الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | خالد بن عبد الله المصلح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن مما يحزنُ له القلبُ، ويتفتَّتُ له الفؤادُ أن ترى كثيراً من الناسِ قد أهملوا تربيةَ أولادِهم، واستهانوا بها وأضاعوها، فلا حفظوا أولادَهم، ولا ربّوهم على البرِّ والتقوى، بل -وللأسفِ الشديدِ- إن كثيراً من الآباء -أصلحَ اللهُ أحوالَهم- يكونون سَبَباً لشقاءِ أولادِهِم وفسادِهِم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكمْ ممن أشقى ولدَه وفلذةَ كبِدِه في الدنيا والآخرةِ بإهمالِه، وتركِ تأديبِه، وإعانتِه على شهواتِه...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، ألا وإن من تقوى اللهِ -جلَّ وعلا- أداءَ الأمانةِ، والقيامَ بها، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).
ألا وإنَّ من أجَلِّ الأماناتِ وأعظمِها -يا عبدَ الله- ولدَك، الذي هو بضعةٌ منك، فيا أيها الذين آمنوا: قُوا أنفسَكم وأهليكم ناراً، وقودُها الناسُ والحجارةُ، وإنما تكونُ تلك الوقايةُ بالقيامِ عليهم، وتربيتِهم وحفظِهم في دينِهم وأخلاقِهم ودنياهم، فإن الله حمَّلَكم مسؤوليةَ ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فأبواه يهوِّدانِه أو ينصِّرانِه أو يمجسانِه".
فولدُك -يا عبدَ اللهِ- نِتاجُ جُهدِك، وبذلك فإنْ وجدتَ خيراً فاحمد اللهَ، وإن وجدتَ غيرَ ذلك، فلا تلومنَّ إلا نفسَك، فعلى نفسِها جَنَتْ براقشُ.
عباد الله: إن مما يحزنُ له القلبُ، ويتفتَّتُ له الفؤادُ أن ترى كثيراً من الناسِ قد أهملوا تربيةَ أولادِهم، واستهانوا بها وأضاعوها، فلا حفظوا أولادَهم، ولا ربّوهم على البرِّ والتقوى، بل -وللأسفِ الشديدِ- إن كثيراً من الآباء -أصلحَ اللهُ أحوالَهم- يكونون سَبَباً لشقاءِ أولادِهِم وفسادِهِم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكمْ ممن أشقى ولدَه وفلذةَ كبِدِه في الدنيا والآخرةِ بإهمالِه، وتركِ تأديبِه، وإعانتِه على شهواتِه، وهو بذلك يزعُمُ أنه يكرِمُه، وقد أهانه، ويرحمُه وقد ظلمَه، ففاتَه انتفاعُه بولدِه، وفوَّت على ولدِه حظَّه في الدنيا والآخرةِ، وإذا اعتبرتَ الفسادَ في الأولادِ رأيتَ عامَّتَه من قِبَلِ الآباءِ".
فللهِ درُّه، ما أعجبَ كلامَه وأصدقَه!
أيها المسلمون: إن المسلمَ الحقَّ يهمُّه مسلكُ بنِيه نحوَ ربِّهم وإخوانِهم، وليست وظيفتُه ومهمتُه أن يُزحمَ المجتمعَ بأولادٍ، ترَكَ حبلَهم على غاربِهم، وهذا هو هديُ الأولين من المؤمنين.
فهذا خليلُ اللهِ إبراهيمُ -عليه السلام- يقول: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ).
وهذا نبيُّ اللهِ نوح، يدعو ابنَه ويُلِحُّ عليه، فيقولُ: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ).
وهذا يعقوبُ يتعهَّد أولادَه في الرَّمَقِ الأخيرِ، كما قصَّ الله تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
وهذا ركْبُ المؤمنين الصادِقين المتبعين، ركبُ عبادِ الرحمنِ، يلهجون قائلين: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً).
