الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
قصُرت بنا الأعمار فلن تتسع لقضاء حاجاتنا. وضعفت منا الأجسام فهي دون مراداتنا. وكلَّت أذهاننا حين أطالت خيوط آمالنا. ومع كل هذا جعل الله لنا عزاء نتعزَّى به، وعوضاً عما فاتنا نتعوض منه. فالمؤمن يسطر بنيته ما عجز أن يباشره بعمله. وهذا سر ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "نية المؤمن خير من عمله"، وفي لفظ: "نية المؤمن أبلغ من عمله". وفي رواية " إن الله -عز وجل- ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله"، والحديث له طرق يتقوى بمجموعها ويرتقي إلى درجة الحسن. فما أعظم النية إذن!! لا تحدها أزمنة ولا تحول دونها أمكنة. ولا يدخل الرياء النية كما يدخل الرياء العمل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، يبتلي ما في الصدور، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى وهو الغفور الشكور، وأشهد ألا إله إلا الله، إليه تصير الأمور.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بين ما ينفع الناس في معاشهم ويوم النشور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فلا وصول للسعادة إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر: 3].
أيها الإخوة: قصُرت بنا الأعمار فلن تتسع لقضاء حاجاتنا.
وضعفت منا الأجسام فهي دون مراداتنا.
وكلَّت أذهاننا حين أطالت خيوط آمالنا.
ومع كل هذا جعل الله لنا عزاء نتعزَّى به، وعوضاً عما فاتنا نتعوض منه.
فالمؤمن يسطر بنيته ما عجز أن يباشره بعمله.
وهذا سر ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "نية المؤمن خير من عمله"، وفي لفظ: "نية المؤمن أبلغ من عمله".
وفي رواية " إن الله -عز وجل- ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله"، والحديث له طرق يتقوى بمجموعها ويرتقي إلى درجة الحسن.
فما أعظم النية إذن!!
لا تحدها أزمنة ولا تحول دونها أمكنة.
ولا يدخل الرياء النية كما يدخل الرياء العمل.
وكيف يدخل الرياء النية؟ وحقيقة النية الصادقة هي الإخلاص (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 6].
أجل أيها الموفق: أنت تنوي الخير وتهم بفعل الصالحات، ولكن من الخير ما لا تستطيعه أصلاً، فهل يفوتك أجره؟ تأمل معي هذا الحديث:
عن أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "... إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ..". (رواه الترمذي 2325، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ليس عنده مال، ولكن من نيته الجازمة أن لو كان له مال لتصدق مثل المتصدقين جعل هذا بنيته الحسنة شريكاً للمتصدقين "فهو بنيته فهما في الأجر سواء".
وأما من فاته الخير لمانع حلَّ به، وعذر لم يستطع مدافعته ففي هؤلاء يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه فيهم: "إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض"، وفي رواية: "إلا شركوكم في الأجر" (رواه مسلم).
وروى البخاري عن أنس قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا؛ حبسهم العذر".
وفي عموم من ترك العمل ولم يأتِ منه إلا بالنية يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" (متفق عليه).
أيها الإخوة: لقد فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمات أبواباً من الخير نوشك أن نكون في غفلة عنها.
وحاصلها أنك: ما دمت تنوي الخير فأنت في خير.
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "كنا نتعلم النية كما تتعلمون العمل".
وكيف لا يتعلمون النية وشأنها عظيم في ميزان الشريعة.
فاستبشرْ يا صاحب النية ممن أقعده المرض وفاته عمل تعلقت به نفسه، وصرفت الآلام عنه نشاطه، فهو راغب في الصالحات بنيته راغب عنه بعمله لعلته.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا" (متفق عليه).
وانظر إلى فضل الله! كيف قرن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المريض مع ما يكابده من المرض، قرنه بالمسافر والسفر قطعة من العذاب.
فمن كان ذا عمل صالح في حال صحته وإقامته، فهو المحافظ على صلاته فرضِها ونفلِها، وله ورد من صيام يصومه أو صلة لأقاربه يحرص عليها، أو صدقة يمضيها فحال دون ذلك مانع؛ مرض أو سفر فهو على عمله وأجره مثبت في صحيفته؛ لأنه من نيته، وتركه بغير اختياره
واسمع فضلاً آخر كيف تجلبه النية الصالحة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه -عز وجل- " (رواه النسائي، قال الشيخ الألباني: صحيح).
والأحاديث في فضل النية، وكيف تبلغ بصاحبها ما يقصر عنه عمله أكثر من أن تذكر، ففي صحيح مسلم عن سهل بن حنيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سأل الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه".
ويجمع ما ورد في عظيم فضل النية قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات"، فالعمل بغير نية مشقة وعناء، والنية وإن فارقها العمل أجر وزكاء.
وإن العبد يأتي المباح من شأنه؛ أكله وشربه ونكاحه، ثم ينوي بذلك نية حسنة تكون مباحاته أجوراً تزيد بها مقاماته.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: :"وفي بُضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر".
ورضي الله عن معاذ بن جبل حينما قال لأبي موسي الأشعري -رضي الله عنه- لما سأله: "كيف تقرأ القرآن يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي".
يعني بذلك أنه يحتسب الأجر في نومته مع ما في النوم من لذة وراحة كما أنه يحتسب الأجر ويطلب الثواب في حال قيامه وصلاته على حد سواء.
