السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الرضا باب الله الأعظم، ومستراح المتقين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين وهو العمل الذي يتقدم على الصبر. الرضا الذي هو سكون القلب ورضاه بما قسم الله -عز وجل- له فلا يندم العبد على ما فات من الدنيا، ولا يتأسف على ما مضى مما لم يقدر له.. فأما الرضا بالقضاء فهو من علامات المخبتين الصادقين في المحبة، فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت بكل ما يقضيه عليها من مؤلم وملائم، وإذا امتلأت القلوب بالرضا عن المحبوب صار رضاها في ما يرد عليها من أحكامه وأقداره...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، ولمجده ترفع الرغبات، وبفضله تستجلب الخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم رفيع الدرجات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون فلقد علق الله -تعالى- الفلاح بالصبر والتقوى، فقال جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
عباد الله : العبد في هذه الحياة معرَّض للمحن والابتلاء والمصائب والكوارث، والناس من الدنيا على وجل؛ إما بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية، وصدق الله إذ قال (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].
وخير ما تواجه به كروب الحياة وقوارع الأيام والمحن والبلايا والأسقام الصبر الذي هو خير لأهله، قال الله -جل وعز-: (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ)، وهو واجب على العبد وفيه ثواب عظيم (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).
وأما الرضا فهو باب الله الأعظم، ومستراح المتقين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين وهو العمل الذي يتقدم على الصبر.
الرضا الذي هو سكون القلب ورضاه بما قسم الله -عز وجل- له فلا يندم العبد على ما فات من الدنيا، ولا يتأسف على ما مضى مما لم يقدر له.
الرضا يا عباد الله أن تسلموا بما أمر الله به، وترضوا بما رضيه الله لكم، ولا تجزعوا مما يجري به قضاؤه من الأوامر والنوازل والمصائب، بل تسلموا لربكم وتسكن نفوسكم إلى قضاءه فهو العليم الحكيم.
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب".
ومن كلام بعضهم: "أفضل الأعمال الرضا عن الله".
وقال عبدالواحد بن زيد: "ما أحسب أن شيئًا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا، ولا أعلم درجة أشرف ولا أرفع من الرضا وهو رأس المحبة".
وقال الإمام أحمد بن حنبل وهو تحت المحنة: "أجمع تسعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين على أن السُّنّة التي توفي عليها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أولها الرضا بقضاء الله -تعالى-، والتسليم لأمره، والصبر تحت حكمه".
الراضون عن الله هم حزب الله ، قال الله -تعالى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].
قال بشر بن الحارث: "مَنْ وُهِبَ لَهُ الرِّضَا فَقَدْ بَلَغَ أَفْضَلَ الدَّرَجَاتِ".
قال الحافظ ابن رجب: "فأما الرضا بالقضاء فهو من علامات المخبتين الصادقين في المحبة، فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت بكل ما يقضيه عليها من مؤلم وملائم، وإذا امتلأت القلوب بالرضا عن المحبوب صار رضاها في ما يرد عليها من أحكامه وأقداره".
وكان عمر بن عبدالعزيز يدعو فيقول: "اللهم رضِّني بقضائك وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخّرت ولا تأخير ما عجلت".
ويقول: "تركتني هذه الدعوات وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر".
وفي مسند الإمام أحمد: "لا تتهم الله في شيء قضاه لك".
وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إن الله -تبارك وتعالى- إذا قضى قضاء أحب أن يُرضى به".
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله".
ولما سُئل الحسن عن التوكل قال: "الرضا عن الله".
وكان سفيان الثوري يقول: "احذر سخط الله في ثلاث؛ احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئا من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك -عز وجل-".
أيها المسلمون : إن لله عبادا يستقبلون المصائب والأمراض بالصبر والتسليم والبشر والرضا بما قدر الله وقضى، أولئك الذين هدى الله وصفت قلوبهم من الدنيا، وأيقنوا بحكمة الرب وعدله فهو القائل جل جلاله: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "ما أبالي على أي حال أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره".
عباد الله: الرضا بالقضاء مقام عظيم من حصل له فقد -رضي الله عنه- كما قال الله جل وعز (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه: "من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".
ولقد روى الإمام أحمد والنسائي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو: "وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ"، قال ابن رجب: "وإنما قال الرضا بعد القضاء؛ لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا حتى إذا وقع القضاء فقد تنفسخ العزائم"، فلا ينبغي للعبد أن يتعرض للبلاء، ولكن يسأل الله العافية، وأن يرزقه الرضا بالبلاء إن قدر له البلاء.
وكان بعضهم يقول: "الراضي لا يتمنى غير منزلته التي هو عليها؛ لأنه قد رضي بها".
