البحث

عبارات مقترحة:

الصمد

كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

أسرار القلوب

العربية

المؤلف محمد بن إبراهيم الشعلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المهلكات
عناصر الخطبة
  1. تفرُّد الله تعالى بعلم ما في القلوب .
  2. التحذير من إساءة الظن بالمسلمين .
  3. من مظاهر التعدي بالحكم على قلوب العباد .
  4. وجوب أخذ الناس بالظاهر. .

اقتباس

فظن السوء -عباد الله- خلق لا يليق بالمسلم أن يتحلى به، فليس للناس من الناس إلا ما ظهر لهم، وأما سرائرهم فهي إلى الله -عز وجل-، فهو الذي يحاسبهم عليها.

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه، وتوبوا إليه من كل ذنب قبل الممات.

عباد الله: أسرار القلوب وما تنطوي عليه لا يعلمها إلا الله عز وجل، فليس للعباد سبل إليها واطلاع عليها، بل علم ذلك إلى علام الغيوب جل في علاه، فهو الذي يعلم كل غيب وشهادة، ويعلم كل سر ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن.

ويوم القيامة تظهر السرائر وتبدو، ويبقى السر علانية، والمكنون مشهوراً، يراه الناس ويعلمونه، وقد قال -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق:9]، أي: تبدو وتظهر وتنكشف، وذلك يوم القيامة.

ولهذا؛ ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يرفع لكل غادر لواء عند ا سته، يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان".

وأما في الدنيا، فأسرار القلوب وما تخفي الصدور لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما قال -سبحانه-: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [التغابن:3-4].

وقال -عز شأنه-: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام:3]. وقال -جل ذكره-: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة:78].

من أجل هذا -عباد الله- فليس للأخ من أخيه إلا ما أظهره من خير أو شر، أما سريرته فعلمها إلى الله، ويجب أن يوكل علمها إلى علام الغيوب، وليحذر المسلم من أن يظن بأخيه المسلم سوءاً أو شراً لا دليل واضحاً عليه، بل هو تدخل في السريرة لعمل قام به أو قول قاله، أو لحاله أو صفته، فإذا رآه يبكي في صلاته أو قراءته أو دعائه قال: هذا يبكي رياء وسمعة! أو سمعه يقرأ القرآن ويحسن صوته به قال: هذا يقرأ رياء، حتى يقول الناس: ما أحسن صوته وأجود قراءته! أو رأى داعية أو طالب علم يتصل بأهل الثراء والجاه فيقول: هذا ما أظهر الخير والصلاح والاستقامة إلا ليصل إلى مآربه الدنيوية، وهكذا -عباد الله-، وكأنه يعلم ما في سريرته، ويعلم قصده.

فظن السوء -عباد الله- خلق لا يليق بالمسلم أن يتحلى به، فليس للناس من الناس إلا ما ظهر لهم، وأما سرائرهم فهي إلى الله -عز وجل-، فهو الذي يحاسبهم عليها.

اسمعوا -عباد الله- إلى هذه الحادثة التي وقعت لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه -رضي الله عنه- أنه قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة، فصبحنا القوم، أي: بالعدو، فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه، أي: أدركناه، قال: لا إله إلا الله! فكف عنه الأنصاري، وطعنته أنا برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أسامة! أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟!" فقلت: كان متعوذاً! وفي روايةٍ قلت: قالها خوفاً من السلاح! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟". أي: أقالها متعوذاً أم قالها صدقاً وإسلاماً. وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة؟" فأقول: يا رسول الله، استغفر لي. فيقول: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا  أتتك يوم القيامة؟"، لا يزيد على ذلك. قال أسامة: فتمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. أي: تمنيت أنني ما أسلمت إلا هذه اللحظة.

أرأيتم -عباد الله- كيف فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أسامة -رضي الله عنه- وبين له أن العمل يكون بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس للإنسان طريق إلى ما فيه؟ فالأحكام يعمل فيها بالظواهر، والله يتولى السرائر.

