الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | محمد بن محمد المختار الشنقيطي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - الحياة الآخرة |
سبحان ربي العظيم إذا كان هذا الوعيد لمن يقضي بوله, فتنكشف عورته فكيف بمن يخرج بلباس تنكشف به عورته وهو كاسٍ عارٍ؟ إذا كان هذا الوعيد للحظات يسيرة للبول فكيف بمن لبس الشفاف من الثياب وفتن الناس بلباسه؟ .. وإذا كان هذا الوعيد لمن قصر في الطهارة وهي شرط الصلاة يعذب في قبره ويفتن في قبره إلى حشره فكيف بمن أضاع أركان الصلاة؟ كيف بمن ضيَّع واجباتها؟ كيف بمن ضيع أوقاتها؟ كيف بمن لم يصل بالكلية والعياذ بالله العظيم؟...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى, واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى, وأكثروا من ذكر الموت والبلى, وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما وأرضاهما- قال: "مر النبي - صلى الله عليه وسلم- على حائط من حيطان المدينة فسمع إنسانين يُعذبان في قبريهما فقال: "إنها ليعذبان وما يعذبان في كبير, بلى, أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله, وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بجريدة فكسرها كسرتين ثم وضع على كل قبر كسرة, فقيل: يا رسول الله, لم فعلت ذلك؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا"(صحيح البخاري 292).
حديث عظيم اشتمل على وعيد وتهديد, اشتمل على تخويف وعذاب شديد لمن ضيَّع حقوق الله, وأفسد بين عباده المؤمنين, معجزة من معجزات رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, أطلعه الله -جل وعلا عليها-, يقول حبر الأمة وترجمان القرآن: مر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بحائط من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان. سمع صوتًا لا يسمعه الناس, ولو سمعوه لماتوا وصُعقوا, سمع صوتًا لا يسمعه الناس, ولو سمعوه ما هدأت جفون ولا نامت عيون, قال - صلى الله عليه وسلم-: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء" (رواه الطبراني في الكبير, والحاكم, والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء).
سمع صوتهما وهما يعذبان وكيف يعذبان؟ وما هو مقدار هذا العذاب؟ وما هي صفته؟ وما هي كيفيته؟
الله أعلم, فذلك أمره إلى الله علام الغيوب (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) [الأنعام:57]. ويحكم ولا معقب لحكمه وهو رب العالمين. كيف يعذبان وهما تحت الأرض, قد هجم عليهم الدود وأتاهم البِلَى, فذهبت الأشلاء والأعضاء (إِنَّ اللَّهَ علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:20].
لو غيبت الإنسان البحار, ولو أخذته سفاسف الريح في الغفار, لجمعه الله في أقل من طرفة عين وهو الواحد القهار (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:82-83].
في الصحيح عن النبي: "أن رجلاً حضره الموت فقال لأولاده - يوصيهم -: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني وارموا بنصفي في البر ونصفي في البحر؛ فلئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين, فلما مات أحرقوه ثم طحنوه ثم بعد ذلك رموا نصف الدقيق في البر ونصفه في البحر, فأوحى الله إلى البحر أن اجمع ما فيك, وإلى البر أن اجمع ما فيك. فإذا هو قائم بين يدي الله جل جلاله" (رواه البخاري: 6/570).
إن الله على كل شيء قدير, فلو أكلت النار, ولو دُمر الإنسان وقطعت أشلاؤه ولو التقمته السباع فإن الله على كل شيء قدير (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان:28]. (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:54].
"إنهما ليعذبان", يعذبان وهما مسلمان مؤمنان, فكأن الصحابة -رضوان الله عليهم- عجبوا, كأنهم يسألونه ما السبب؟ فقال: "وما يعذبان في كبير" ما يعذبان في أمر صعب عسير, ولكن في أمر سهل على الإنسان أن يتقيه ويحذره إذا وفقه الله جل جلاله, ولذلك قال: "وما يعذبان في كبير" في أمر يسير, وهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون على خوف من الله, وأن الذنب قد تراه صغيرًا, ولكنه عند الله كبير (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
قد تتكلم بالكلمة اليسيرة من غضب الله -جل جلاله- يكتب الله بها سخطه على العبد إلى يوم يلقاه, فالأمر قد يكون يسيرًا في نظر الإنسان ولكنه عظيم عند الله جل جلاله, قال: "بلى", وفي رواية: "إنه لكبير", أي إنه ذنب عظيم, يستحق صاحبه هذا العذاب الكبير, ثم بين هذين الذنبين فقال: "أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله", وفي رواية: "لا يستنزه من بوله" , وفي رواية: "لا يستبرئ من بوله" اشتملت هذه الروايات على أمور:
أولها: لا يستتره من بوله, ولا يستبرئ من بوله بمعنى أنه يقوم مباشرة قبل التأكد من انقطاع البول. هذه العجلة تفضي إلى بقاء شيء من البول, فإذا قام قبل أن ينقى الموضع فإنه مظنة أن يخرج البول فتبطل صلاته والعياذ بالله.
"لا يستتر من بوله" قال بعض العلماء: "لا يستتر من بوله" أي يبول فيكشف عورته أمام الناس عند بوله, يأتي إلى المواضع التي فيها الناس ولا يأمن من نظر الناس فيكشف عورته ويقضي حاجته دون حياء من الله والناس, فمن جلس أمام صنابير المياه التي يجتمع عندها الناس؛ لكي يستنجي فتنكشف عورته ينطبق عليه هذا, ومن جلس على طريق الناس لكي يقضي حاجته فيراه الذاهب والآتي فإنه داخل في هذا الوعيد.
"لا يستتر من بوله" أي لا يجعل لنفسه سترًا يحول بينه وبين نظر الناس.
من السنة إذا طلب الإنسان مكانًا يقضي فيه حاجته أن يكون هذا المكان فيه ستر لعورته؛ فإن الله أمر بستر العورات, وامتن على المؤمنين والمؤمنات بل على الناس جميعًا بستر عوراتهم أنزل علينا اللباس؛ لكي يكون سترًا لنا من نظر أعين الناس وإلا لذهب الحياء من الوجوه.
إذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته ينبغي أن يطلب الأماكن المستترة بعيدًا عن الناس فإن كان في الخلاء والصحراء طلب الحجار الكبيرة؛ لكي يستتر بها أو الحفر؛ لكي يكون فيها أو شيئًا من النشز والمرتفع من الأرض؛ لكي يجعله بينه وبين أعين الناس فإن لم يجد شيئًا من ذلك أبعد في المذهب؛ حتى لا تدرك العين عورته.
سبحان ربي العظيم إذا كان هذا الوعيد لمن يقضي بوله, فتنكشف عورته فكيف بمن يخرج بلباس تنكشف به عورته وهو كاسٍ عارٍ؟ إذا كان هذا الوعيد للحظات يسيرة للبول فكيف بمن لبس الشفاف من الثياب وفتن الناس بلباسه؟ ولذلك قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها" (رواه مسلم: 14/109), وصفهن بكونهن كاسيات، ولكن أخبر أنهن في الحقيقة عاريات فليستتر الرجال والنساء بستر الله, وليحمد الإنسان العافية من الله جل جلاله.
كشف العورات مذلة للمنظور وفتنة للناظر, فينبغي لمن لبس الثياب أن يتقي الشفاف, وأن يتقي كل ما يبين عورته وينمي عنها؛ لأن هذا الوعيد المقصود منه أن يحفظ الإنسان عورته من كل وجه.
أما رواية "لا يستنزه من بوله" ففيها وجه ثالث, وهو أنه إذا بال يجلس في مكان صلب فيتطاير البول على قدميه وساقيه وعلى ثيابه, فلا يأمن أن يصلي وهو متلبس بالنجاسة في بدنه, وهذا يدل على خطر النجاسة في الثياب عند الصلاة, تحفظوا عند صلاتكم رحمكم الله من النجاسات وتوقوا منها؛ فإن النبي يقول: "اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه"( رواه الدارقطني في سننه ص 47).
قال العلماء: السبب في ذلك أنه يصيب الثياب والبدن؛ لأن الإنسان لم يحسن طلب المكان الذي يقضي فيه حاجته. قال بعض العلماء: يستحب لمن أراد أن يبول أن يطلب الموضع الرخو الطاهر الذي إذا بال فيه لا يتطاير بوله على ثوبه وأسافل بدنه.
سبحان الله العظيم إذا كان هذا الوعيد لمن قصر في الطهارة وهي شرط الصلاة يعذب في قبره ويفتن في قبره إلى حشره فكيف بمن أضاع أركان الصلاة؟ كيف بمن ضيَّع واجباتها؟ كيف بمن ضيع أوقاتها؟ كيف بمن لم يصل بالكلية والعياذ بالله العظيم؟
فيا عباد الله إن وراءنا الأهوال ووراءنا الشدائد العظيمة التي يحاسب فيها الإنسان على كل صغير وكبير, وعلى كل جليل وحقير.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة نسألك برحمتك الواسعة أن تنير قبورنا بأنوارك الساطعة. اللهم ارحم في القبور غربتنا, اللهم ارحم في ظلمات القبور وحشتنا, اللهم ارحم في القبور ضعفنا وقلة حيلتنا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى جميع أصحابه الغر الميامين, ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
عباد الله, يخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- عن حال الرجال الثاني الذي فتن في قبره وعُذب, فيقول عليه الصلاة والسلام: "وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" قدم النبي الإخبار عن التساهل في البول؛ لأنه يتعلق بالصلاة وهي ركن من أركان الدين ثم أعقب ذلك بهذا الذنب العظيم وهي النميمة.
