السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فتنة القنوات الفضائية والإنترنت والجوال وما فيهما من مصائب، فكم فتَنَتْ كثيراً من الناس، لا سيما شبابنا! فتنة ما يثير الغوغائيون من الشكوك والخلافات وتحريض بعض الناس على بعض؛ مما أحدث شروراً ومصائب في المجتمع المسلم، فتنة الشائعات التي لا حقيقة لها، ونشرها لإفساد القلوب، والبلبلة بين صفوف المجتمع، فتنة المصائب والولايات وما تحدثه عند البعض من سوء العاقبة في أموره كلِّها ..
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: نحن في زمنٍ كثُرت فيه الفتن وتنوعت، وأصبح المسلم يسمع أو يشاهد هذه الفتن بكرةً وعشياً، نزل بالناس كثيرٌ من البلايا والمصائب والمحن، وكثيرٌ من النوازل وانتشرت الفتن، ولله الحكمة فيما يقضي ويقدّر، فإن من حكمة الله أن هذه الفتن يتبين فيها صادق الإيمان من ضده، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2-3].
والفتن أنواعٌ متعددة، فمنها فتنة المال، فكم يفتتن بالمال مَن يفتتن! ولهذا قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [المنافقون:9]، فتنة الأولاد، فكم استعصى على بعض ولاة أمر الأولاد شأنهم! فتنة النساء، فكم فتنَّ كثيراً من الرجال! وكم جعلها الأعداء مكيدةً لإفساد المجتمع المسلم! جعلوها مكيدةً لإفساد المجتمع المسلم، فتنة مخالطة الأشرار من الكفار والمنافقين، بلاءٌ على المسلمين وشرٌ عظيم.
فتنة القنوات الفضائية والإنترنت والجوال وما فيهما من مصائب، فكم فتَنَتْ كثيراً من الناس، لا سيما شبابنا! فتنة ما يثير الغوغائيون من الشكوك والخلافات وتحريض بعض الناس على بعض؛ مما أحدث شروراً ومصائب في المجتمع المسلم، فتنة الشائعات التي لا حقيقة لها، ونشرها لإفساد القلوب، والبلبلة بين صفوف المجتمع، فتنة المصائب والولايات وما تحدثه عند البعض من سوء العاقبة في أموره كلِّها.
ولمَّا كانت هذه الفتن تمر وتَتَجَدَّدُ في كُلِّ زمانٍ، وتخرج بأساليبَ مختلفةٍ، حذَّرَنا منها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ففي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم، يُصْبِحُ الرجلُ مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا"، فقوله: بادروا بالأعمال، أي: قبل أن يتعذر عليكم، أو تشغلكم هذه الفتن التي كقطع الليل المظلم، يلتبس فيها الحق بالباطل، يكون الرجل مسلماً في أول النهار، فتلك الفتن تؤثر على دينه ومعتقده، ويصبح كافراً، وبالعكس، قال بعض العلماء: يصبح محرِّماً لدم أخيه وماله وعرضه، ويمسي مستحلاً لدم أخيه وماله وعرضه.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج"، فقوله: يقبض العلم: قبضُ العلم بينه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسُئِلوا فأفتَوا بغير علمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا"، وقوله: تكثر الزلازل، أي: التخويف من الله لعباده لمعاصيهم وسيئات أعمالهم، وتقارب الزمان إما بنقصه، أو بانتزاع البركة منه، ويكثر الهرج، والهرج هو القتل، نسأل الله السلامة والعافية.
قالت أم سلمة: استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلةً من منامه وهو يقول: "سبحان الله! ماذا أُنزل من الفتن؟ وماذا فُتِحَ من الخزائن؟ أيقِظوا صواحب الحجرات، فربَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة"، فمراده بالفتن العذاب، وبالخزائن الرحمة والخير الذي حصل للمسلمين بالفتوحات الإسلامية.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص، كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنَّا من يُصلح خباءه، ومنَّا من ينتظل، ومنّا من هو في جشره، فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الصلاة جامعة، فاجتمعنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما بعث الله نبياً قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم، وإن الله جعل عافية أمتي في أولها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وفتن، يُرقِّق بعضها بعضاً، تأتي الفتنة فيقول المسلم، هذه مهلكتي، فتنكشف، ثم تأتي أخرى فيقول هذه هذه، فمَن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ للناس ما يُحب أن يُؤتوا إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فلْيُطِعْهُ قدر ما استطاع، فإن جاء آخَرُ ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
وقال حذيفة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تعود القلوب إلى قلبين، قلبٌ أبيض كالصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، وقلبٌ أسود مرباداً كالكوز مُجخياً لا يَعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِبَ من هواه".
فتأمل -أخي المسلم- قوله -صلى الله عليه وسلم-: تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، ترد على قلب العبد فتنٌ عظيمة، لكن القلب المستنير بنور الإيمان يُنكِرُها ويرفضها، قلبه أبيض كالصفا لا يتأثر بأي فتنة ما دامت السماوات والأرض؛ لأن الإيمان قوي، والبصيرة قوية، يستكشف بها الباطل فيجتنبه، أما الآخر فقلبه أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِبَ من هواه، تلك المصيبة! نسأل الله السلامة والعافية.
أخي المسلم: فتأمل معي فتنة المال، فتنة المال فتنةٌ لأيِّ مفتون، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن المال فتنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لكل أمةٍ فتنة، وفتنة أمتي المال"، وقال: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت مَن كان قبلكم".
فتنة المال فتنةٌ عظيمة، قال الله -جل وعلا-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن:15]، لا شك أن محبة المال غريزةٌ في النفوس، (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) [البلد:20]، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8]، ولكن فتنة المال تُعمي صاحب المال من جهة جمع هذا المال، وتنميته، والإنفاق، والمباهاة فيه، فإن البعض من الناس يحمله حب المال والافتتان بالمال أن لا يبالي بأيِّ طريقٍ حصل على المال، أحصل عليه من طريقٍ مشروع، أم حصل عليه من طريقٍ غير مشروع؟ لا يبالي بالمال، الطريق سليم أم غير سليم؟.
ولهذا جاء في الحديث: "يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي العبد بمَ كسب من المال، أمِن حِلٍّ أم من حرام"، فُتِنَ بجمعه فأشغل وقته به، عُذِّبَ به لأنه لم يتخذه وسيلة لما ينفعه في الآخرة، (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55]، هذا المال الذي ناله من غير طريقٍ مشروع، إن أنفقه على نفسه لم يؤجر عليه، وإن تصدق به لم تقبل صدقته منه، وإن أبقاه لم يبارك له فيه، وإن خلَّفه كان زاده إلى النار، وربَّ وراث أحسَن فيه، واتقى الله فيه، فصار على الجامع غُرْمُه، وعلى الوارث غنمه، والله حكيمٌ عليم.
فليتق المسلم ربه، وليحذر فتنة المال، وأن يكون واقعاً في كسبه حرام، فالربا، والسرقة، والغصب، ونهب الأموال، وجحد الحقوق، وجحد الأمانات، والتعدي على الأموال العامة بأيِّ وسيلة كانت، وليعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
الفتنة في الأولاد، حب الأولاد غريزةٌ في النفوس، ولكن الله حذرنا بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن:14]، وقال: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن:15]، فهم فتنةٌ لمن افتتن بهم، حب الولد أحياناً يحمل الإنسان على أن لا يربيه التربية الصالحة، لا يحذِّره من منكر يراه واقعاً فيه، ولا يأمره بواجبٍ يراه مقصِّراً فيه، يترك تربيته، وتوجيهه، والأخذ على يده، بدعوى محبته ورحمته.
ولا يعلم هذا الإنسان أن التربية الصالحة، والتأديب الطيِّب أنه مصلحةٌ للابن، وخيرٌ تسوقه للابن، ففي الحديث، "ما نحل والدٌ ولداً خيرٌ من أدبٍ حسَنٍ"، فالأدب الحسَن، والتربية الصالحة، خيرٌ للأولاد في حاضرهم ومستقبلهم، والرحمة والرقة إذا حملت على تعطيل التربية والتوجيه وإقامة ما اعوجَّ من الأخلاق كانت تلك رحمةً سيئة، لم تكن رحمة، ولكنها نقمةٌ في الحقيقة.
