المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
وإذا كانت الأمم الغابرة المتعاقبة قد عُذبت بأنواعٍ من العذاب بحسب ذنوبها - فإن الحضارة المعاصرة قد جمعت جميع الأسباب التي عُذب بها السابقون؛ لأن من يُدير دفتها ويوجهها هم الماديون الذين لا يؤمنون بالله تعالى رباً، ولا يقيمون لدينه وزناً.
فالشرك بالله تعالى، والاستكبار عن عبادته، ومعاداة رسله، ومحاربة شرائعه..
الحمد لله القوي القهار العزيز الجبار؛ يعذب من يشاء بعدله، وينجي من يشاء برحمته، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير؛ نحمده فهو أهل الحمد في السراء والضراء.. وليُ النعماء، ودافع البلاء، ومجيب الدعاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا نجاة من عذابه إلا بطاعته، ولا مفر منه إلا إليه، هو مقصدُ المنيبين، وأمانُ الخائفين، وملاذُ التائبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أعلم الناس بالله تعالى، وأكثرهم رجاء له، وخوفاً منه، وكان إذا تخيلت السماء تغير لونه، وخشي أن يكون عذاباً، فإذا مطرت سُرِّي عنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فإنه لا نجاة للعباد من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة إلا بالتقوى (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزُّمر:61].
أيها الناس: من عرف الله تعالى حق المعرفة بأسمائه وصفاته وخلقه وآياته مع هدايته للإيمان واليقين قام في قلبه من مهابة الله تعالى وتعظيمه وإجلاله ما يدفعه للطاعات، ويحجزه عن المحرمات؛ محبةً لله تعالى، ورجاءً ثوابه، وخوفاً من عذابه، وكلما ازداد علمُ العبد بربه ويقينُه ازداد مهابةً له، وخوفاً منه.
ولذا كان أشد الخلق خوفاً من الله تعالى من كانوا أعلم به سبحانه وهم الرسل والملائكة عليهم السلام، قال سبحانه وتعالى في الملائكة: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:28].
وقال في الرسل عليهم السلام: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) [الأنبياء:90] وقد نهى الله تعالى عن الخوف من غيره عز وجل فقال يخاطب المؤمنين: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175] وفي آية أخرى: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) [التوبة:13] قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: "ما فارق الخوف قلباً إلا خرب".
إن من قرأ كتاب الله تعالى، وعلم ما اتصف به ربنا سبحانه من العظمة والعزة والقهر والقوة والجبروت والقدرة -مع تدبره لما يقرأ- امتلأ قلبه بالرهبة والخوف من الله تعالى مع محبته وتعظيمه ورجائه وإجلاله؛ ففي القرآن الكريم أن ربنا جل في علاه هو (المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ) [الحشر:23] وفيه أيضاً (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:220] وفيه (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40] وفيه (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:20] وفيه (وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام:18] وفيه عشرات الآيات القرآنية التي تبين شيئاً من أسماء ربنا الحسنى، وصفاته العلى لا يملك قارئها إلا أن يسبح الله تعالى ويكبره ويذكره.
ثم إذا تأمل المؤمن حاجة الخلق إلى ربهم، وغناه سبحانه عنهم، وقدرته تعالى عليهم مع عجزهم عن ردِّ عذابه أو تخفيفه أو النجاة منه - سعى فيما يرضيه، وجانب ما يسخطه قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ) [المؤمنون:95] وفي آية أخرى (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام:65].
لقد قرأنا في القرآن أن ربنا سبحانه وتعالى مع كمال قدرته وقوته وعزته وكبريائه وقهره وجبروته لما عذّب من استحقوا العذاب من خلقه كان عذابه أليماً شديداً، وقد قص ذلك علينا لنحاذر سخطه، ونجتنب أسباب عذابه (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [البقرة:196] وفي آية أخرى (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [إبراهيم:47] وفي ثالثة (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ) [البقرة:165] وفي رابعة (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102] وفي خامسة (وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ) [الرعد:13] وفي سادسة (وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ) [الحج:2] وآيات أخرى كثيرة تثبت شدة عذاب الله تعالى، وقوة بطشه، وسرعة انتقامه.
