الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
أصحابُ الدعوات لا بُدَّ أن يحتمِلُوا تكاليفَها، وأن يصبِروا على التكذيبِ والإيذاءِ من أجلِها، وتكذيبُ الصادق الواثِق مريرٌ على النفس، لكنَّها التكالِيف. فلا بُدَّ لأتباع الرُّسُل أن يصبِروا ويحتمِلُوا، ولا بُدَّ أن يُثابِروا ويثبُتوا، ولا بُدَّ أن يُكرِّرُوا الدعوةَ ويُبدِؤُوا فيها ويُعيدُوا، ولا يجوزُ لهم أن ييئَسُوا من صلاح النفوس، واستِجابة القلوب، مهما واجَهوا من إنكارٍ وتكذيبٍ، ومن عُتُوٍّ وجُحودٍ. إنه من السهل على المُصلِحين أن يغضبُوا لأن الناس لا يستجِيبُون فيهجُرون الناس، ولكن هذا لا ينصُرُ الحقَّ؛ فالمؤمنُ يكظِمُ غيظَه ويمضِي، وخيرٌ له أن يصبِر، والعاقبة للمتقين.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الملك ذي المُلك والملكوت، له المشيئةُ النافذةُ في خلقه وهو الحي الدائمُ الذي لا يموت، وله - سبحانه - العلوُّ على خلقه في القدر والقُدرة والجبروت، سلَّم خليلَه من النار، ونجَّى يونسَ من بطن الحوت، أشهد أن لا إله إلا الله لا تخفَى عليه خافيةٌ ولا تفوت، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه جمَّله ربُّه بأكرم الصفات وأنبَل النُّعوت، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصيةُ بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله وأصلِحوا العمل؛ (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف: 35]، من اتَّقى الله كفاه، ومن اتَّقى الناسَ فلن يُغنُوا عنه من الله شيئًا.
أيها المسلمون: في سِيَر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عِبرات وعِبَر .. مواكِبُ من النور في إثر مواكِب، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
كانت قصصُ القرآن تتنزَّلُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكَّة، والقلَّة المؤمنةُ معه محصورةٌ بين شِعابِها، والطريقُ شاقٌّ وطويل، لا يكادُ المُسلمون يرَون له نهاية. فكان هذا القصصُ يكشِفُ لهم نهايةَ الطريق، ويُريهم معالِمَه، وينقُلُ خُطاهم، ويأخذ بأيديهم.
وكان تثبيتًا لقلبِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120]. يقول له: لستَ وحدك على هذا الطريق، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
أيها المسلمون: واليوم نقِفُ عند قصةِ نبيٍّ من أنبياء الله .. قصةٌ كانت تقول لنبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: إياك أن تُلقِيَ مهمةَ الدعوة وأعباء الرِّسالة .. كانت تقول: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم: 48].
تلك هي قصةُ يونس -عليه السلام-. وقد كان بعثَه الله إلى أهل "نَيْنَوَى" من أرض الموصل، فدعاهم إلى توحيد الله - عز وجل - وعبادته، فكذَّبوه وتمادَوا على كًُفرهم وعنادِهم، فلما طالَ ذلك عليه من أمرِهم خرجَ من بين أظهُرهم غاضِبًا، ووعدَهم حُلولَ العذابِ بعد ثلاثٍ.
خرجَ مُغاضِبًا ظانًّا أن الله لن يُضيِّقَ عليه الأرض، فهي فسيحةٌ، والقُرى كثيرة، والأقوامُ مُتعدِّدون .. وما دام هؤلاء يستعصُون على الدعوة، فسيُوجِّهُه الله إلى قومٍ آخرين. ذلك معنى: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء: 87]؛ أي: فظنَّ أن لن نُضيِّق عليه.
وأما قومُ يُونس فإنه لما خرجَ من بينهم، وتحقَّقُوا نزولَ العذاب بهم؛ قذفَ الله في قلوبهم التوبةَ والإنابةَ، وندِموا على ما كان منهم إلى نبيِّهم، وتضرَّعوا إلى الله، وتذلَّلُوا بين يدَيه، وكانت ساعةً عظيمةً .. فكشفَ الله بحولِه وقوتِه ورأفتِه ورحمتِه، كشفَ عنهم العذاب الذي كان قد اتَّصلَ بهم سببُه، ولم يكن ذلك لأحدٍ غيرهم.
