العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
هذه العشر جمعت البركات والخيرات، عشر فيها السعادة والريادة، عشر نزلت ببركاتها وخيراتها إليك، عشر فيها البركات الوافرة والنعم الزاخرة، عشر أشرقت وبالنور سطعت، عشر يعتق الأسير ويجبر الكسير، عشر الدمعات والعبرات والتضرع والسؤالات، عشر توفير العطايا والمنح، ويتحصل بها كل مأمول مقترح، ويغفر للعاصي كل ما جنى واقترح، عشر الانطراح والبكاء والإصلاح والصلاح، عشر العطف والتجاوز والصفح والجوائز، عشر يتم فيها التكريم والتفضل من الرب الكريم، عشر المسابقة والمسارعة والبذل والمنافسة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله على الغنائم ونشكره على ما أعطى من المكارم، أحمده سبحانه على نعمه ومن نعمه نعمة المواسم، وأشهد أن لا إله إلا الله تؤمن المرء يوم العظائم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب الخصال والمكارم. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه من كل قاعد وقائم.
أما بعد: عباد الله اتقوا الله -جل في علاه-، وتأملوا سرعة مرور الليالي والأيام وانقضاء الشهور والأعوام، انظروا بالأمس نترقب هلال رمضان واليوم مضى ثلثيه وكأنه ما كان!
بالأمس نفتتح رمضان بالتهاني والدعوات، واليوم نسكب الدمعات، ونرسل العبرات، بالأمس نبرمج ونرتب فانقضى ما مضى ونتعجب السؤال المطروح لمبتغي الخير يغدو ويروح ماذا عملت في الأيام الماضية؟ ماذا أودعت الأيام الخالية؟
إن كانت الجدية والعمل والقراءة والقيام والذكر وصالح العمل، فارفع شعار الحمد لله، وداوم على الطاعة ورضاه فالمكارم لا تُنال إلا بالمكاره، وإن كانت الأخرى الإهمال والكسل وتضييع الأوقات وسوء العمل والتسويف والتمني والملل، فتدارك أيامك وأصلح حالك وبادر زمانك.
إن هذه العشر المباركة وهذه الأيام الفاضلة وهذه الليالي السعيدة هي نهاية الشهر وخاتمة الليالي الغر كما من مستقبل لها لم يستكملها، وكم من مؤمل بالعود إليها لم يدركها، هل تأملت الأجل ومسيره؟! وهل تبينت خداع الأمل وغروره؟! (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34].
إن المؤسف أن تمضي هذه العشر على السهرات والقنوات وشرب الدخان والمخدرات، تمضي هذه العشر في الذهاب إلى الأسواق والشراء مما لذّ وراق، فانظر إلى المتسوقين والمتسوقات في المعارض والمتاجر والمحلات.
إن الحاجيات لا تنتهي والطلبات لا تنقضي والمرء يريد ما يريد الناس، وهذا من حقه دون مساس، لكن ينبغي أن تقضى الحوائج في النهار أو في وقت يسير باختصار حفاظا على الأوقات وصيانة للحظات.
معشر الناس: ومن الناس من في هذه العشر يكثر نومه فجلّ وقته في النهار نائم وفي الليل هائم.
ومن الناس أيها الناس من همه التكسع في الأسواق، وملاحقة النساء، وكذا تبرج النساء بأعبية مخصرة وألبسة فاتنة وثياب ضيقة، فيفوت الخير الكثير على كثير من النساء في التجول في الأسواق.
ومن الناس في هذه العشر كلما قرب الرحيل أزف التحويل، وكلما أخذ رمضان في النقص أخذ هو في النقص، وكلما قربت أوقات الرحمات والعتق من النار والهبات والفوز بدار الأبرار ازداد في الكسل والتفريط وسوء العمل.
