الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
تأملوا طويلاً في قولِه تعالى: (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا).. ولننظرَ أيُّ مجدٍ وصلتْ إليه مريمُ خلفَ الحجابِ .. والذي لم يكن لها عائقاً أن تصلَ إلى ما وصلتْ إليه .. فمنْ عُلوِّ ذِكرِها قَولِه تَعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) ..فهذا تَكريمٌ لها من اللهِ -تعالى- وإبقاءٌ لذكرِها على مدى العُصورِ والدُّهورِ .. قالَ الشَّيخُ السِّعديُ -رحمَه اللهُ-: وهذا من أعظمِ فضائِلها، أن تُذكرَ في الكتابِ العظيمِ، الذي يَتلوه المسلمونَ في مَشارقِ الأرضِ ومغاربِها، تُذكرُ فيه بأحسنِ الذِّكرِ، وأفضلِ الثَّناءِ، جزاءً لعملِها الفَاضلِ، وسَعيِها الكَاملِ .. بل هي المرأةُ الوحيدةُ التي ذُكرتْ في القرآنِ باسمِها .. والأكبرُ من هذا أن تُجعلَ سورةٌ كاملةٌ باسمِها .. سورةُ مريمَ. لقد بلغتْ مريمُ خلفَ حجابِها درجةَ الصِّديقينَ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الكبيرِ المُتعالِ، تسبِّحُ له الرِّمالُ، وتَسجدُ له الظِّلالُ، وتُدَكُّ من هَيبتِه الجِبالُ، ما منْ ذَرةٍ إلا إليه خَلقُها، وما من دابَّةٍ إلا عليه رزقُها .. أحمدُه حمدَ الشَّاكرينَ الذَّاكرينَ، وأستغفرُه استغفارَ المذنبينَ المقصِّرينَ .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له قَيومُ السَّماواتِ والأرضينَ.
وأشهدُ أن مُحمَّداً عبدُه ورسولُه، بُشِّرَتْ بِهِ الأُمَّةُ، وَتَمَّت بِهِ النِّعْمَةُ، وَكُشِفَتِ بِهِ الغُمَّةُ، وَتَنَزَّلَتِ مَعَهُ الرَّحْمَةُ، إمامُ منِ اتِّقى، وبصيرةُ من اهتدى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى رَجُلٍ: "أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي لا يَقْبَلُ غَيْرَهَا، وَلا يَرْحَمُ إِلا أَهْلَهَا، وَلا يُثِيبُ إِلا عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْوَاعِظِينَ بِهَا كَثِيرٌ، وَالْعَامِلِينَ بِهَا قَلِيلٌ"..
أما بعدُ: في بيتِ عِمرانَ .. ذلك البيتُ المُباركُ الذي اصطفاهُ اللهُ -تعالى-.. بدأتْ أحداثُ قصَّتِنا هذه .. قَصصُ القرآنِ التي فيها الهدى والنُّورِ .. وتنشرحُ بما فيها الصُّدورُ .. (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 33- 35].
فهذا مثالٌ صريحٌ على بركةِ هذا البيتِ .. وتعَلُّقِ أهلِه باللهِ -تعالى-.. وحرصِهم على مرضاتِه .. فها هيَ امرأتُ عمرانَ تنذرُ ما في بطنِها للهِ -تعالى-.. خادماً لبيتِ المقدسِ .. ومُتفرِّغاً للعبادةِ .. داعيةً اللهَ -سبحانَه- أن يستجيبَ طلبَها وأن يتقَبَّلَ منها .. ولذلك ختمتْ الدُّعاءَ باسمينِ عظيمينِ من أسماءِ اللهِ -تعالى-.. (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .. وكأنَّها تقولُ: أنتَ السميعُ لدُعائيِ .. العليمُ بنيَّتي.
