الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن تحقيق الأمن في أزمنة الفتن ومقومات نصر الله لنا على أعدائنا يكون بالإيمان الصادق، وحسن التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه، واعتقاد المؤمن بأن الله -جل وعلا- ناصره ووليه، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وأن الله -جل وعلا- محيط بالكافرين، وهو على كل شيء قدير، وأن نصر الله يتحقق لمن أقام الصلاة وعظّم شأنها وحافظ عليها، وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وحقّق الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، إضافة إلى هذا فلا بد من الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله، وانتظار الفرج من الله، وإعداد العُدة لهذا وبذل الأسباب. وأما الدعاء فسلاح عظيم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين أولاً وأخرًا وظاهرًا وباطنًا، الحمد لله عدد خلقه ومداد كلماته وزنة عرشه ورضا نفسه، عليه يتوكل المتوكلون، وإليه يلجأ الخائفون، من عز بغير الله ذل، ومن عدل عن طريقه ذل، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، العزيز الغفار، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فما أوصى أحد وصية أعظم من وصية الله -عز وجل- ووصية رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فاتقوا الله ربكم واستمسكوا بدينكم (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33].
أيها المسلمون: هذا الكون الفسيح وما يقع فيه يصرف بقضاء الله العظيم وقدره وحكمه وأمره، فلا يجري هزيمة ولا نصر ولا نفع ولا ضر، ولا مصيبة ولا حادث، ولا موت ولا حياة إلا وهو مقدَّر ومكتوب في أمّ الكتاب، قال الله -عز وجل- (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:49].
نذكِّر بهذه العقيدة في هذا الزمن ونحن نرى جموع الكافرين والمنافقين وهم يكيدون لأهل الإسلام في كل مكان (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) فلئلا تضعف نفس المسلم ولئلا يهن عزمه ولئلا يسيء الظن بربه، فلله الحكمة البالغة في كل ما يجري في هذه الحياة الدنيا لا يُسأل ربنا -عز وجل- عما يفعل.
والواجب على العباد أن يلوموا أنفسهم فحينما ضيعنا أمر الله ضعنا، وظهر هواننا على الناس، قال الله جل جلاله: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، وقال سبحانه (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
التلاوم -يا عباد الله- لا يرد فائتًا، والتحزن لا يجدي شيئًا، إنما الذي يحقق لنا الأمن والأمان ويحقق العزة والاطمئنان لكل مجتمع وفرد هو الإيمان الصادق بالله القوي العزيز فتتربى النفوس على الخوف من الله وحده، والرجاء له وحده والتوجه إليه وحده (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
لما هدد فرعون السحرة أجابوه بإيمان وثبات وصدق (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 72- 73].
إن المؤمن في زمن الخوف والشدة لا يخاف من المستقبل ولا على المستقبل، إنما يفعل الأسباب ويعتمد بقلبه على الله -عز وجل-، ويعتقد بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات والشرور إلا هو، وهذا هو التوكل على الله الذي جعله ربنا -جل وعلا- شرطًا في الإيمان (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
ووصف أهل الإيمان بأنهم أصحاب توكل فقال (وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، كيف لا والتوكل على الله جماع الإيمان ونصف الدين إذ هو عمل وأمل وهدوء نفس وطمأنينة قلب، واعتقاد جازم بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء عنده بمقدار.
قيل لحاتم الأصم: على أيّ شيء بنيت أمرك في التوكل؟ قال: "على أربع خصال: علمت بأن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحٍ منه".
والمؤمن كذلك يفوّض أمره إلى ربه كحال مؤمن آل فرعون عندما قال: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) [غافر: 44- 45].
ويكفي أهل الإيمان شرفًا وقوة ومنزلة ومقامًا: حُسن دفاع الله عنهم، فإن الله -جل جلاله- يدفع عنهم شرور الدنيا وشرور الآخرة (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)، وهو سبحانه يأمر ملائكته بأن يثبتوهم (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ).