نوم وغفلة، وسهو وتفريط، وهذا خلاف المطلوب والعمل المرغوب، فمن هدي الرسول إذا دخلت العشر أحيى الليل وشد المئزر، وأيقظ أهله وجد واجتهد ما لا يجتهد في غيره مثله، فنفعه لنفسه ولغيره وأهله، وهكذا ينبغي للآباء والأمهات تشجيع أولادهم وتهيئتهم وحثهم وترغيبهم وتحفيظهم وتذكيرهم بالقراءة والدعاء والتهجد والوفاء.
تنشئة على العبادة وحضور دعوة المسلمين أحضرهم معك للصلاة مع ملازمة الآداب والإنصات، أيقظ زوجتك والبنات لتكتب في سجل القائمين والقائمات. هذه العشر نهاية الشهر وخاتمة وعصارة العمر تنقص الشهر..
تنصف الشهر والهفاه وانهدم | واختص بالفوز بالجنات من خدمَ |
وأصبح الغافل المسكين منكسرا | مثلي فيا ويحه يا عُظم ما حُرِمَ |
من فاته الزرع وقت البدار فما | تراه يحصد إلا الهم والندم |
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته | في شهره وبحبل الله معتصم |
هذه العشر جمعت البركات والخيرات، عشر فيها السعادة والريادة، عشر نزلت ببركاتها وخيراتها إليك، عشر فيها البركات الوافرة والنعم الزاخرة، عشر أشرقت وبالنور سطعت، عشر يعتق الأسير ويجبر الكسير، عشر الدمعات والعبرات والتضرع والسؤالات، عشر توفير العطايا والمنح، ويتحصل بها كل مأمول مقترح، ويغفر للعاصي كل ما جنى واقترح، عشر الانطراح والبكاء والإصلاح والصلاح، عشر العطف والتجاوز والصفح والجوائز، عشر يتم فيها التكريم والتفضل من الرب الكريم، عشر المسابقة والمسارعة والبذل والمنافسة.
يا نفْسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى | وأبصَروا الحقَّ وقلبي قد عَمِىِ |
إخواني جدوا واجتهدوا، فما بقي من الشهر إلا القليل، وبادروا بالأعمال قبل الرحيل فو أسفا أن تأتي غدا وأنت حقير ذليل.
فهذا شهركم عباد الله قد أخذ في النقص والانصراف، فخذوا أنتم في الاجتهاد والاهتمام، من كان منكم أحسن فعليه الثبات، ومن كان فرط فليختمه بالحسنى فالعمل بالختام واستدركوا منه بقية الليالي والأيام.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين ولا أقبح ذنب من الكافرين، ولا أنعم من المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين.
أيها المسلمون: من شعائر هذه العشر المباركة وخصائصها البارزة : صلاة التهجد والقيام:
فقم يا أخي ودع عنك التواني والكسل | فاز والله من كان بالله متصل |
(كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17- 18]، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [السجدة:16]، ويقول سبحانه: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان:64].
وقد تواتر الخبر عن سيد البشر أن الله ينزل -نزولاً يليق بجلاله وعظمته- كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول حين يبقى ثلث الليل الآخر: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له".
وقد روى الثقات عن خير الملا | بأنه عز وجل وعلا |
في ثلث الليل الأخير ينزل | يقول على من تائب فيقبل |
هل من مسيء طالب للمغفرة | يجد كريما قابل للمعذرة |
يمن بالخيرات والفضائل | ويستر العيب ويعطي السائل |
قال أبو الدرداء: "صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور".
وقيل للحسن: "ما بال المجتهدين من أحسن الناس وجوها؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره".
قم الليل يا هذا لعلك ترشد | إلى كم تنام الليل والعمر ينفد |
أراك بطول الليل ويحك نائماً | وغيرك في محرابه يتهجد |
أترقد يا مغرور والنار توقد | فلا حرها يطفى ولا الجمر يخمد |
أيها المسلمون: إن جوف الليل ملاذ الخائفين ولذة العابدين، وأنس المستوحشين، وواحة المتعبدين ونعيم الطائعين ومناجاة المحبين، وخلوة المتقين فجنبوهم عن المضاجع واجفة وقلوبهم من خشية الله خائفة.