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 36]... فها هي المرأةُ العالمةُ العاقلةُ تُؤكدُ على عدمِ تساوي الذَّكرِ والأنثى في أشياءَ كثيرةٍ .. ويُقرُّ الخالقُ -عزَّ وجلَّ- كلامَها .. ويُتلى في كتابِه إلى يومِ القيامةِ .. فأينَ من يُنادونَ بمساواةِ الرجلِ بالمرأةِ؟
فهي تعتذرُ إلى ربِّها بأن هذه الأنثى التي وضعتُها لن تقومَ بما يقومُ به الذَّكرُ في خدمةِ بيتِ المقدسِ وفي العبادةِ .. لأن عبادتَها ستنقصُ وقتَ حيضِها فلا صلاةَ ولا صيامَ .. ولن تستطيعَ أن تدخلَ المسجدَ لخدمتِه وقتَ عُذرِها ووقتَ وجودِ الرِّجالِ حتى لا تختلطَ بهم .. لكن (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) .. فلا تعتذرينَ فيما ليسَ لك به قُدرةٌ ولا شأنٌ.
فسمَّتْها ودعتْ لها دعاءً مُباركاً (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 36].. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا"، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ..
فيا أيُّها الآباءُ والأمَّهاتُ .. يا من يُريدُ الخيرَ والصَّلاحَ لأبنائه وبناتِه .. عليكم بالدُّعاءِ، ثُمَّ الدُّعاءِ، ثُمَّ الدُّعاءِ .. فها هيَ مريمُ وابنُها عيسى عليه السَّلامُ يتَقلَّبونَ في المنازلِ العاليةِ .. والمقاماتِ الرَّفيعةِ .. بسببِ دُعاءِ الأمِّ الصَّادقِ ولذلك قالَ السَّميعُ العليمُ بعدَ ذلك: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) [آل عمران: 37].
فلمَّا ذهبتْ بها أُمُّها إلى من لهم الأمرِ على بَيتِ المقدسِ، تَشاحُّوا وتخاصموا أَيُّهم يَكفلُ مَريمَ، واقتَرعوا عليها، فَوقعتْ القُرعةُ لزكريا نبيُّهم وأفضلُهم عليه السَّلامُ .. كما قالَ تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) .. فتَعلَمتْ في صِغَرِها من نبيِّ اللهِ -تعالى-.. العلمَ النَّافعِ .. والعملِ الصَّالحِ .. فنَشَأتْ مريمُ في محرابِ بيتِ المَقدسِ نشأةً مباركةً وأنبتَها ربُّها نباتاً حسناً فكانتْ من القانتينَ، المداومينَ على طاعتِه بخشيةٍ وخُشوعٍ .. وكانَ (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) [آل عمران: 37].
قالَ أهلُ التَّفسيرِ: كان َ يجدُ عندَها فاكهةَ الصَّيفِ في الشِّتاءِ، وفاكهةَ الشِّتاءِ في الصَّيفِ .. رِزقٌ ساقَه اللهُ إليها، وكرامةٌ أكرمَها اللهُ بها، فيقولُ لها زكريا مُتَعجِّباً: (يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)؟، (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 37].
ولما كَبُرتْ مريمُ (انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) فانعزلتْ عن أهلِها وعن مخالطةِ الرِّجالِ ..لتتفرغَ لعبادةِ ربِّها دونَ أن يراها أحدٌ.. (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) .. فاحتجبتْ يا أهلَ الإيمانِ عن عُبَّادِ بيتِ المَقدسِ .. فكيفَ بمن دونَهم من النَّاسِ؟ .. بل كيفَ بكشفِ الوجهِ أمامَ الفُسَّاقِ أو مخالطةُ من كانَ في قلبِه مرضٌ؟ ..
ولذلك لمَّا دخلَ عليها جبريلُ -عليه السَّلامُ- وهو في صُورةٍ جَميلةٍ، وهَيئةٍ حَسنةٍ (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا).. خافتْ تلكَ العفيفةُ الشَّريفةُ أن يكونَ رجلاً يريدُ أن يتَعرَّضَ لها بسوءٍ، فاعتصمتْ بربِّها، واستعاذتْ منه .. (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) [مريم 16- 18] أيْ: إنْ كُنتَ تَخافُ اللهَ، وتَعملْ بتقواه، فاتركْ التَّعرضَ لي .. فما أجملَ الحياءَ والطُّهرَ العفافَ .. وما أعظمَ القلوبَ التي من ربِّها تخافُ .. ولذلك جاءَتها أعظمُ شهادةِ شرفٍ من ربِّها عزَّ وجلَّ: (وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا).
