الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن ذهاب الشهور والأعوام، إيذان لكم بقرب الارتحال من دنيا الممر إلى دار المقر والدوام، ولقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- يغتنمون الشهور والأعوام، بما يقربهم إلى ربهم الملك العلام. بل إنهم يغتنمون الليالي والأيام، فلا يمر عليهم يوم ولا ليلة بلا فائدة ولا كسب مثمر، طرحوا عنهم اللهو واللعب وإضاعة الأوقات فيما لا فائدة فيه ولا نفع، فهم ما بين علم يتعلمونه، وجهاد في سبيل الله وطاعة وعبادة، وقيام بحقوق الأسرة، وصلة رحم، وزيارة مريض، ودعوة إلى الله -عز وجل-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي من اتقاه رزقه ويسر له الأسباب، أحمده -سبحانه- وأشكره وهو الملك الوهاب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القانت الخاشع الأواب، سيد البشر يوم الحساب، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه الوصية الأُولى لِأُولي العقول والألباب، قال -سبحانه وتعالى-: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) [النساء:131].
عباد الله: إن ذهاب الشهور والأعوام، إيذان لكم بقرب الارتحال من دنيا الممر إلى دار المقر والدوام، ولقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- يغتنمون الشهور والأعوام، بما يقربهم إلى ربهم الملك العلام.
بل إنهم يغتنمون الليالي والأيام، فلا يمر عليهم يوم ولا ليلة بلا فائدة ولا كسب مثمر، طرحوا عنهم اللهو واللعب وإضاعة الأوقات فيما لا فائدة فيه ولا نفع، فهم ما بين علم يتعلمونه، وجهاد في سبيل الله وطاعة وعبادة، وقيام بحقوق الأسرة، وصلة رحم، وزيارة مريض، ودعوة إلى الله -عز وجل-.
إن قدوتهم في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يقوم بذلك كله، مع أن الله -عز وجل- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد جاهد في سبيل الله حق جهاده، وأوذي في سبيل الله فصبر واحتسب، حتى أظهره الله على أعدائه ونصره عليهم، وأعز به الكلمة الوثقى، وأذل به كلمة الكفر السفلى.
وقد كان يقوم بعبادة ربه، ويشد على نفسه في ذلك، ففي الصحيح، عن المغيرة -رضي الله عنه- قال: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم أو ليصلي حتى تتورم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟".
وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة"، فكان -عليه الصلاة والسلام- لا يمل من عبادة ربه ولا يتضجر، ومع هذا كان يحث أمته على القصد في العبادة، والتيسير على النفس، حتى لا تمل ولا تنقطع؛ لأن النفس يعتريها الملل، وتعتريها السآمة.
من أجل ذلك أرشد -عليه الصلاة والسلام- أمته إلى القصد في النوافل، والإقلال منها، والمداومة عليها، وبيّن أن المداومة مع التقليل خير من الانقطاع مع الكثير، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها، وإن قل".
وسئل -عليه الصلاة والسلام-: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: "أدومها، وإن قل"، وقال "اكلفوا من العمل ما تطيقون"؛ وما ذاك إلا رحمة بأمته، وشفقة عليهم، وما أرسل إلا كذلك، قال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
وكان -عليه الصلاة والسلام- مع اجتهاده في العبادة وجهاده في سبيل الله، يقوم على أهله وينظر في مصالحهم، وينفق عليهم، ويخدم في بيته.
بل جاء في سنن الترمذي: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله"، أي: أرفقهم وأبرهم بنسائه وأولاده وأقاربه. وجاء في سنن الترمذي -أيضاً- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسافر إذا قضي حاجته من سفره وأدرك وطره منه، أن يعجل بالعودة إلى أهله ولا يبطئ عنهم، وما ذاك إلا لحاجة أهله إليه ليقوم بواجبه نحوهم، فلا يجوز أن يترك أهله هملاً، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله".
وبين -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن لأهله عليه حقاً فلا يحل له ترك هذا الحق، حتى ولو كان سببُ تركه طاعةَ الله -عز وجل-، ففي الحديث الصحيح، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟"، قلت: إني أفعل ذلك، فقال: "فإنك، إذا فعلت ذلك، هجَمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً؛ فصم وأفطر، وقم ونم".
ما أرحمه -عليه الصلاة والسلام-! وما أرأفه بأصحابه خصوصاً، وبأمته عموماً! يوجههم ويرشدهم إلى الحقوق التي عليهم والحقوق التي لهم، يرشدهم إلى ما يذهب السآمة عنهم والملل من قلوبهم، ويحببهم في العبادة، فصلوات ربي وسلامه عليه، وجزاه الله عن أمته خير ما جزى نبياً عن أمته.
هكذا هو -عليه الصلاة والسلام-، قدوة للأمة في أقواله وأفعاله وأخلاقه وهديه مع أهله ومع صحابته ومع الناس جميعاً؛ ولهذا سار الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان على هديه -عليه الصلاة والسلام-، واقتدوا به في أقواله وأفعاله وأخلاقه، فصاروا أعلاماً لمن بعدهم يهتدى بهم.
ورأس الصحابة من بعده أبو بكر الصديق-رضي الله عنه- خليفة رسول الله، ورأس المبشرين بالجنة، السباق إلى الطاعة، النهاز للمواسم الفاضلة، اسمعوا إلى هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحدث أصحابه: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟" قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".
أسمعتم -عباد الله- إلى هذا النشاط والاجتهاد والتنوع في العبادات من أبي بكر-رضي الله عنه-؟ نعم عباد الله:
وما استعصى على قوم منال | إذا الإقدام كان لهم ركابا |
هكذا كان السلف -رحمهم الله- حرصا وإقداما، وثباتا واجتهادا، لم يثنهم الفقر عن المسارعة إلى مغفرة من ربهم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، ولم يلههم الغنى عن المسابقة والمنافسة في الخيرات والأعمال الصالحة، عرفوا ربهم -جل وعلا-، وعرفوا عدوهم، وأدركوا أن العيش الحقيقي عيش الآخرة، فهانت في نفوسهم الدنيا، وكبرت فيها الآخرة، فسعوا إلى الآخرة سعياً حثيثاً.
ولقد صدَق عليهم قول القائل:
إن لله عباداً فطنا | تركوا الدنيا وخافوا الفتنا |
نظروا فيها فلما علموا | أنها ليست لحي وطنا |
جعلوها لجة واتخذوا | صالح الأعمال فيها سفنا |
وانتم -عباد الله- في شهر شعبان، هذا الشهر الذي كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه شأن... فقد ثبت في الصحيح عن عائشة-رضي الله عنها-، قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان".
وقال له أسامة: يا رسول الله! لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟! قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" رواه النسائي في سننه.
وجاء في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل رجب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبارك لنا في رمضان"، الحديث.
هذا شأنه -عليه الصلاة والسلام- مع شهر شعبان، فنسأل الله -سبحانه- أن يبارك لنا في شهر رجب وشعبان ورمضان، وأن يوفقنا للعمل الصالح، وأن يجعل حبه في قلوبنا ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين.
عباد الله: وإن تخصيص شعبان بشيء من العبادات أو القربات أو الأعمال التي لم يرد الشرع بها أمر بدعي، فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده يخصون شعبان بشيء من ذلك ولم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- شيء سوى ذلك.
فمن خص شعبان بشيء من العبادات أو الأعمال فقد وقع في الابتداع، والمسلم مأمور بالاتباع ومنهي عن الابتداع، فلنتق الله عباد الله ولنحرص على الاتباع وتحري هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن هديه خير هدي، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته: "أما بعد: إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".