فما من أمةٍ من الأُمم كذَّبَت رسولَها، فنزلَ بها العذاب، فآمنَت حين نزلَ بها العذابُ فنفعَها إيمانُها، قال الله تعالى في سورة يونس: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98].
عباد الله: ويقودُ الغضبُ يونس -عليه السلام- إلى شاطِئ البحر؛ حيث ركِبَ سفينةً مشحونةً بالناس والمتاع، في وسط اللُّجَّة ناوَأَتها الرياحُ والأمواج، وكان هذا إيذانًا عند القوم أن من بين الرُّكَّاب راكبًا مغضوبًا عليه، وأنه ارتكبَ خطيئة، وأنه لا بُدَّ أن يُلقَى في الماء لتنجُو السفينةُ من الغرق.
أو لعلَّهم أرادوا تخفيفَ أحمال السفينة لتنجُو من الغرق، فاقترعُوا على من يُلقُونه من السفينة فخرجَ سهمُ يونس، فلم تسمَح نفوسُهم بإلقائِه، ولكنَّ القُرعة خرجَت عليه مرةً بعد مرة، (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الصافات: 139، 140].
سمَّى الله خروجَه إباقًا؛ كإباق العبد وهروبه من سيِّده؛ لأنه كان خروجًا بغير إذن الله له في الخروج، (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات: 141]. فأُلقِي في البحر، (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات: 142] مُستحقٌّ للَّوم؛ لأنه تخلَّى عن المهمة التي أرسلَه الله بها، وتركَ قومَه مُغاضِبًا قبل أن يأذنَ الله له، التقمَه الحوتُ فلم يأكل له لحمًا، ولم يهشِم له عظمًا.
ومكثَ في بطنه ما شاء الله أن يمكُث، في تلك الظلمات: ظُلمة بطن الحوت، وظُلمة البحر، وظُلمة الليل، نادَى -عليه السلام- ربَّه فقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
رُويَ أن الملائكة لما سمِعَت ذلك قالت: "يا ربِّ! صوتٌ ضعيفٌ معروفٌ، من بلادٍ غريبة".
فاستجابَ الله له ونجَّاه من الغمِّ، (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88]، (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 143، 144].
فلولا أنه كان في حال الرَّخاء قبل أخذ الحوت له من الطائعين المُصلِّين الذاكِرين؛ للبِثَ في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
ويشهَدُ لهذا المعنى قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تُجاهَك».
ويونس -عليه السلام- كان من المُسبِّحين والداعِين وهو في بطن الحوت أيضًا على ما عوَّد نفسَه عليه.
ويُلقِي الحوتُ يونسَ -عليه السلام- على ساحلِ البحر، في مكانٍ ليس فيه شجرٌ ولا ظلٌّ، في حالِ ضعفٍ من البدَن، (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) [الصافات: 145، 146]، وهو القرَع، يُظلِّلُه بورقِه العريض، ويمنعُ عنه الذُّباب الذي يُقال: إنه لا يقرَبُ هذه الشجرة. وكل شجرةٍ لا تقومُ على ساقٍ فهي عند العرب من اليَقطين.
وقد ثبتَ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يُحبُّ الدُّبَّاء، ويتتبَّعُه من حواشِي الصَّحفة.
ثم أمرَه الله بالعودة إلى قومِه، فصدَّقُوه كلُّهم وآمَنوا به، وكان عددُهم مائةَ ألفٍ لا ينقصُون عن هذا العدد، وهذا إكرامٌ من الله تعالى لنبيِّه وتفضيلٌ له، ولهذا كان نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- أكثرَ الأنبياء أتباعًا، قال: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطِيَ ما مثلُه آمنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجُو أن أكون أكثرُهم تابِعًا يوم القيامة».
عباد الله: هذا هو يُونسُ -عليه السلام-، نبيٌّ كريمٌ، ثبتَ في "الصحيحين" قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يُونس بن متَّى».