فلما رأى جِبريلُ منها الرَّوعَ والخِيفةَ، قالَ: (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أيْ: لستُ مما تَظنِّينَ، بل إنَّما جئتُ لتَنفيذَ رسالةِ ربِّي .. (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا).. فبشَّرَها بِبُشارةٍ عظيمةٍ ليسَ بالغلامِ فقطْ .. بل بزكائه (زَكِيًّا) .. فإنَّ الزَّكاءَ يَستلزمُ تطهيرَه من الخِصالِ الذَّميمةِ، واتِّصافِه بالخِصالِ الحَميدةِ .. فالولدُ الصَّالحُ قرَّةُ عَينٍ لوالديه.
ولكنْ يبقى السُّؤالُ الغريبُ؟ .. كيفَ يكونُ هذا وهي عذراءُ لم تتزوَّجْ؟ .. ولذلك (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم: 20].. فمن أينَ يأتي الغلامُ وليسَ له أبٌ؟
(قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ).. سبحانَ اللهِ .. كلُّ الأمورِ إذا نُظِرَ إليها بمِنظارِ قُدرةِ اللهِ -تعالى-.. كانتْ سهلةً بسيطةً .. (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا) .. أيُّ شيءٍ ..(أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .. ولذلك أصبحَ آيةً عظيمةً من آياتِ ربِّه .. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ) .. دَلَالَةً وَعَلَامَةً لِلنَّاسِ عَلَى قُدْرَةِ بَارِئِهِمْ وَخَالِقِهِمُ، الَّذِي نَوَّعَ فِي خَلْقِهِمْ، فَخَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الذُّرِّيَّةِ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، إِلَّا عِيسَى فَإِنَّهُ أَوْجَدَهُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ الْقِسْمَةُ الرُّبَاعِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
فكانَ هذا الغُلامُ رحمةً من اللهِ -تعالى-كما قالَ: (وَرَحْمَةً مِنَّا).. فرحمةُ اللهِ به بأن جعلَه من أولي العزمِ من الرُّسلِ، ورحمتُه بوالدتِه، لِما حَصلَ لها من الثَّناءِ الحَسنِ، والفَضائلِ العظيمةِ .. وأما رحمتُه بالنَّاسِ، فإنَّ من أكبرِ النِّعمِ عليهم، أنْ بعثَ فيهم رَسولاً، يتْلُو عليهم آياتِه، ويُزكيهم، ويُعلِّمُهم الكِتابَ والحكمةَ، فتحصلُ لهم سَعادةُ الدُّنيا والآخرةِ .. فاستسلمتْ لأمرِ ربِّها لمَّا قالَ لها: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) .. أمرُ اللهِ فلا بُدَّ من نُفوذِه وقضاءِه، ثُمَّ نفخَ جبريلُ عليه السَّلامُ في جَيبِها.
فلما حَملتْ بعيسى -عليه السَّلامُ-، خَافتْ من الفَضيحةِ، فتباعدتْ عن النَّاسِ .. (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) .. فأيُّ همًّ عاشتْه مريمُ في تلكَ الأيامِ؟ .. وأيُّ ابتلاءٍ تعرَّضتْ له وأحزانٍ وآلامٍ؟ .. فلمَّا قَرُبَ وِلادُها، ألجأها المَخاضُ إلى جِذعِ نَخلةٍ ..(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم: 22- 24].. وحينَ رأتْ الغُلامَ تَمنَّتْ أنها مَاتتْ قَبلَ هذه الفِتنةِ العظيمةِ، وكانتْ نَسياً مَنسيَّاً.. حتى لا تتعرضَ لكلامِ النَّاسِ الذي لا يرحمُ.
(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) .. فناداها ذلك الغُلامُ المُعجِزةُ من تَحتِها .. يا أمَّاه: لا تحزني قد جعل ربُّكِ تحتكِ نهراً تشربينَ منه .. (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) .. ورُطَباً تأكلينَ منه .. (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 25- 26].. فالمهمومُ تَخونُه الكَلماتُ .. وتخنقُه العَبَراتُ .. فلا يستطيعُ الدِّفاعَ عن نفسِه .. وأيُّ كلامٍ سيقولُ من كانَ في حالِها؟
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) .. يا عبادَ اللهِ .. لا يوجدُ أعظمُ على المؤمنةِ العفيفةِ الغافلةِ من اتِّهامِها في عِرضِها .. بل ويتوالى الاتِّهامُ واللَّومُ في تذكيرِها بأهلِها الصَّالحينَ .. (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم: 27] .. (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) .. فلما كانتْ التُّهمةُ كبيرةٌ .. احتاجتْ إلى برهانٍ أكبرَ .. رضيعٍ يتكلمُ: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم: 28- 29]..