النميمة تفريق بين المسلمين وإيقاع للشحناء والبغضاء بين المؤمنين, الله يجمع بين عباده المؤمنين, والنمام يفرق, الله يؤلف بين القلوب، وهو يشتت ويمزق, النمام مجرم عظيم وأفاك أثيم ينقل الحديث إليك؛ لكي يفسد قلبك على إخوانك وأخواتك المسلمات, كل ذلك حقدًا وحنقًا على عباد الله وأولياء الله, ولذلك أخبر الله أن النمامين فيهم المهانة والكذب والفجور (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم: 10- 12] منّاع للخير لا يريد الخير للناس أفرادًا ولا جماعة.
قد تكون النميمة من الإنسان وهو لا يدري، فكل من نقل حديثًا إلى إنسان عن إنسان بقصد أن يوغر صدره عليه أو نقل هذا الحديث فوقعت الشحناء بينهما فإنه نمام والعياذ بالله, ولذلك أخبر النبي من كان نمامًا لا يدخل الجنة, قال: "لا يدخل الجنة نمام" (رواه مسلم: 2/113).
قال بعض العلماء: قوله: "لا يدخل الجنة نمام" أنه لا يوفّق لحسن الخاتمة والعياذ بالله, فلذلك لا يختم له بخاتمة خير, ولا يدخل الجنة نسأل الله السلامة والعافية, وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- يخافون من النمامين وكانوا يحتقرونهم ويهينونهم, جاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله- فقال: إن فلانًا يتكلم فيك. فقال له: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ تحقيرًا له وامتهانًا.
وجاء رجل إليه فقال: إن فلانًا يذكرك بسوء أو يسبك. فقال: والله لأغيظن من أمره بذلك, اللهم اغفر لي ولأخي. قصد بذلك أن يغيظ شياطين الإنس والجن.
النمامُ لا خير فيه. والنميمة قد تكون من الأبناء والبنات, وقد تكون من الأزواج والزوجات, وقد تكون من الآباء والأمهات, وتكون من عموم المسلمين والمسلمات. فقد يكون ابنك نمامًا والعياذ بالله حينما ينقل لك الأمور التي تفسد قلبك على إخوانه وأخواته, وقد تكون البنت نمامة والعياذ بالله حينما تفسد قلب أمها على أخواتها, وقد يكون الإنسان نمامًا أشد ما يكون والعياذ بالله إذا فرّق بين الأقرباء والأرحام, من فرق بين الوالد وولده, فتجد بعض الناس إذا اشتكى له إنسان من ابنه جلس يذم هذا الابن وينقل أفعالاً وأقوالاً تغيظ أباه عليه, ويقول له: ابنك هذا لا خير فيه, إن فعل ذلك فالقبر موعده, فإن شاء فليستقل أو ليستكثر.
النميمة أشد ما تكون إذا فرقت بين الآباء والأبناء وبين الأمهات والبنات وبين الأخوان والأخوات, فاتقوا الله عباد الله في عباد الله, اتقوا الله في الأرحام والأقرباء ولذلك قال: "لعن الله من خبب امرأة على زوجها" (روى الإمام أحمد (2/397) عن أبي هريرة مرفوعًا"من أفسد امرأة على زوجها فليس منا" ورواه أبو داود في الطلاق, باب فيمن خبب امرأة على زوجها (6/224) عون المعبود شرح سنن أبي داود).
قد تفسد الأم بنتها على زوجها, وقد يفسد الأب بنته على زوجها, ويفسد الابن على زوجته حينما يقول زوجتك تفعل كذا وكذا, وتقول عنك كذا وكذا, ونقلت عنك كذا وكذا؛ لكي يوغر صدر ابنه على زوجته أو توغر صدر ابنتها على زوجها فإن فعلت ذلك فلها أمران:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله من خبب امرأة على زوجها".
والثاني: هذا الوعيد الشديد والتخويف والتهديد الذي اشتمل عليه هذا الحديث الصحيح, فاتقوا الله عباد الله, وأصلحوا ذات بينكم, واعلموا أن الله سائلكم عن الأقوال والأفعال.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله, الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك...