المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - الحياة الآخرة |
1/مجازاة الإنسان بعمله 2/انقطاع عمل العبد بالموت 3/أعمال أجورها مستمرة للعبد بعد الموت 5/أعمال أوزارها مستمرة للعبد بعد الموت
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيمُ الخبير.
وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، خَلَقَ الموتَ والحياةَ ليبلُوَكُم أيُّكُم أحسنُ عملاً، وهو العزيزُ الغفور.
وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، البشيرُ النذير، والسراجُ المنير، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة:223].
عبادَ الله: إنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في هذه الحياة ليعمَلَ، ثم يُبْعَثُ يوم القيامة ليُجْزَى على عمله، فهو لم يُخْلَقْ عَبَثاً، ولن يُتركَ سُدًى، والسعيدُ مَنْ قَدَّمَ لنفسه خيراً، يجدُه عند الله ذُخراً، والشقيُّ مَنْ قَدَّمَ لنفسه شرّاً تكون عاقبته خُسْراً.
فانظروا في أعمالكم، وحاسبوا أنفسكم قبل انقضاء أعماركم، فإنَّ الموتَ نهايةُ العمل وبداية الجزاء، والموتَ قريبٌ لا تدرون متى نزولُه، والحسابَ دقيقٌ لا تدرون متى حلولُه، والشيبَ نذيرٌ الموت فاستعدُّوا له، وموتَ الأقرانِ علامةٌ على قُربِ موت أقرانهم، فتذَّكروا الموتَ، واعلموا لِما بعده مما أنتم قادمون عليه، ومقيمونَ فيه، ولا تنشغلوا عنه بما أنتُم راحلون عنه وتاركوه، ولا تَغُرَّنَّكُم الآمال الطوال، وتَنْسَوْا حلولَ الآجال، فكَمْ من مؤمِّلٍ أملاً لا يدركُه، وكم من مصبحٍ في يوم لا يدركُ غروبَه، ومُمْسٍ في ليل لا يدركُ صباحَه، وكم مَنْ يتمنَّى عند الموت أن يُتْرَكَ قليلاً لِيُصْلِحَ ما أفسد، ويستدركَ ما ضيَّع، فيُقالُ له: هيهات، إنَّ ما تتمنَّى قد فاتَ، وقد حذرناك قبل ذلك، وأنذرناك، بأنْ لا رجوعَ هناك، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-11].
عبادَ الله: إنَّ كل إنسانٍ ينتهي عملُه عند حلولِ أجله، وهناك أعمالٌ خيرية يستمرُّ نفعُها وأجرها لصاحبها بعد وفاته، وهي أعمالٌ عَمِلَها في حياته، واستمرَّ نفعُها بعد مماته، فما دامَ نفعُها مستمرّاً، فإنَّ أجرَها يجري لصاحبِها مهما طالَت مدتُها، وهي كلُّ مشروع خيري ينتفع به الناس والبهائم؛ كالأوقافِ الخيرية، والأشجارِ النافعة والمثمرة، وسقاياتِ المياه، وبناءِ المساجد، والمدارسِ، والذريةِ الصالحة، وتعليمِ العلم النافع، وإخراجِ الكتب المفيدة.
ففي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالح يدعو له".
فهذا الحديث يدُلُّ على انقطاعِ عمل الإِنسان بموته، وأنَّ محلَّ العمل هو مدةُ حياته في العمل الصالح، وأن يحذَرَ من الغفلة والإِضاعة، وأن يُبادرَ بفعل الطاعاتِ قبلَ الموت، ولا يؤخِّرَ ذلك إلى وقتٍ قد لا يُدركُه، والنصوص التي وردت بالحثِّ على استباق الخيرات، والمسارعةِ إلى الطاعات، والمبادرةِ بالأعمال نصوصٌ كثيرة، مما يدُلُّ على أنها إذا لم يبادَرْ إليها فاتَتْ.
كما يدُلُّ الحديثُ على استثناءِ الأعمال الخيرية التي يستمرُّ نفعُها بعد موت صاحبِها، وأنها لا تنقطعُ بموتِه، بل يستمرُّ أجرُها ما دامَ ينتفع بشيءٍ منها، ولو طالَ بقاؤُها، وأنَّها يتجدَّدُ ثوابُها بتجدُّدِ نفعها، وهذه الأشياء، هي:
أولاً: الصدقةُ الجارية: وقد فسَّرها العلماء بالوقفِ الخيري، كوقف العقاراتِ، والمساجد، والمدارس، وبيوت السُّكنى، والنخيلِ، والمصاحفِ، والكُتُبِ المفيدة، ووقفِ سقايات المياه من آبارٍ وبِرَكٍ وبرَّادات، وغيرها.
وفي هذا دليلٌ على مشروعيةِ الوقف النافع، والحثِّ عليه، وأنَّهُ من أفضلِ الأعمال التي يُقدمها الإِنسانُ لنفسه في الآخرة، وهذا بإمكان العلماء والعوامِّ.