فاتقوا اللهَ -أيها المؤمنون-، وسيروا على هدْيِ أولئك المتقين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
عبادَ الله: أيها الآباءُ الأفاضلُ: إنَّ من المشكلاتِ الكبرى، والنوازلِ العظمى، التي أُصِيبَتْ بها كثيرٌ من المجتمعاتِ الإسلاميةِ تقصيرَ الوالدَيْن في رِعايةِ أولادِهِما، وتربيتَهم على البرِّ والتقوى، ومعالمُ هذا التقصيرِ كثيرةٌ عديدةٌ.
فمن مظاهرِ التقصيرِ في تربيةِ الأولادِ: الانشغالُ عن الأولادِ بمشاغلِ الدُّنيا الفانِيةِ، التي لا تَعدِلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ، فكم هم الآباءُ الذين هَجروا بيوتَهم، فلم يجلسوا فيها إلا قليلاً، لأكلٍ أو شربٍ أو نومٍ، أما سائرُ أوقاتِهم فبين بيعٍ وشراءٍ، وبين جلساتٍ ودوائرَ، ضاعت بسببها الواجباتُ، وضاعت الحقوقُ، ولو سمع هذا بصفقةٍ أو تجارةٍ لتركَ الأصدقاءَ، وقلَّل اللقاءَ، أَمَا عَلِم هذا أن خيرَ ما يترُكُه بعدَه ولدٌ صالحٌ يدعو له.
أيها المؤمنون: إنَّ من صورِ التقصيرِ الشائعةِ في تربيةِ الأولادِ: تهوينَ الوالدين المعصيةَ على الأولادِ، وتجرئتَهم على مواقعةِ الخطايا والسيئاتِ، وذلك بموافقةِ الوالدَيْن لهذه الخطايا ومجاهرتِهم بها، فإنَّ مِن الآباءِ مَن يكون قد ابتُليَ ببعضِ الذنوبِ، فتجِدُه لا يتورَّعُ عن الوقوعِ فيها أمامَ أولادِه، فكم هم الآباءُ الذين ابتُلوا بسماعِ الأغاني مثلاً، أو النظرِ إلى المحرَّماتِ، أو غيرِ ذلك من السَّيِّئاتِ، وهم يفعلونها أمامَ أولادِهم، فيأخذُها عنهم أولادُهم، فكلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
وينشَأُ ناشئُ الفِتيانِ مِنَّا | على ما كانَ عوَّدَه أبوه |
أيها المؤمنون: إن من أعظمِ الخيانةِ للأولادِ: تيسيرَ سُبُلِ المعصيةِ وأسبابَها لهم، بالإهمال في تربيتهم على حسن استعمال الأجهزة التي يصلون من خلالها إلى كثير من الشر والفساد إذا لم يحسنوا استعمالها، كالدُّشوشِ وما شابهها، فإن فيها ما تفسُدُ به القلوبُ، وتخرب الأخلاقُ، وتعمى البصائرُ، ويُصَدُّ بها عن سبيلِ اللهِ.
فليتَّقِ اللهَ هؤلاء، فإنهم -واللهِ- ممن أشقى أولادَه، وفوَّت عليهم الخيرَ والاستقامةَ، فويلٌ له؛ ويلٌ له؛ ويلٌ له، وضَعَ في كلِّ غرفةٍ شيطاناً، يصُدُّ عن سبيلِ اللهِ، ويبغيها عِوَجاً!!
فباللهِ -أيها المؤمنون- أيُّ خيانةٍ أعظمُ من هذه الخيانةِ، أيظنُّ من سعى في إفسادِ أولادِه أنه ناجٍ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن عبدٍ يسترعِيه اللهُ رعيةً، فيموتُ وهو غاشٌّ لها -أي: فلم يحطها بنصحه- إلا لم يجدْ رائحةَ الجنةِ".