أيها المسلم: فتنة النساء عظيمة إلا من عصم الله من الناس، كم يفتتن الرجال بالنساء! وكم تكون المرأة المسلمة سبباً لافتتان الرجال بها! من حيث التبرج، والسفور، والاختلاط بالرجال، والخلوة الممنوعة، كل هذه أمورٌ تسبب افتتان الرجال بالنساء، إذاً؛ فالمرأة المسلمة مطلوبٌ منها تقوى الله، والبعد عن التبرج والسفور، والبعد عن مخالطة الرجال، والخلوة بمن ليس محرماً لها، "ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" .
أيتها المرأة المسلمة: فصوني عرضكِ، واتقي الله في نفسكِ، واحذري أن تكوني سبباً في إغراء الرجال وتطلُع الأبصار إليكِ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما تركت بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" .
أيها المسلم، ومن أنواع الفتن، فتنة القنوات الفضائية والإنترنت وأمثالها، هذه وسائلُ فيها خيرٌ لمن أراد الخير، ولكنَّ -للأسف الشديد!- كثيراً من الناس استعملوها في غير الخير، فأشغَلَتْ أوقاتهم، وغيَّرت أخلاقهم، وحرَّفت أفكارهم، وغيّرت نمط حياتهم، وقلدوا ما رأوا فيها وشاهدوه من غير رَوِيَّةٍ ولا بصيرة، فلْنَكُنْ على حذَرٍ مما يُعرض ويُنشر، لنكن على حذر، لا يروج الباطل علينا، ولا يفتننا النظر إليها بالتقليد الأعمى، لنكن واقعيين، نقبل الحق ونرفض الباطل، ونُعرض عن المواقع السيئة المشبوهة، إلا إذا كنا نريد نقضها، والرد على أهلها، وتبيين الباطل ودحضه بالحق، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء:18] .
أيها المسلم: إن المناصب وتوليها فتنة، هي فتنةٌ يفتتن بها كثيرٌ من الناس، فكم من إنسانٍ صالحٍ مستقيم عندما يبلغ منصباً معيناً يُغريه ذلك المنصب فيملؤه كِبراً، وتكبراً، وإعجاباً بنفسه، واحتقاراً للآخرين، وظلماً وعدواناً، ولا يعلم المسكين أن الدنيا ذاهبةٌ ومن عليها، وأن المؤمن يتخذ عملاً صالحاً ليبقى له، أما الكِبر والإعجاب بالنفس والانخداع بها فذاك ضررٌ عظيم.
أيها الإخوة: فتنة الاختلاط بالأشرار من الكفار والمنافقين فتنةٌ عظيمة، لأجلها ضل كثيرٌ من الناس، فمن آثار الاختلاط بالكفار والمنافقين ما يوردونه من فتنٍ ومصائب، من قدحٍ في الشريعة وإساءة الظن بها، واعتقاد أنها ناقصة، لا تواكب متطلبات العصر، ولا تواكب حاجات الناس، فيشككون في الشريعة وفي حمَلَتِها، ويطعنون في أهل العلم، ورجال الحسبة، ومن يأمر بالخير وينهى عن الشر، فهي فتنة إِلَّا لِمَن عصَمَهُ الله ونجَّاهُ من تلك المصائب.
فتنة الشائعات، فهناك الشائعات وبث الدعايات المضللة والآراء الفاسدة، ونشرها بين المسلمين، فالشائعات كثيرٌ منها ضلالٌ وفساد، والله -جل وعلا- حذَّرَنا من الانقياد إليها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، فالإشاعات فتنةٌ عظيمة، تُروِّج هذه الإشاعات الباطل والزور، والكذب والبهتان، فليكن المسلم على حذرٍ منها.
أخي المسلم: إن الفتن عظيمة، فتنةٌ في المال والنساء، فتنةٌ في الأولاد، وفي الشائعات، وفتنةٌ في الإعلام الخارجي، وفتنةٌ في كثيرٍ من الأمور، فلنتق الله في أنفسنا، ولنبحث عن وسيلةٍ تخلصنا من هذه الفتن، ولا منجى منها إلا بالاعتصام بكتاب الله، وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ففيهما النجاة لمن تمسك بهما، والهداية لمن عمل بهما، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103].
ولزوم جماعة المسلمين، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب، والالتفاف على أهل العلم والتقى والدين، والله يقول: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83]، فأي شائعات وأي أفكار ضالة، يجب أن نقف معها موقف التمحيص والتنقية، فما كان من حقٍّ قبلناه، وما كان باطلاً وضلالاً رفضناه، هكذا يكون الناس؛ البعد عن مواضع الفتن، والخلوص منها، وعدم الانسياق إليها.
أسأل الله أن يثبتنا على دينه، وأن يعيذنا من مُضِلَّاتِ الفِتَنِ، ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: هذِه الفتَنُ في النُّفُوسِ والأموال والأولاد والأعراض، هذه الفتَنُ إِنَّما نتخلَّصُ منها إذا استنَرْنَا بنور الله، وتبصَّرْنا بهدْيِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عباداتنا، وفي معاملاتنا، وفي كُلِّ تصرُّفاتنا.
أيها المسلمون: كم عمَّ كثيراً من البلاد الإسلامية فتنٌ وجهالاتٌ وضلالاتٌ، فرَّقت الأمة، ودمَّرت البلاد، ودمروا بلادهم بأيديهم قبل أيدي أعداءهم، وفسحوا المجال لتدخُّل الأعداء في شؤون الأمة، هذه الفتن التي فُرِّقت بها القلوب، ومُزِّق بها الشمل، ودُمِّرت بها الأمة.
هذه الفتن التي يروِّجُ لها من يروج، ويدعو لها مَن يدعو، مِن غير علمٍ وبصيرة، فتنٌ ومصائب انخدع بها مَن انخدع، واغترَّ بها من اغترَّ، وقام بها من قام، ثم قطف الثمار غيرهم، واستفاد منها غيرهم، ضُلِّلت الأمة بكثيرٍ من الآراء والفتن، رُوِّجت ضلالات ودعايات انخدع بها من انخدع، وظنوا الحقائق ولم يتبصَّروا في عواقب الأمور ومآلاتها.
هذه الفتن التي كاد بها أعداء الإسلام الأمة الإسلامية، وجعلوها على أيدي بعض أبنائها، أغروهم بها، وفتنوهم بها، حتى ظنوا أنها حقائق؛ أمانيُّ كاذبة، ووعودٌ غير صادقة، فما هي النتيجة؟ وما هي الثمار؟ دُمِّرت البلاد، مُزِّقت الأمة، رُمِّلت النساء، يُتِّم الأطفال، ضاع المجتمع، فوضىً بلا قيادة تحميهم وتنظم شؤونهم؛ لأن هذه الفتن انصبت للإفساد والتضليل، لم تأتِ لإقامة حقٍ، وإصلاح وضعٍ، وتعديل أخطاء، جاءت لتفرق الأمة، جاءت لتدمر شأنها، جاءت لتقضي على كل رطبٍ ويابس، جاءت لتنشر الفتن والفوضى، جاءت لتحطيم الأمة، وتفريق شملها، وإشغالها بما تُشغل به، حتى يتفرغ الأعداء لمقاصدهم ومخططاتهم الرهيبة فينفذوا منها ما يريدون على حين غفلةٍ من الأمة، وتجاهل واشتغال بالترهات دون الحقائق.
إن أمتنا المسلمة وهي يمر عليها عام، عاشت في فتنٍ ومصائب، ألا تيقُّظ؟ ألا انتباه؟ ألا تبصُّرٌ في الأمور؟ إنها -والله!- فتنٌ كقطع الليل المظلم، يظن بها من يظن أنها صدقٌ، وأنها نجاةٌ، وتخلصٌ من أوضاعٍ سيئة، وإحداث أمورٍ حسنة، لكن -للأسف الشديد!- انقلب الأمر، وانعكس الحال، وأصبحت تلك الفتن وقوداً للأمة لتدمير كل القيم فيها دينية ودنيوية.
إنها الفتن التي انخدع بها من انخدع، واغتر بها من اغتر، وضل بسببها من ضل، فسُفِكت الدماء، ودُمِّرت البلاد، ومُزِّق شملها، وأصبحت الأمة في فوضى، وتراجعت سنين عديدة، لن تستطيع أن تصلح وضعها في سنين قليلة؛ لأن الوضع خطير، والجرم كبير، والفساد عريض.
هذه الفتن التي أخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتنٌ يرقق بعضها بعضاً، ما تأتي فتنة عظيمة إلا ويعقبها ما هو أعظم وأشد منها، كل ذلك بأسباب ذنوب العباد، وإعراضهم عن شرع الله، وانخداعهم بآراء أعداء الله المندسين بين صفوفهم، المريدين تدميرهم من حيث لا يشعرون.
فنسأل الله أن يثبتنا على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يصلح شأننا، وأن يصلح أوضاعنا، ويهدينا جميعاً صراطه المستقيم، ويبصرنا في أمور ديننا، فإن فتنة المال وفتنة الولد والنساء، وفتنة الضلالات والإشاعات الباطلة، فتنٌ عظيمة، ما يخلص العبد منها إلا الرجوع إلى الله وتقواه -جل وعلا-، والبصيرة في الأمور، فإن العالم الإسلامي مرت به ظروفٌ قاسية، مرت به أحوالٌ حرجة، عاش شهوراً في فوضى لا نهاية لها، فعساه أن يستطيع أن يتخلص من هذه المصائب.
إنه في الحقيقة موقفٌ حرج، وساعات حرجة، إنها أحوال وظروفٌ صعبة، إذا تأملها المسلم ونظر في نتائجها رأى العجب العجاب، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويعيدهم إلى رشدهم، ويبصرهم في أمور دينهم ودنياهم، ويوفقهم للبصيرة وعدم الانخداع بآراء أعداء الله، فأعداء الله مهما أظهروا من تعاطفٍ، ورحمةٍ، وإحسانٍ، ورفقٍ بالإنسان كما يزعمون، لكنها أمورٌ مبطنة، فهم يريدون التدخل في شؤون الأمة الإسلامية وتدميرها، لكن اتخذوا من أبناءها ذريعةً لتنفيذ ما يريدون ويقصدون، فالحذَرَ الحذرَ من هذه المصائب!.
وعلينا الرجوع إلى الله، واجتماع الكلمة على الحق، فإن الجماعة نعمة، والسمع والطاعة نعمة، فالمسلمون في نعمة باجتماع كلمتهم، وتآلف قلوبهم، ووقوفهم وراء قيادتهم، مما يحقق لهم الأمن والاستقرار والطمأنينة، نسأل الله السلامة والعافية.
واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار، وصَلُّوا رَحِمَكُم اللهُ على نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما أمركم بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، اللهم وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللهم وفقه لما يرضيك، واهده بهداك، ووفقه لرضاك، إنك على كل شيء قدير، اللهم كن له عوناً ونصيراً في كل ما أهَمَّه، اللهم أمِدَّهُ بالصحة والسلامة والعافية، واجعله بركةً على نفسه وعلى مجتمعه وعلى المسلمين أجمعين، اللهم وفق ولي عهده نايف بن عبد العزيز لكل خير، وسدده في أقواله وأعماله، وأعنه على مهماته، إنك على كل شيءٍ قدير، ووفق المسلمين جميعاً لما يرضيك.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على طاعتك، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وأصلح قادتهم، واجمع قلوبهم على الخير، إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23].
اللهم أنت اللهُ لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللَّهمَّ أغثنا، اللّهمَّ أغثنا، اللهمَّ أغثتنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا هدم ولا غرق، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201] .
عبادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.