وقرأنا في القرآن أيضاً تنوع عقوباته، فهي ليست عقوبة واحدة، ولا على طريقة مألوفة؛ فلا يدري العباد كيف يعذبون، ولا ما يحاذرون؛ لأن مظان الرحمة قد يقلبها الله تعالى عذاباً؛ فالغرق عذابٌ يأتي مما ظاهره الرحمة وهو المطر، فيفرح الناس به وهو عذابهم كما أهلك به قوم نوح عليه السلام (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [العنكبوت:14] (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً) [الفرقان:37] وأغرق بالسيل جنان سبأ وأموالهم (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ) [سبأ:16] وبالغرق في البحر أهلك فرعون وجنده (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف:136].
فسبحان من جعل الماء الذي لا حياة للناس إلا به سبب هلاكهم، وسبحان من عظمت قدرته فقلب آية الرحمة عذاباً، وأغرق بالمطر أقواماً.
والريح آية أخرى لا حياة على الأرض بفقدها، ومع ذلك يجعلها الله تعالى عذاباً لمن شاء من خلقه، وقد أهلك بها عاداً لما كذبوا هوداً عليه السلام (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقَّة:6] وفي سورة أخرى (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف:24-25].
والصيحة صوت، والصوت في العادة لا يضر الأعيان، والبشر قد جبلوا على الأصوات ضعيفها وقويها، ومع ذلك جعل الله تعالى بقدرته هذا الصوت هلاكاً للمكذبين، فعذب به ثمود لما كذبوا صالحاً (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) [هود:67-68] وفي أخرى (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المحتضر) [القمر:31].
وأقوام آخرون من المكذبين حُصبوا بالحجارة حتى هلكوا، منهم قوم لوط عليه السلام (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود:82-83] وفي أخرى (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) [القمر:34] وعُذب بالحجارة أصحاب الفيل (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل:3-5].
وعُذب قارونُ بالخسف، فتجلجل بداره في الأرض إلى حيث يعلم الله تعالى (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) [القصص:81] وقد هدّد الله تعالى أهل المعاصي بذلك (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل:45].
وحوائج البشر إلى ربهم سبحانه وتعالى لا تنتهي، فلا حول لهم إلا به سبحانه، ولا قِوام لهم إلا برزقه، ولو حبسه عنهم لهلكوا؛ ولذا كان القحط والجوع ونضوب الماء وقلة الأمطار هلاكاً، كما كانت زيادتها إلى حدِّ الإغراق عذاباً، وقد عُذب أقوام بالجوع حتى هلكوا، وتاريخ البشر مليء بالمجاعات والأوبئة العامة التي هلك فيها أمم من الناس (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112].
وآخرون عُذبوا بتلف أموالهم، وذهاب زرعهم وثمارهم، فانقلبوا من السعة إلى الضيق، ومن الغنى إلى الفقر كما كان حال المفاخر بجنته (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) [الكهف:42] وكما كان حال أصحاب الجنة حين تقاسموا على منع الفقراء حقهم من ثمارها (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) [القلم:19-20].
وعُذبت أمةٌ من بني إسرائيل بالمسخ، ففقدوا في لحظات آدميتهم، ونُقلوا إلى درك الحيوانية البهيمية، نعوذ بالله تعالى من سخطه (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف:166] وفي آية أخرى (وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ) [المائدة:60] وعُذب آخرون منهم بالذُل والهوان وتسليط الجبابرة عليهم قتلاً وأسراً وإذلالاً (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ) [الأعراف:167] وفي آية أخرى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) [آل عمران:112].
