن، والتقي والمطيع والورع، والطيب والصالح والعابد، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي، والمفسد والمسيء، والمجرم والخبيث، والكاذب والخائن، والسارق والزاني، والظالم والفاسق ونحو ذلك من أسماء الفسوق. قال تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الرعد: 25].
والطاعات صلة بين العبد وربه، والمعاصي توجب القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 36 ،37].
والمعاصي والذنوب تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، بل تمحق بركة الدين والدنيا، وما محقت بركة الأرض إلا بمعاصي الخلق، وإنما كانت معصية الله سبباً لمحق بركة الرزق والأجل وغيرها؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، وكل شيء اتصل به الشيطان فبركته ممحوقة، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة.
أيها الأخ الكريم: قد تفعل الخير بنفسك الطيبة، لكن أحياناً توقعك نفسك هذه في شر، فإذا عملته قالت النفس: لماذا تعمله، ما بك أنت ملتزم، أنت متدين، أنت مؤمن، لماذا تنظر إلى الحرام؟ لماذا تستمع إلى الأغاني؟ هذه نفس لوامة، فإذا لامتك وهي التي ورطتك قلت أنت: أنتِ التي أوقعتيني، والله لا أفعلها، فإذا جاهدتها مرة، ومرتين، وثلاثاً، وأربعاً، وعشراً، ارتقت إلى مرتبة النفس المطمئنة، التي اطمأنت إلى دين الله وسكنت إلى أمره، واستراحت بتنفيذ شرعه.
وهنا تعيش أكمل عيشة، ولا يجد لك رب العالمين حينها مجال إلا أن ينقلك إلى الجنة، ويناديك عند الموت ويقول: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27-30] ولذا يقول العلماء: "إن مجال الإصلاح في حياتك هو إصلاح نفسك"، قال الله -عز وجل-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس:7-9] ويقول -عز وجل-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41].
اللهم أصلح لنا نفوسنا، وجنبنا آفاتها، اللهم اجعلنا أفقر خلقك إليك، واجعلنا اللهم أغنى خلقك بك، اللهم اجعلنا أذل خلقك لك، واجعلنا اللهم أعز خلقك بك.