فليسمعْ النَّصارى بأولِ كلماتٍ قالَها عيسى بنُ مريمَ عليه السَّلامُ لقومِه: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [مريم: 30- 36].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَني وإياكم بما فيه الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ العزيزِ الوهابِ، الذي أنزلَ الكتابَ، أحمدُ ربِّي وأشكرُه،وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الرَّحيمُ التَّوابُ، وأشهدُ أن نبيِّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه الشافعُ المُشفَّعُ يومَ الحسابِ، اللهم صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه المتقينَ المُتَّبعينَ للسُّنةِ والكتابِ .. أما بعد:
أيُّها الأحبَّةُ .. تأملوا طويلاً في قولِه تعالى: (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) [مريم: 17] .. ولننظرَ أيُّ مجدٍ وصلتْ إليه مريمُ خلفَ الحجابِ .. والذي لم يكن لها عائقاً أن تصلَ إلى ما وصلتْ إليه .. فمنْ عُلوِّ ذِكرِها قَولِه تَعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) ..فهذا تَكريمٌ لها من اللهِ -تعالى- وإبقاءٌ لذكرِها على مدى العُصورِ والدُّهورِ ..
قالَ الشَّيخُ السِّعديُ -رحمَه اللهُ-: وهذا من أعظمِ فضائِلها، أن تُذكرَ في الكتابِ العظيمِ، الذي يَتلوه المسلمونَ في مَشارقِ الأرضِ ومغاربِها، تُذكرُ فيه بأحسنِ الذِّكرِ، وأفضلِ الثَّناءِ، جزاءً لعملِها الفَاضلِ، وسَعيِها الكَاملِ .. بل هي المرأةُ الوحيدةُ التي ذُكرتْ في القرآنِ باسمِها .. والأكبرُ من هذا أن تُجعلَ سورةٌ كاملةٌ باسمِها .. سورةُ مريمَ.
لقد بلغتْ مريمُ خلفَ حجابِها درجةَ الصِّديقينَ .. (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة: 75].. وهي درجةٌ تحتَ النَّبِيِّينَ وفوقَ الشُّهَدَاءِ والصَّالحينَ .. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) ..
ولقد أرسلَ اللهُ -تعالى-لها الملائكةَ ببُشرى عظيمةٍ: (وإذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ) .. فاختارها سبحانَه واجتباها لطاعتِه، وخصَّها بكرامتِه .. ولذلك قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ" .. وهي ممن كَمُلَ من النِّساءِ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ".
حتى بلغتْ أن تكونَ من خَيرِ نساءِ الجَنَّةِ .. خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ، قَالَ: "تَدْرُونَ مَا هَذَا؟"، فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ"، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ، .. فمتى كانَ الحِجابُ مانعاً للمرأةِ أن تَبلُغَ المَجدَ الحقيقيَّ؟ .. فها هي مريمُ خيرُ نساءِ العالمينَ في الدُّنيا وفي جناتِ النَّعيمِ.
اللهم احفظْ نساءَ المسلمينَ من كلِّ شرٍ، اللهم استرْ عليهِنَّ وارزقْهُنَّ العِفَّةَ والحياءَ، وجَنِّبهُنَّ التَّبرجَ والسُّفورَ، اللهمَّ من أرادَ نساءَنا وبلادَنا بمكيدةٍ وفسادٍ فاجعلْ تدبيرَه تدميرَه، وردَّ كيدَه في نحرِه، واجعلْ الدائرةَ عليه، يا سميعَ الدُّعاءِ، اللَّهُمَّ نَسْأَلُكَ الْهُدَى، وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ، وَالْغِنَى .. اللهمَّ نَسألُكَ الأمنَ والإيمانَ في بلادِنا وبلادِ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ.