الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن هذه النملة نصحت وكانت صادقة في نصحها وأظهرت حرصها على قومها, وقبل قومها النصيحة, ولكن في زماننا أين من ينصحون؟ وأين من يقبلون النصيحة؟ أين الصادقون في نصح أهلهم وجيرانهم وأين الفرحون بالنصيحة؟...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي, يرى ويسمع خلقه من فوق عرش فوق ست ثمان, فيرى دبيب النمل في غسق الدجى ويرى كذلك تقلب الأجفان, أحمده وأشكره على جزيل نعمائه وسابغ عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته, وفي أسمائه وصفاته, واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر والشفيع في المحشر, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل البشر وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فاتقوا ربكم تفلحوا وتفوزوا وتسعدوا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون: إن الله خلق المخلوقات وأتقن صنعها وأبدع صورها (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: 88] ومن تأمل صنع الله العجيب زاد إيمانه, واطمئن قلبه, وخشعت جوارحه, وسالت دمعته, ورغبت نفسه عن الدنيا وطلبت الآخرة.
ومن أعظم مخلوقات الله الحشرات الصغيرة التي ليس لها روح سائلة, كالنمل الذي ذكره الله في كتابه, وكيف تكلمت نملة ونصحت وحذرت قومها (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 18، 19].
وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها, وقال قتادة: "ذكر لنا أنه واد بأرض الشام"، وقال كعب: "هو بالطائف". قال كعب: "مر سليمان -عليه السلام- بوادي السدر من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشى وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم، فنادت: (يَاأَيُّهَا النَّمْلُ) الآية, لقد سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس.
أيها المسلمون: لقد تكلمت هذه النملة ونصحت وحذرت قومها؛ لأجل إيمانها (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) فقولها: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) التفاتة مؤمن, أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نمله فما فوقها إلا بألا يشعروا, فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور، ولذلك نهى عن قتلها، وعن قتل الهدهد؛ لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس، وقال عكرمة: "إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه".
أيها الإخوة: إن هذه النملة نصحت وكانت صادقة في نصحها وأظهرت حرصها على قومها, وقبل قومها النصيحة, ولكن في زماننا أين من ينصحون؟ وأين من يقبلون النصيحة؟ أين الصادقون في نصح أهلهم وجيرانهم وأين الفرحون بالنصيحة؟.
لقد أحسنت هذه النملة الصغيرة في حجمها الكبيرة في فعلها, فحفظها الله وقومها ليس من سليمان وجنده بل مادامت السموات والأرض إلى قيام الساعة؛ لذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النمل إن لم يكن مؤذيا, قال ابن عباس: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أربع من الدواب: "الهدهد والصرد والنملة والنحلة".
وروى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء, فأمر بقرية النمل فأحرقت, فأوحى الله تعالى إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" وفي طريق آخر: "فهلا نملة واحدة". قال القرطبي -رحمه الله-: قال علماؤنا: يقال إن هذا النبي هو -موسى عليه السلام-، وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع!!. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرا ونقمة على العاصي.
وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله. وروى عن إبراهيم: "ما آذاك من النمل فاقتله", و عن طاووس قال: "إنا لنغرق النمل بالماء يعني إذا آذتنا", وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل وقوله: "ألا نملة واحدة" دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء.
وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها؛ لأنه ليس المراد القصاص، لأنه لو أراده لقال: ألا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: ألا نملة مكان نملة، فعم البريء والجاني بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي.
وقال العلامة الدميري قال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول: "لم يعاتبه الله تعالى على تحريقها وإنما عاتبه على كونه أخذ البريء بغير البريء".
أيها الأحبة: إن هذه النملة وما فعلته دلتنا على أن الحيوانات لها عقول وتفهم قال القرطبي: "لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول."
وقد قال الشافعي: "الحمام أعقل الطير". قال ابن عطية: "والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر, ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع، لأنها تنبت إذا قسمت شقين، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأحرى بهذه النملة وأخواتها من النمل أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية". وقد دل هذا على ما رواه الطبراني عن الزهري أن سليمان -عليه السلام- خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة أحد قوائمها تستسقي, فقال لأصحابه: "ارجعوا فقد سقيتم, إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها", وقال ابن القيم: "وهذه النمل من أهدى الحيوانات, وهدايتها من أعجب شيء, فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها وإن بعدت عليها الطريق, فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر؛ حتى تصل إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان". قال أبو موسى الأشعري: "إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سمواته على عرشه".
ولقد حدثني أن نملة خرجت من بيتها فصادفت شق جرادة, فحاولت أن تحمله فلم تطق, فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها, قال: فرفعت ذلك من الأرض فطافت في مكانه فلم تجده, فانصرفوا وتركوها, قال: فوضعته فعادت تحاول حمله فلم تقدر, فذهبت وجاءت بهم فرفعته, فطافت فلم تجده فانصرفوا, قال: فعلت ذلك مرارا, فلما كان في المرة الأخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها وقطعوها عضوا عضوا, قال شيخنا: وقد حكيت له هذه الحكاية فقال: هذه النمل فطرها الله -سبحانه- على قبح الكذب وعقوبة الكذاب والنمل من أحرص الحيوان ويضرب بحرصه المثل.
ويذكر أن سليمان -صلوات الله وسلامه عليه- بما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة وسألها: كم تأكل النملة من الطعام كل سنة, قالت: ثلاث حبات من الحنطة, فأمر بإلقائها في قارورة وسد فم القارورة وجعل معها ثلاث حبات حنطة وتركها سنة بعد ما قالت, ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة فوجد حبة ونصف حبة, فقال: أين زعمك؛ أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات, فقالت: نعم؛ ولكن لما رأيتك مشغولا بمصالح أبناء جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة, فاقتصرت على نصف القوت واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي, فعجب سليمان من شدة حرصها وهذا من أعجب الهداية والعطي.
أيها الشباب: لنرى النملة وعملها وجدها واجتهادها, فهل كانت هي أعقل منا وأحرص وأعلم مصلحتها, فلم تنم ولم ترتاح بل عملت, فأنت تنام وتضيع عملك ورزقك وتريد أن تكون عالة على أهلك وزوجتك!!. وأنت -أيها الأب- لماذا تأكل راتب ابنتك وتنام ولا تعمل كالنملة.
أيها الدعاة: انظروا إلى النملة ودعوتها وتوحيدها وصبرها, فاصبروا ولا تعجزوا وتحملوا لتسعدوا.
ألا وصلوا وسلموا...