ثانياً: العلمُ النافع: وذلك بأنْ يقومَ الإِنسان في حياته بتعليم الناس أمورَ دينهم، وهذا خاصٌّ بالعلماء الذين قاموا بنشرِ العلم والتعليم، وتأليفِ الكتب ونسخِها.
وبإمكان العامي أيضاً أن يُشارِكَ في ذلك بطبعِ الكتب أو شرائِها وتوزيعِها أو وقفِها، وشراءِ المصاحف وتوزيعها على المحتاجين، أو جعلِها في المساجد.
وهذا فيه حثٌّ على تعلُّمِ العلم وتعليمِه، ونشرِه ونشر كتبه، لينتفعَ بذلك الناسُ في حياته وبعدَ موتِهِ.
والعلمُ يبقى نفعُه ما دامَ في الأرض مسلمٌ وَصَلَ إليه هذا العلم، فكم من عالمٍ ماتَ من مئاتِ السنين وعِلْمُه باقٍ ينتفعُ به بوساطة كتبِه التي ألَّفَها وتداوَلَها الأجيالُ تِلْوَ الأجيال من بعده، وبواسطة طلابِهِ وطُلاَّب طلاَّبه، وكلما ذكره المسلمون دَعَوْا له، وترحَّموا عليه، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء.
وكم أنقذَ الله بعالم مُصلحٍ أجيالاً من الناس من الضلالةِ، ونالَهُ مثلُ أجورِ مَنْ تَبِعَه إلى يوم القيامة.
ثالثا: الولدُ الصالح من ذَكَرٍ وأنثى، وولد الصلب، وولد الولد يجري نفعُهم لآبائهم بدعواتِهم الصالحة المستجابة لآبائهم، وبصدقاتِهم عنهم، وحجِّهم لهم، وحتى دعاء من أحسنَ إليهم هؤلاء الأولاد من الناس: فكثيراً ما يقول الناس للمحسنين: رَحِمَ الله آباءَكُم، وَغَفَرَ لهم، وفي هذا حثٌّ على التزوُّجِ لطلب الأولاد الصالحين، ونهى عن كراهية كثرةِ الأولاد، فإنَّ بعضَ الناس قد تأثَّرَ بالدعايات المُضلِّلة، فصار يكره كثرة الأولاد ويحاوِلُ تحديدَ النَّسْلِ، أو يدعو إليه، وهذا من جهلِهم بأمورِ دينهم، ومن جهلِهم بالعواقب، ومن ضَعْفِ إيمانهم.
وفي هذا الحديث أيضاً: الحثُّ على تربيةِ الأولاد على الصلاح، وتنشئِتهم على الدينِ والصلاح، ليكونوا خَلَفاً صالحاً لآبائِهم يدعون لهم بعدَ موتِهم، ويستمرُّ نفعُهم بعد انقطاع أعمالِهم، وكثيرٌ من الناس اليومَ قد أهملَ هذا الجانب، فلم يهتمَّ بتربيةِ أولاده، وإنما يهتمُّ بشأن دنياه، ويهتَمُّ بجمع الدراهم التي لا تبقى له ولا يبقى لها، يرى أولادَه على الفساد، ولا يحاولُ إصلاحَهم، يراهم يفعَلُون المحرمات، ويتركون الواجباتِ، ويُضيَيِّعون الصلاة، فلا يأمرُهم ولا ينهاهم، يراهم يَهيمونَ في الشوارع، ويجلسون معَ الأشرار، وربَّما يذهبون إلى أمكنةِ الفساد، ولا يُهِمُّه ذلك، ولا يُلقي له بالاً، بينما لو أتلفوا شيئاً من مالهِ، أو نقَصُوا شيئاً من دنياه لكانَ منه الرجلَ الحازم، والمؤدب الشجاعَ، والبطلَ المغوار، يَغارُ لدنياه، ولا يغَارُ على دينِه، يهتَمُّ بإصلاحِ ماله، ولا يهتَمُّ بصلاحِ أولاده؛ إنه بسببِ ذلك شاعَ العقوقُ، وكَثُرَتِ القطيعةُ بين كثير من الآباءِ وأولادهم في حياتهم، فكيفَ بعدَ مماتِهم؟
فاتقوا الله -أيُّها الآباءُ- في أولادكم ليكونوا ذُخراً لكم، ولا يكونوا خسارةً عليكم.
واعلَمُوا: أنَّ صلاح الأولاد لا يأتي عفواً بدون بذلِ أسبابٍ وصبرٍ واحتسابٍ
ويدلُّ هذا الحديث أيضاً على مشروعيةِ دُعاء الأولاد لآبائِهم، مع دعائِهم لأنفسهم في الصلوات وخارجَها، وهذا من البِرِّ الذي يبقى بعدَ وفاةِ الآباء.
وهذه الأمورُ المذكورةِ في هذا الحديث هي مضمونُ قولهِ تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس:12].
فما قَدَّموا، هو ما باشروا فعلَه في حياتهم من الأعمال الحسنة والسيئة.
وآثارُهم، ما تَرَتَّبَ على أعمالِهم بعدَ موتهم من خيرٍ أو شرٍّ.