وواظب على درس القرآن فإنه | يلين قلبا قاسيا مثل جلمد |
وخذ بنصيب في الدجى من تهجد | وناد إذا ما قمت في الليل سامعا |
قريبا مجيبا بالفواصل يبتدي | ومد إليه كف فقرك ضارعا |
فعين بكت من خشية الله حرمت | على النار في نص الحديث المسدد |
هذا وينبغي الاجتهاد والقيام طوال العشر التمام، فبعض الناس يخص القيام بالأوتار كإحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرون، وآخر يخص ليلة وعشرين دون سائر الليالي، وثالث يعمل بالنهار دون الليل أو العكس.
والحق أن العشر كلها بليها ونهارها محل للاجتهاد والتعبد لا الأوتار، والليل آكد من غيرها وبعض الناس إذا فاتته الأوتار ظن أنه في ضيعة وانحسار.
ومن الناس من يجزم بليلة القدر وأنها ليلة سبع وعشرين أو غيرها، وهذا لا دليل عليه ومن هذا تبادل الرسائل عبر التواصلات الاجتماعية بأن الرؤى قد تواطأت ليلة كذا وكذا أو فلان رآها ليلة كذا فتجد رسائل الجوال وغيرها تنتشر وكأنما ما يقال هو الحق والصواب.
وهذا لا يجوز اعتقاده فضلاً عن إرساله ونشره، وليس هناك شيء قاطع على التحديد والتخصيص حتى ولو توالت المرائي، وإنما من باب حسن الظن والفأل الحسن.
فالحق أن ليلة القدر لا تختص بليلة من ليالي العشر وأرجى الليالي بالموافقة وأحظها بالفعل والعناية ليلة سبع وعشرين.
والليلة الشريفة ذات القدر في الوتر تنتقل بنص الخبر، وكونها سابعة الليالي في غالب الأعوام والأحوال.
هذا وبعض الناس يتبادل في ليلة القدر علامات لا دليل عليها أو دليلها ضعيف لا يصح فيها أو تبادل صور الشمس لها، وبعضهم يخص ليالي الأوتار بعمل خاص كالصدقة والعمرة ونحوهما وبعضهم يعتمد على رسائل الواتس فيرسل ويستقبل ويلصق وينسخ مما لا علم عنده فيه وربما أرسل بدعة فيه (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
والبعض يشتغل بالملهيات والرسائل والتنبيهات عن هذه الليالي الشريفات.
فاجتهدوا بارك الله فيكم، واعملوا صالحا ينجيكم واختموا شهركم بعشركم فالأعمال بالخواتيم، وربما كانت آخر لحظة خيرا من ألف لحظة، وربما كانت دمعة تغفر فيها ألف ذلة، فارغبوا واطمعوا وتفاءلوا وارجوا واجعلوا شعاركم دعاء ربكم لاسيما ما أرشد إليه رسولنا لأمنا عائشة رضي الله عنها "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا"، فكررها قائما وقاعدا ساجدا وراكعا، فليلة القدر يفتح فيها الباب وتقرب الأحباب ويسمع الخطاب ويرد الجواب.
لليـلـة القدر عنـد الرب تفضيـل | وفي فضلهـا قد جاء تنزيـل |
فجدّ فيـها على خيـر تنـال بـه | أجرا فللخير عند الله تفضيـل |
يا مَن يُجيب دُعاءَ المُضطرَ في الظُلَمِ | يا كاشِفَ الضَرّ والبلوَى مَع السَقَمِ |
قَد نامَ وفدُكَ حَولَ البَيتِ وانتَبَهُوا | وأنتَ يا حيُ يا قَيُوم لَم تَنَمِ |
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، لك الحمد على الصيام والقيام..