نبيٌّ كريمٌ من جُملة أنبياء كريم، ذكرَهم الله في سورة النساء والأنعام، وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
وإن الاقتِداءَ العظيمَ في هذه القصة: هو الهديُ الذي قالَه الله لنبيِّه: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) [القلم: 48]، فأصحابُ الدعوات لا بُدَّ أن يحتمِلُوا تكاليفَها، وأن يصبِروا على التكذيبِ والإيذاءِ من أجلِها، وتكذيبُ الصادق الواثِق مريرٌ على النفس، لكنَّها التكالِيف.
فلا بُدَّ لأتباع الرُّسُل أن يصبِروا ويحتمِلُوا، ولا بُدَّ أن يُثابِروا ويثبُتوا، ولا بُدَّ أن يُكرِّرُوا الدعوةَ ويُبدِؤُوا فيها ويُعيدُوا، ولا يجوزُ لهم أن ييئَسُوا من صلاح النفوس، واستِجابة القلوب، مهما واجَهوا من إنكارٍ وتكذيبٍ، ومن عُتُوٍّ وجُحودٍ.
إنه من السهل على المُصلِحين أن يغضبُوا لأن الناس لا يستجِيبُون فيهجُرون الناس، ولكن هذا لا ينصُرُ الحقَّ؛ فالمؤمنُ يكظِمُ غيظَه ويمضِي، وخيرٌ له أن يصبِر، والعاقبة للمتقين، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 97- 99].
عباد الله: أيها المكروبُ والمهمومُ والمُبتلَى! لك في دعاء الأنبياء أُسوة؛ روى الإمام أحمد والترمذي بإسنادٍ صحيحٍ، عن سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «دعوةُ ذي النُّون إذ دعا وهو في بطن الحُوت: لا إله إلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالِمين؛ فإنه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلا استجابَ الله له».
فتأمَّل هذا الدعاءَ العظيمَ، ففيه توحيدٌ وتنزيهٌ واعترافٌ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87].
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما قال عبدٌ قطُّ إذا أصابَه همٌّ وحُزنٌ: اللهم إني عبدُك وابنُ عبدك وابن أمَتِك، ناصيَتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآن العظيم ربيعَ قلبي، ونُورَ صدري، وجلاء حُزني، وذهابَ همِّي؛ إلا أذهبَ الله - عز وجل - همَّه، وأبدلَه مكانَ حُزنِه فرحًا». وفي لفظٍ: «فرَجًا».
قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلَّم هؤلاء الكلمات؟ قال: «ينبغي لمن سمِعَهنَّ أن يتعلَّمهنَّ». وتعلُّمُها يشملُ حفظَها، وفهمَها، والدعاءَ بها.
وثبتَ في "الصحيحين" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعُو عند الكربِ بهذه الكلِمات: «لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض ربُّ العرش الكريم».
فهذه الأدعيةُ من العِلاجات النبويَّة للهُموم والأحزان، من أخذَ بها مُستيقِنًا شرحَ الله صدرَه، وذهبَ عنه ما يجِد.
فإن وُفِّقتَ وصلَّيتَ لله ركعتَين، فتضرَّع..
وسلْ من ربِّك التوفيقَ فيها | وأخلِص في السؤال إذا سألتَ |
ونادِ إذا سجدتَ له اعترافًا | بما ناداه ذو النُّون بن متَّى |
ولازِم بابَه قرعًا عساهُ | سيفتَحُ بابَه لك إن قرعتَ |
وأكثِر ذكرَه في الأرض دأبًا | لتُذكَر في السماء إذا ذكرتَ |
اللهم بارِك لنا في القرآن والسُّنَّة، وانفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، نصرَ عبدَه، وأعزَّ جُندَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه، الحمدُ لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كُفوًا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون: فلسطينُ السَّليبة، والقُدسُ الأسير، والشعبُ المُضامُ بين أهله وإخوانه .. كلُّها عناوين للعجز العربي، وساحةٌ للمُتاجرات السياسية، وإرهابُ الدولة الذي يُمارِسُه الكِيانُ المُحتلُّ مهما حاولَت الدولُ التي غرسَتْه ورعَتْه تبريرَ جرائمِه، والتستُّر على مجازرِه؛ فإن الغِطاءَ لا بُدَّ أن ينكشِف، والتعتيمَ لا بُدَّ له من مدى ينتهي إليه.
ولئن ساءَنا ما سقطَ من ضحايا، وآلمَنا ما شُرِّد من أُسَر، ورُوِّع من أُناس، ومع اختلاف الخلق حول الأسباب؛ فإن الأمل المُضيءَ في ليل الاعتِداء الحالِك تمثَّل في جوانِب كثيرة:
منها: تفهُّم كثيرٍ من شعوب الأرض إجرامَ الغاصِب المُحتلِّ، ودموية المُعتدِي الآثِم، وشناعةَ القاتل الغادِر.
إن التعتيمَ على جرائمِ المُجرِمين في حقِّ الفلسطينيين وفلسطين هو اللِّحافُ الذي طالَما تستَّر به العدوُّ، وقد انكشفَ وانكشَفَت معه سوءَاتٌ كثيرة .. انكشفَ من كان يسترُه ويُبرِّرُ جرائمَه واحتلالَه، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا).
لم يُحقِّقُوا سوى قتلَ الأطفال والمدنيين، وهدمَ المساجد والمنازِل، ومجازِر جماعيَّةٍ لا تستثنِي أحدًا، وجرائِم حربٍ ضدَّ الإنسانيَّة، دون وازِعٍ أخلاقيٍّ أو إنسانيٍّ، كلُّ ذلك تحت المُجتمع الدولي وبصرِه بكل مؤسساته ومُنظَّماته الصامِتة المُتخاذِلة.
وإن المُواجهَة الأخيرة على أرض غزَّة، رغم تكرُّر مثيلاتها، إلا أن الجديدَ فيها هو أن ميزانَ القوى قد مالَ قليلاً لصالِحِ المظلومين، على وجهٍ لم يسبِق أن حدثَ مثلَه في كل المُواجهات السابِقة، مما يُبشِّرُ بتغيُّراتٍ أكثرَ نِدِّيَّة في مُواجَهَة المُحتلِّ الظالِم، خصوصًا مع التغيُّرات الطارِئة في المنطقة، والتي رغم سُوء بعضِها وضبابية البعض الآخر، إلا أن الشَّررَ لا بُدَّ أن يَطالَ ظالِمًا طالَ ظلمُه، ومُعتدٍ استمرَأَ القتلَ والتهجير.
فرحِمَ الله شُهداء فلسطين، وشفَى جِراحَهم، وعوَّضَهم في أموالهم وبيوتهم، ووفَّقهم لقيادةٍ صالحةٍ ناصِحةٍ.
وشُكرًا لشعوبٍ لم يجمعها مع الفلسطينيين لسانٌ ولا دين، اتَّخذَت مواقِف مشكورةً من الاعتِداء الأخير، ولا عزاءَ للمخذولين! (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن عبد الله. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين والخُلفاء المرضيين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبعَ سُنَّتَهم يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادَنا بسوءٍ أو فُرقةٍ فرُدَّ كيدَه في نَحره، واجعَل دائرةَ السوء عليه، واجعَل تدبيرَه دمارًا عليه يا رب العالمين.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحةَ الناصِحة، اللهم وفِّقه ونابَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيلَ الرشاد.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهُدى، اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعاتهم، واحفَظ دينَهم، وأعراضَهم، وديارَهم، وأموالَهم.
اللهم كُن للمظلومين والمُضطَهدين والمنكوبين، اللهم انصُر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم اجمعهم على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزُونَك.
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافيةَ والمُعافاةَ الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُرِّيَّاتهم، وأزواجنا وذريَّاتنا، إنك سميع الدعاء.
اللهم وفِّقنا للصالِحات، وكفِّر عنا السيئات، وتقبَّل صلاتَنا وصيامَنا ودُعاءَنا وصالحَ أعمالنا، إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيمُ.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.