وما يصل إلى العبدِ، من آثارِ عملِه بعد موته ثلاثةُ أشياء:
الأولُ: أمورٌ عَمِلَها غيرهُ بعد موته بسببه وبدعايتِه وتوجيهه إليها قبلَ موته.
الثاني: أمورٌ انتفع بها الغيرُ من مشاريع نافعة أقامَها الميتُ قبل موته، أو أوقافٌ أوقفَها في حياته.
الثالث: أمورٌ عَمِلَها الحيُّ وأهداها إلى الميت من دعاء وصدقة وغير ذلك من أعمال البِرِّ.
ورَوَى ابنُ ماجة: "إنما يلحَقُ المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته: علمٌ نَشَرَه، أو ولدٌ صالح تَرَكَه أو مصحفٌ وَرَّثَه، أو مسجدٌ بناه، أو بيتٌ لابنِ السبيل بناه. أو نَهرٌ أَجراهُ، أو صدقةٌ أخرجَها من ماله في صحتهِ وحياته تلحَقُه بعد موته".
فاحرِصوا -رَحِمَكم الله- على بذلِ الأسباب النافعة، وتقديم الأعمال النافعة التي يستمرُّ نفعُها، ويجري عليكم أجرُها بعدَ وفاتكم.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جَعَلَ الدنيا مزرعة للآخرة، وحثَّ على اغتنام أوقاتِها قبلَ فواتها وقبلَ الوقوع في الصفقة الخاسرة.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، أنعمَ علينا بنِعَمِه الباطنة والظاهرة، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله المؤيَّدُ بالمعجزات الباهرة، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حقَّ جهاده حتى أصبحت ملةُ نبيِّهم هي الملةَ الظاهرة، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلَمُوا أنه كما تَبْقَى آثارُ الأعمال الصالحة، ويجري نفعُها للعامل بعدَ موتِهِ، فكذلك الأعمالُ السيئة يبقى شرُّها، ويجري ضَرَرُها على عاملها بعد وفاته، كما جاء في الحديث: "ومَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه وزرُها ووزرُ مَنْ عَمِلَ بها من غير أن يَنْقُص ذلك من أوزارِهم شيئاً".
قال الله -تعالى-: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل:25].
فالذي يُورِثُ للناسِ العلومَ الفاسدة، والعقائد الباطلة، ينالُه من شَرِّها وعقوبتها بقدرِ ما يحصُلُ بسببها من ضلالٍ.
والذي يؤلِّفُ الكتبَ المنحرفة، أو ينشرُها بينَ الناس ينالُه من إثمها ،ويَجْري عليه شَرُّها ما بَقِيَتْ هذه الكتب تُتَدَاوَلُ بأيدي الناس، ومِثْلُه الذي يُسَجِّلُ الأغاني الماجنة، والأفلامَ الخليعة، والذي يوجِدُ المشاريعَ الضارةَ كدُورِ اللهو، والسينما، ومحلات التصوير، أو المؤسساتِ الصحيفة التي تُصْدِرُ الصُّحُفَ والمجلات الخليعة التي تنشُرُ الصورَ العارية، والأفكارَ المسمومة، والمقالاتِ المضلِّلةَ، ينالُه من شَرِّها وإثمها ما بقيت هذه المؤسسات تنشر شرَّها وتَبُثُّ سُمُومَها، طالَ زمنُها أو قَصُرَ.
والذي يربِّي أولادَه تربيةً سيئة ينالُه من إثمهم ما عاشُوا على الضلال والانحراف وما مارسوا الإِثَم والفسوق والعصيان؛ لأنَّهُ هو الذي عوَّدَهم على ذلك، ونَشَّأَهُم عليه، أو أهملَهم صغاراً حتى ضاعوا كِباراً، ولذلك ترون كثيراً من الأولاد المنحرفين إذا آذَوْا أحداً دعا عليهم وعلى آبائِهم الذين رَبَّوْهم على ذلك.
فاتقوا الله -عبادَ الله-، وكُونوا قدوةً في الخير، ولا تكونُوا قدوةً في الشرِّ.
والذي يؤسِّسُ البنوك والمؤسسات الربوية، لتكونَ مصادرَ أوبئةٍ اقتصادية تمتَصُّ دماءَ الشعوب، وتُدَمِّرُ المجتمعات، وتحاربُ الله ورسوله، لا شَكَّ أنه ينالُ مُؤَسِّسَها الأولَ أوفرُ نصيبٍ من إثمها، كما أنَّ ابنَ آدم الأول الذي قتل أخاه ظُلماً وعدواناً ينالُه نصيبٌ من إثم كلِّ نفس قُتلت بعده ظلماً وعُدواناً؛ لأنَّه أولُ من سنَّ القتلَ.
نسأل الله أن يجْعَلَنا قادةً وقدوةً في الخير، ولا يجعلَنا قادةً وقدوة في الشر.
ثم اعلموا -عبادَ الله- أنَّ خيرَ الحديث كتاب الله... إلخ.