ولهذا؛ ثبت في صحيح البخاري -رحمه الله- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة".

وقد قيل:

وما المرء إلا قلبه ولسانه

إذا حصلت أخباره ومداخله

نعم -عباد الله- ليس لنا من إخواننا إلا ما ظهر، ولا يليق بنا أن نظن بهم شراً أو سوءاً إذا ما أظهروا الخير ولم يبد منهم الشر والسوء، وقد روي عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "رأيت رجلا يبكي، فقلت: هذا يبكي رياء، فحرمت بسبب هذا الحكم قيام الليل خمسة أشهر".

وإنك لترى من وقع في مثل هذا الأمر من عامة الناس ومن بعض من ينتسب إلى العلم والصلاح، فيحكمون على الشخص بسريرته لا بما ظهر منه ولا يكلون سريرته إلى ربه -عز وجل-، بل صارت حالهم كحال من قال في طائفة من قومه، سيرتهم كهذه: التدخل في السرائر والحكم بها على الظواهر، قال فيهم:

إذا ما رأوا خيرا رموه بظنة

وإن عاينوا شرا فكلٌّ مناضل

وإن عاينوا حبرا أديبا مهذبا

حسيبا يقولوا إنه لمخاتل

وإن كان ذا ذهن رموه ببدعة

وسموه زنديقا وفيه يجادل

وإن كان ذا دين يسموه نعجة

وليس له عقل ولا فيه طائل

وإن كان ذا صمت يقولون صورة

ممثلة بالعي بل هو جاهل

وإن كان ذا شر فويل لأمه

لما عنه يحكي من تضم المحافل

وإن كان ذا أصل يقولون إنما

يفاخر بالموتى وما هو زائل

وإن كان مجهولا فذلك عندهم

كبيض رمال ليس يعرف عامل

وإن كان ذا مال يقولون ماله

من السحت قد رابى وبئس المآكل

وإن كان ذا فقر فقد ذل بينهم

حقيرا مهينا تزدريه الأراذل

وإن قنع المسكين قالوا لقلة

وشحة نفس قد حوتها الأنامل

وإن هو لم يقنع يقولون إنما

 يطالب من لم يعطه ويقاتل

وإن يكتسب مالا يقولوا بهيمة

أتاها من المقدور حظ ونائل

وإن جاد قالوا مسرف ومبذر

وإن لم يجد قالوا شحيح وباخل

وإن صاحب الغلمان قالوا لريبة

وإن أجمعوا في اللفظ قالوا مباذل

وإن هوي النسوان سموه فاجرا

وإن عف قالوا ذاك خنثى وباطل

وإن تاب قالوا لم يتب منه عادة

ولكن لإفلاس وما تم حاصل

وإن حج قالوا ليس لله حجه

وذاك رياء أنتجته المحافل

وإن كان بالشطرنج والنرد لاعبا

ولاعب ذا الآداب قالوا مداخل

وإن كان في كل المذاهب نابزا

وكان خفيف الروح قالوا مثاقل

وإن كان مقداما يقولون أهوج

وإن كان ذا ثبت يقولون باطل

وإن يعتلل يوما يقولوا عقوبة

لشر الذي يأتي وما هو فاعل

وإن مات قالوا لم يمت حتف أنفه

لما هو من شر المآكل آكل

وما الناس إلا جاحد ومعاند

وذو حسد قد بان فيه التخاتل

فلا تتركن حقا لخيفة قائل

فإن الذي تخشى وتحذر حاصل

عباد الله: من أظهر الخير فقربوه، ومن أظهر الشر فاجتنبوه، ومن لم يظهر خيراً ولا شراً فصاحبوه وأوكلوا السرائر إلى علام الغيوب جل في علاه، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11].

فعلينا -عباد الله- أن نظن بإخواننا المسلمين خيراً، وأن نكل سرائرهم إلى الله عز وجل، نسلم من التبعة  والإثم.