فالسعيد من تدبر كتاب ربه، واتعظ بما حلَّ بالأمم قبله، والشقي من أتبع نفسه هواها، فأوبقها وأشقاها، فلا بقيت له الدنيا، ولا سلم في الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة:235]
أيها المسلمون: من حكمة الله تعالى في قَدَره، وعجيب صنعه في خلقة: أن الآية الواحدة من آياته يرسلها فتكون رحمةً لقوم، وابتلاءً لقوم، وعذاباً لقوم، وإنذاراً وتخويفاً لقوم، فيجتمع في الآية الواحدة من آياته سبحانه: الرحمة والعذاب والابتلاء والإنذار والتخويف، وهذا يدل على حكمة العليم الحكيم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك:14].
وإذا كانت الأمم الغابرة المتعاقبة قد عُذبت بأنواعٍ من العذاب بحسب ذنوبها - فإن الحضارة المعاصرة قد جمعت جميع الأسباب التي عُذب بها السابقون؛ لأن من يُدير دفتها ويوجهها هم الماديون الذين لا يؤمنون بالله تعالى رباً، ولا يقيمون لدينه وزناً.
فالشرك بالله تعالى، والاستكبار عن عبادته، ومعاداة رسله، ومحاربة شرائعه.. تلك الموبقات العظيمة التي عُذب بسببها السابقون هي البناء الأساس للحضارة المادية المعاصرة؛ إذ أُسست على تنحية الإيمان بالغيب، ونبذ الدين، وحصر العمل لأجل الدنيا!! وهؤلاء المستكبرون عن عبادة الله تعالى يريدون تعميم هذا الفكر الإلحادي على جميع البشر تحت لافتة الحرية التي من أهم بنودها مناهضة العبودية لله تعالى.
والجرائم الأخلاقية التي عُذب بسببها قوم لوط حين شاعت الفواحش فيهم أضحت في عصرنا هذا تُشرَّع بالقوانين في العلاقات المِثْلية، وتُفرض على الناس في بعض الدول، ويُلِحُّ الشاذون من الرجال والنساء على قبول الناس بقذارتهم.
والجرائم الاقتصادية التي فشت في قوم شعيب فعذبوا بسببها، والربا الذي استحله بنو إسرائيل فضربت عليهم الذلة بسببه، كل ذلك موجود في اقتصاد اليوم. بل إن مبنى الاقتصاد العالمي هو على الربا والقمار والغش والاحتكار، وهاهو الكساد الاقتصادي، والانهيار المالي يضرب الدولة الأولى ثم يمتد ليهوي باقتصاد مدينة دبي التي طالما غنَّى الليبراليون العرب بما فيها من حرية وفسوق، ونادوا بتعميم أنموذجها على سائر بلاد العرب.
إن آيات الله تعالى ونذره قد تتابعت كما لم تتابع من قبل، تمثل ذلك في أعاصير تسونامي ومانيمار وكاترينا وعمان.. أعاصيرُ شديدة اجتاحت مدناً، وابتلعت بشراً كثيراً، وزلازل ضربت الجزائر وتركيا والصين وباكستان وإيران وغيرها فخلفت ألوفاً من القتلى والمشردين، وأوبئة تظهر في البشر والحيوان من الإيدز وحمى الوادي المتصدع، وجنون البقر وأنفلونزا الطيور ثم الخنازير، وفتن وحروب يزداد اشتعالها كل عام عما قبله، وتلوث في البحار والهواء ينذر بعواقب وخيمة.
والمستشرفون للمستقبل يحذرون من مجاعات وأوبئة وفوضى قد تقع في أي لحظة، ولا دافع للبلاء إلا الله تعالى، ولا عاصم من أمره سبحانه؛ فاعتبروا بما ترون وتسمعون، وتوبوا إلى ربكم قبل أن يحل بكم عذابه؛ فإن قوماً من إخوانكم قبل أيام كانوا قائلين في فرشهم، آمنين في بيوتهم، متقلبين في نعمهم، أصابهم الغرق من حيث لا يشعرون، تغمدهم الله تعالى بواسع رحمته، وخلف على ذويهم بخير (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [الأعراف:4].
فاعتبروا -يا عباد الله- قبل حلول البلاء؛ فإن العذاب إذا حل بقوم لم يدفعه عنهم شيء (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) [الطُّور:7-8].
وصلوا وسلموا على نبيكم...