فليتَّقِ اللهَ هؤلاء، وليذكروا يوماً يُرجَعون فيه إلى اللهِ، فيسألُهم ماذا أجبتم المرسلين؟! وماذا فعلتم بقولي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)!!
الخطبة الثانية:
وبعد:
فاتقوا اللهَ -أيها المؤمنون-، فإن من الخيانةِ لهذه الأمانةِ العظمى -أمانةِ تربيةِ الأولادِ- إضاعتَهم وإهمالَهم، وتركَ حبلِهم على غاربِهم، يخرُجُون في أيِّ وقتٍ يشاؤون، ويصاحِبُون من يُريدون، ويسهرون الليلَ وينامون النهارَ!!
فهذا كلُّهُ تضييعٌ للأمانةِ، ولقد ظهرت في هذه الآونةِ الأخيرةِ بسببِ هذا التفريطِ ظاهرةُ الجلوسِ في الأحواشِ والاستراحاتِ، يستأجرُها مجموعةٌ من الشبابِ، فيجلسون فيها ساعاتٍ طوالاً، يجتمعون في غالبِ الأحيانِ على ألوانٍ من الذنوبِ والمعاصي، الصغارُ والكبارُ، بعيداً عن نظرِ آبائِهم وأولياءِ أمورِهم، ولا يشكُّ عالمٌ بما يجري في هذه الأحواشِ بأن هذه الاجتماعاتِ مخالفةٌ لأمرِ اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يكن فيها إلا مخالفةُ هديِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، حيثُ كان يكرَهُ الحديثَ بعد صلاةِ العشاءِ لما يُفضِي إليه من ضياعِ الأوقاتِ، وتفويتِ الواجباتِ، ومخالفةِ ما فطرَ اللهُ عليه البرياتِ، من نوم الليلِ، والقيامِ في النهارِ، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً)، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً).
هذا كلُّه فيما لو كان السهرُ على أمرٍ مباحٍ، فكيفَ يكونُ الأمرُ ونحن نعلمُ أن غالبَ هذه الاجتماعاتِ يلتقي فيها حُدَثاءُ الأسنانِ، وسفهاءُ العقولِ والأحلامِ على سماعِ الغناءِ الماجنِ، أو الكلامِ القبيحِ، أو يجتمعون على مشاهدةِ السَّاقطِ من المناظرِ والمرئياتِ، التي لا تقومُ لها الجبالُ، تُثيرُ الغرائزَ، وتبعثُ الكوامنَ، وتهيِّجُ الشهواتِ، وتورِثُ القلبَ البلابلَ، فيصطلي هؤلاء الأحداثُ بنارِ تلك المشاهدِ، ولا يجدون لها مصرفاً، إلا عادةً قبيحةً، أو علاقةً محرمةً، فيتلطَّخون بكبائرِ الذنوبِ، وقبيحِ الفواحشِ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فاتقوا -أيها الشبابُ- يوماً تُرجَعون فيه إلى اللهِ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).
واحذروا -أيها الشبابُ- هذه الاجتماعاتِ، فهي من الشَّرِّ الذي لا خيرَ فيه، واتقوا اللهَ -أيها الآباءُ-، فصُونوا أولادَكم عن مثلِ هذه الاجتماعاتِ، واحفظوهم منها، فإنها من أهمِّ أسبابِ فسادِهم.
أيها المؤمنون: إن اللهَ أمرَكَم بالتعاونِ على البرِّ والتقوى، فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
فعلى أصحابِ هذه الأحواشِ والاستراحاتِ أن يتَّقُوا اللهَ ربَّهم، ولا يؤجِّرُوها على من يُظنُّ جلوسه فيها على هذه المنكراتِ، فإن تأجيرَ هذه الأحواشِ والاستراحاتِ في هذه الحالةِ محرَّمٌ، وأخذَ الأجرةِ على ذلك حرامٌ.
فاتقوا الله -عباد الله- وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.