وهو سبحانه وليهم ولا يذل من ولاه الله، قال سبحانه: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ)، وهو معهم بنصره وتأييده وحفظه ورعايته (وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)، فإذا وجد الإيمان الصادق فليبشر المؤمن بحسن دفاع الله وكفايته (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:36]، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173].
إن قوة البشر مهما عظمت، وأسلحتهم مهما بلغت، لا تستطيع أن تلحق الضرر بأحد لم يكتب الله -عز وجل- عليه ذلك.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف" (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
قال الحافظ ابن رجب: "فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم على طاعة شيء من التراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! إن هذا لشيء عجاب".
وقد دل القرآن على هذا الأصل وهو تفرد الله -سبحانه وتعالى- بالعطاء والمنّ في مواضع كثيرة كقوله -عز وجل-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2]، وكقوله -عز وجل-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ) (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر:38].
أيها المسلمون: إن كنا صادقين في طلب الأمن لأنفسنا ولمجتمعاتنا من عذاب الله ومكره ومن أعدائنا المتربصين بنا، فلنحقق ما أمرنا الله به من العبودية لله -عز وجل- بأن نقيم الصلاة كما أراد الله منا، ونؤتي الزكاة على الوجه المشروع، وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن نطبق عقيدة الولاء والبراء.
قال -عز وجل-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور:55].
وقال -عز وجل-: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40- 41].
فإذا أصلح الإنسان ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس وكفاه من أراده بسوء.
قال -عز وجل- (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق: 15- 17].
اللهم اكفنا والمسلمين شر الكائدين وحسد الحاسدين وأفعال المفسدين ومكر الماكرين يا ذا الجلال والإكرام، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير..
أيها الإخوة: سبق لنا أن تحقيق الأمن في أزمنة الفتن ومقومات نصر الله لنا على أعدائنا يكون بالإيمان الصادق، وحسن التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه، واعتقاد المؤمن بأن الله -جل وعلا- ناصره ووليه، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وأن الله -جل وعلا- محيط بالكافرين، وهو على كل شيء قدير، وأن نصر الله يتحقق لمن أقام الصلاة وعظّم شأنها وحافظ عليها، وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وحقّق الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، إضافة إلى هذا فلا بد من الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله، وانتظار الفرج من الله، وإعداد العُدة لهذا وبذل الأسباب.
وأما الدعاء فسلاح عظيم، لاسيما إذا صدر من قلب مؤمن صادق يتحرى صاحبه أكل الحلال، ويتضرع للكبير المتعال يدعو دعاء المتضرع المخلص لا دعاء المستغني، قال -عز وجل- (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عند هذه الآية عن وهب بن منبه قال قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول: "بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السماوات بمن فيهن والأرض بمن فيهن فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا، ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء، وأَكِله إلى نفسه"، فالله -جل وعز- يكفي عبده ويجيب دعاءه، ويسمع شكواه فيقوّي ضعفه، ويشفيه من مرضه، ويكفيه من أراده بسوء" (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
فعليكم -عباد الله- بتحري الحلال والدعاء لأنفسكم وأهليكم وإخوانكم، وعليكم بالدعاء على من أراد بأهل الإسلام سوءًا، ففي المسند عنه -صلى الله عليه وسلم- قال "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"، وفي الترمذي ومسند أحمد "من لم يسأل الله يغضب عليه".
وعند ابن حبان "إِنَّ أَعْجَزَ النّاسِ مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ" ولا تستعجلوا وتستبطئوا الإجابة فإنما مثل ذلك كمن يبذر بذر أو يغرس غرسا فيسقيه ويتعاهده فلما استبطأ أن يكمل وينضج تركه وأهمله، فأحسنوا الظن بالله -عز وجل- واطلبوا منه الخير واعبدوه وتضرعوا إليه.
جاء في سنن أبو داود والترمذي وابن ماجه عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن ربكم -تبارك وتعالى- حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً".
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.