ودخلوا على رجل من التابعين وهو مريض، فسألوه عن حاله، فقال: "أحبه إليّ أحبه إليه سبحانه".
وكان رجل من الصالحين يطوف بالكعبة، فهجم القرامطة الأشرار على الناس يقتلونهم بالسيوف فلم يقطع طوافه حتى سقط مقتولاً وتمثل:
ترى المحبين صرعى في ديارهمُ | كفتية الكهف، لا يدرون كم لبثوا |
وقتل لبعضهم ولدان في الجهاد فجاء الناس يعزونه بهما فبكى، وقال: "ما أبكي على قتلهما، ولكن كيف كان رضاهما عن الله حين أخذتهم السيوف:
إن كان سركم ما قد بُليت به | فما لجرح إذا أرضاكم ألَم" |
قال ابن الجوزي: "دخلت على شيخنا عبد الأول وهو مريض قد بلي لحمه ووهن عظمه واشتد به الألم، قال: فدمعت عيني لما نزل به فنظر إليَّ، وقال: " يا بني إن الله لا يُتَّهَم في قضائه".
أيها المسلمون: وأقسام الرضا ثلاثة واجب ومستحب ومحرم؛ فأما الرضا الواجب فهو ما رواه مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا".
ومن الواجب أن يرضى بما حصل له من المصائب بمعنى أن يترك الجزع، وأن يرضى بما كتب الله له من المرض والفقر والزوجة وإن كانت قليلة الجمال، وأن يرضى بما قسم الله له من الأولاد وإن كان عددهم قليلاً أو كانوا إناثًا فقط أو ذكورا فقط، ويرضى بقبيلته وجماعته وقومه الذي خلقه الله فيهم وجعله منهم وإن كانوا أقل شرفًا ورفعة من غيرهم وهكذا .
وأما الرضا المستحب فهو ما زاد عن القدر الواجب في هذا وهو الدرجة العليا من الرضا عند المصيبة بأن تسكن النفس، وأن يحمد العبد ربه على كل حال، قال الحافظ ابن رجب "فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب إحداهما أن يرضى بذلك وهذه درجة عالية رفيعة جدًّا".
قال الله -عز وجل-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال علقمة: "هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى".
وخرّج الترمذي من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط".
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "وأسألك الرضا بعد القضاء"، فمن وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيم وسرور قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
أما الدرجة الثانية فهي أن يصبر على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء فالرضا فضل مندوب إليه مستحب، وأما الصبر فواجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير، والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر كفّ النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضي الجزع.
وأما الرضا فهو انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية، جعلني الله وإياكم ممن يصبر على بلائه ويرضى بقضائه ويؤمن بلقائه؛ إنه جواد كريم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من أجلّ ثمرات الرضا عن الرب بما يقدّره ويقضي به على العبد أن يعلم أن رضاه عن ربه -سبحانه وتعالى- في جميع الحالات يثمر رضا ربه عنه، فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق رضي ربه عنه بالقليل من العمل.
ومن ذلك أن يعلم أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه، ومن ذلك أن التسخط باب الهمّ والغمّ والحزن وشتات القلب، وسوء الحال والظن بالله خلاف ما هو أهله والرضا يخلصه من ذلك كله وينزل عليه السكينة التي لا أنفع منها له.
أيها المسلمون: إن رغبتم أن تصلوا إلى منزلة الرضا فعليكم بالصبر على الطاعة والأذى ولزوم الدعاء، ففي حديث زيد بن ثابت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمه دعاءً وأمره أن يتعاهده وأن يتعاهد به أهله كل يوم وفي هذا الدعاء: "أسألك اللهم الرضا بعد القضاء".
وليكن العبد متوكلاً على ربه قابلاً ما قسم له.. سئل يحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ فقال: "إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه -عز وجل- فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت".
ومما يعين العبد على الوصول إلى الرضا أن يجالس الفقراء، وأن يتذكر الموت والبلاء، وأن يجاهد نفسه ويحاسبها، وأن يتفكر فيمن هو أشد منه وأعظم، ويكفي في طلب الرضا والسعي إليه أنه سبب لكل خير، فلقد كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأبي موسى -رضي الله عنه- "أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
وفي الختام : فهاكم القسم الثالث من الرضا المحرم، وهو أن يرضى العبد بالكفر والفسوق والعصيان، فإن هذا معصية، وقد قيل: من رضي بالفسق فهو من أهله، ومن رضي أن يُعصى الله لم يُرفَع له عمل. قال القرطبي: وهذه مسألة عظمى حيث يكون الرضا بالمعصية معصية.
نسأل الله الكريم لنا ولكم أن يرزقنا الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهه والشوق إلى لقائه ...