عباد الله: هذه النية الحسنة، فكيف إذا ظلم الإنسان نفسه ونوى النية السيئة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في تتمة الحديث السابق ".. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ". (رواه الترمذي 2325، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
فاللهم إنا نسألك حسن النية وسلامة القصد..
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد: فيا أيها الموفق: لعلك أدركت أنَّ الإنسان بنيته الصالحة قد حصَّل عُمُرا ثانياً يضيفه إلى عمره الذي يعيشه، ويضيف عملاً ما كان ليضيفه لو وكل إلى حوله وقوته.
ألا وإن من خير ما يُدخر عند الله نيةً صالحة. وهي من خير ما يستفتح به يومه، ويختم به آخر النهار سعيه.
فهذه يا عباد الله النية وكيف ترفع صاحبها أو تخفضه فهي خافضة رافعة!!
فانظر الموفق أين سوف تنـزلِك نيتُك؟!
فبشرف المنزل سوف يشرف النازل!
الشهر الذي جعله الله مباركاً، وأنزل فيه القرآن، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشِّر به أصحابه، فاستبشروا به، وقدموا بين يديه نيةً صالحةً بصيامه وقيامه إيماناً واحتساباً لأجره، سائلين الله أن يبلغكم إياه.
قدموا النية الحسنة أن تجعلوا من رمضان هذا العام خيراً من رمضان في الأعوام الماضية، وما كنتم تركتموه من الخير في العام الماضي، وأسفتم عليه، وكنتم تمنيتم فعله فهاهي الفرصة تعود إليكم ثانية فاستبقوا الخيرات، وأروا الله من أنفسكم خيراً.
فالحياة سريعة والنقلة قريبة.
وإنَّ الناس يستقبلون رمضان على أصناف شتى؛ فمنهم المسلم البالغ العاقل المقيم السالم من الموانع، فهذا يجب عليه الصيام أداء؛ طاعةً لله وامتثالاً لأمره وشكراً لله على نعمته قال الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185].
والقسم الثاني ممن يستقبلون رمضان، وهم عاجزون عن صيامه عجزاً مستمراً لكبر أو مرض فهؤلاء لا صوم عليهم لعجزهم عنه، ويطعمون عن كل يوم مسكيناً فيطعم عن كل يوم بيومه أو يجعلها بعد عدد من الأيام أو يطعم في آخر الشهر عن جميع الشهر يخرجها طعاماً مطبوخاً أو حبّاً. ولا يصح أن يخرجها قبل الشهر أو قبل اليوم لأنَّه لم تلزمه.
وليعلم هؤلاء العاجزون عن الصيام أنهم شركاء للصوَّام مادامت نيتهم الصوم ولكن حبسهم العذر.
القسم الثالث: من شقَّ عليه الصوم لمرض عارض نزل به، أو ثبت أنَّ الصيام يؤخر بُرءه، أو يزيد في مرضه فهذا يفطر، والله يحب أن تُؤتَى رُخَصه ثم إذا أذن الله بشفائه صام الأيام التي أفطرها لقوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185].
وإن تضرر بالصيام حرُم عليه الصوم لقوله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: 29].
القسم الرابع: الرجل الذي سقط تمييزه لكبر أو حادث، فصار يهذي ويخرف فهذا لا صيام عليه ولا إطعام لأنه أشبه الصبي غَيْر المميز إذ لا تكليف عليه.
ومثله المغمى عليه فلم يعِ من الدنيا شيئاً، فهذا لا صيام عليه ولا إطعام إلا أن يأذن الله له بالشفاء فعليه القضاء إن استطاع أو الإطعام إن لم يستطع، فاحمدوا الله على تيسيره واشكروه على رُخَصه.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يتقدم رمضان بصوم أو يومين إلا رجل كان له صوم فليصم.
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
ثم نية صالحة نذكر إخواننا الذين ابتلوا بشرب الدخان فهم يشربونه لسنين طالت أو قصرت، هل لك أن تجعل من مكاسب رمضان بالنسبة لك أن تقدم نية صادقة بترك الدخان الخبيث الذي طالما منعك التبكير للمسجد، ومنعك مجالس الصالحين وجعلك عصبياً في مزاجك ومضيعاً لمالك، ومفاسده أنت أدرى بها من غيرك!
هاهي فرصتك لتركه إن كنت جادّاً في أمرك فاستعن الله على تركه، وانو النية الحسنة، تدرب نفسك على الإقلال منه ليلاً بعد أن تركته نهاراً ثم رويداً رويداً حتى تكون لها من التاركين.
فما أعظمها من نية وطاعة تسجلها في أعمالك الاختيارية قبل أن تجبر عليها ويسوقك إليها مرض عضال، وما أكرمها من هدية تهديها لنفسك، بل ولأسرتك ولكل محب للخير لك. ومن يستعن بالله يعنه الله.
اللهم بلغنا شهر رمضان، احفظ علينا شهرنا، واحفظنا في شهرنا، وارزقنا فيه عملاً صالحاً ترضى به عنا.
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
اللهم احقن فيه دماء المستضعفين من عبادك المؤمنين.
اللهم احم فيه بلاد المسلمين من تفجيرات الخارجين، وتسلط الظالمين.
اللهم ارزقنا تعظيم حرماتك، والقيام بحق هذه الشهر.