الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | كتاب الجهاد - فقه النوازل |
إن الذي هزِم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسميات أخرى بعيدة عنه مشوهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل هي العلمانية، الإسلام الذي لم يُمَكَّن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود .. إن بلوى نكبة فلسطين وتكرار ذكرها ينبغي أن يكون دافعًا لنا لا محبطا، محركًا للجهود لا جالبًا لليأس من عدم النصر؛ فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ..
أما بعد: يا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها الإخوة المؤمنون: ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانس متماسك يشدّ بعضه أزر بعض، ويأرز إلى عقيدته الجامعة كلما هدد كيانه خطر أو ادلهم عليه خطب، ومنذ فقدان الأندلس ومن ثم ضعف وسقوط الخلافة العثمانية - أخذت أرض الإسلام تنتقص من أطرافها؛ ففقدت أقطار وأمم وانتهكت محارم ومقدسات ودارت رحى الحرب على المسلمين وتداعت عليهم الأمم والشعوب، وصدق رسول الله: "يوشك أن تتداعي عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير ولكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" أخرجه أحمد وأبو داود.
نعم إخوتي: إنه الوهن وهو سر الضعف الأصيل حين يعيش الناس عبيدًا لدنياهم، عشاقًا لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم الشهوات، وتموج بهم وتسيّرهم الرغائب المادية.
إنه الوهن حين يكره المسلمون الموت ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، ويؤثرون حياة يموتون فيها كلّ يوم موتات على موت يحيَون بعده حياة سرمدية، جبن في النفوس والقلوب، وانفعالية في الإرادة والتصرفات، وغرام بالمتع الرخيصة في أدقّ الساعات وأحلك الأيام، وافتتان بالملاهي والرياضة والمعازف، وجبن عن المغامرة والإقدام، وشرع الحكم الإسلامي بالتراجع ومرتكزاته العلمية بالتداعي؛ فحلت البدع محلّ الإبداع، والتقليد محلّ التجديد، وزاحمت ظلمات الخرافة بدور التوحيد، وقامت رايات القومية العربية أو الاشتراكية أو الناصرية أو البعثية.
تلكم باختصار -إخوتي- وصف لحال أمتنا العربية الإسلامية التي تبلّد حسها بالرغم من كثرة مصائبها التي طالت شعوبها وأراضيها بل وحتى مقدساتها، وتغيب الأمة عن قضاياها؛ لتفقد الخلق والإرادة، وتباع الأمة وحقها بمنافع سلطوية شخصية، وتزعزع روح التدين والأخلاق؛ فكيف كانت النتيجة؟! نعم كيف كانت النتيجة؟! لقد أصبحت الشعوب العربية الإسلامية غثاءً وركاماً لا تملك حولاً ولا طولاً ولا قوة في مواجهة أعدائها، هذا إن عرفت عدوها حقّ المعرفة.
تُرى ما أسباب تبلد الشعور العربي؟! أحداث مأساوية ودماء وأشلاء، أطفال تقتل في مهدها، ونساء تنتهك حرماتها، وبيوت تهدم ليلاً فوق أهلها، أشجار الزيتون تقتلع من أرضها، بل أعظم من كل ذلك مقدسات على وشك أن تهدم، بل قد دنست، وأما سبيل المقاومة أمام المدرعات والمجنزرات والجند المدججين فهو الحجر، نعم الحجر، لم يملك المسلمون بكل قواهم وثرواتهم سوى الحجر.
إنها فلسطين حيث صور الدمار والدماء والجثث التي لا تملك وأنت تطالعها أو تسمع عنهم إلا أن تتساءل: أين غابت نخوة المسلمين؟! بل أين غابت نخوة العرب؟! أين غابت الثروات؟! هل تبلد الشعور في نفوسنا أم انطفأت جذوة الحماس في قلوبنا؟! تُرى هل أمتنا غير تلك الأمة التي نطالع مجدها ونقرأ تاريخها الحافل بالانتصارات والتي تغنّى بها الشعراء؟! إنها أسئلة بلا إجابة.
أمتي هل لـك بيـن الأمـم
إنها نكبة النكبات، إنها فلسطين في زمن التخاذلات، فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم؛ فماذا فعلنا لها؟ ماذا قدمنا من تضحيات؟! ماذا فعلنا لها؟! وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفة شبت ثم انطفأت..
ثلاث وخمسون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود في نكبة فلسطين..
ثلاث وخمسون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نيران احتلال الصهاينة اليهود..
ثلاث وخمسون سنة وأمتنا العربية من نكبة إلى نكسة إلى تشرذم إلى خلاف..
ثلاث وخمسون سنة وأمتنا الإسلامية تنهش من أطرافها وأوساطها ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب..
ثلاث وخمسون سنة وإعلامنا العربي منشغل عن قضاياها المصيرية بالفن والرياضة ومسلسلات العهر والفجور والاستهزاء بمسلّمات ديننا الإسلامي..
ثلاث وخمسون سنة وكل راية رفعت في مواجهة اليهود إلا راية الإسلام والجهاد في سبيل الله، حتى راية الفاتيكان وقساوستها وبابا الفاتيكان يستعان به وراية الفاتيكان ترفع في بلاد المسلمين وعلماء المسلمين يهمَّشون ويضيَّق عليهم..
ثلاث وخمسون سنة وأبناء فلسطين في رباط دائم مطيّبين بالكفاح مثخنين بالجراح..
ثلاثة وخمسون عامًا وبلد إسلامي في الأرض المباركة فلسطين يعيش آلامًا وجراحًا، يعيش نكبات لم ينكب مثلها المسلمون منذ قرون، يعيش طردًا وحشيًا لشعب آمن في أرضه وعمرانه، يعيش جريمة دولية تصلح لعصابة يهود أن تمارس القتل والتشريد بلا تمييز..
ثلاث وخمسون سنة تعرت فيها الفدائيات المهترئة والمنظمات المتخاذلة وانكشفت فيها أكذوبة السلام وخداع أوسلو ومدريد وكل اللقاءات والمؤتمرات واللجان والمبعوثين ورعاة السلام المزعومين..
ثلاثة وخمسون عامًا والحكاية ما تزال في بدايتها، غرب متآمر، جوار متخاذل، وأموال تتدفق على المعتدي الصهيوني..
ثلاثة وخمسون عامًا والبرابرة اليهود مع الخونة والمتخاذلين من أعوانهم ينفذون نكبات جديدة من دير ياسين إلى دير البلح إلى كفر قاسم وإحراق المسجد الأقصى ومذبحة صبرا وشاتيلا وعناقيد الخضم في قانا، إنه حاضر يرتد إلى الماضي؛ فكيف بدأت القصة؟!
أيها المسلمون: كان اليهود شراذم وأقليات في بقاع شتى من العالم، فعزموا على إعادة بناء أنفسهم بجدية، فأنشؤوا حركة صهيونية تعمل وفق خطة مدروسة واضحة المعالم بوصاية بريطانية، واجتمع هدف اليهود والنصارى الذين لم ينسوا الأحزاب وخيبر وبلاط الشهداء وحطين وبدعم من قادتهم كهرتزل ونوردن ووايزل، استطاعوا في فصل تاريخي أن يعقدوا مؤتمر باسل قبل حوالي مائة سنة الذي انبثقت عنه المنظمة الصهيونية التي نجحت بالتحالف مع الغرب بعد أن سيطرت على غالب ثرواته وتحكمت في إعلامه بأن كثفت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومن ثم استصدار وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور عام 1917م بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين المستعمرة حينذاك من بريطانيا، هذا الوعد لأرض مستعمرة في فلسطين لتجمع شتات اليهود، وزادت المصيبة وعظمت حين أسقطت دولة الخلافة الإسلامية في عام 1924م.
وفي نهاية المطاف نجحت الصهيونية ليعلن ابن قريون إنشاء كيان دولة يهودية في فلسطين قبل 53 عامًا أي: سنة 1948م تسيطر حينذاك على 78 في المائة من أرض فلسطين، هذه الدولة النشاز التي سارع إلى الاعتراف بها عدد من دول العالم الكافر بمنظماته وهيئاته، وفي الوقت نفسه الذي يجتمع فيه اليهود شرّد من مسلمي فلسطين حينذاك حوالي 750 ألفًا الذين ما زال معظمهم يعيشون في مخيمات بائسة بعد أن أصبح تعدادهم ثلاثة ملايين ونصف لاجئ.
وفي سنة 1967م استكمل الصهاينة احتلال باقي فلسطين مع عدد من الأراضي العربية، ثم أصبحت إسرائيل دولة اعترف بها حتى بعض دول العالم الإسلامي، وتعاملوا معها ووقعوا معها الاتفاقيات وتبادلوا معها السفراء والمكاتب التجارية في نفس الوقت الذي يقتل فيه المسلمون داخل فلسطين.
تلكم هي قصة ثلاثة وخمسين عامًا من الصراع مع يهود، كان عدد اليهود في بدايته قليلا، وكان مشروعهم صغيرا بإمكان المسلمين حينذاك القضاء عليه في مهده -لو انتبهوا لهم وما انشغلوا عنه-، لكن المشروع توسع ولعله من قدر الله جل وعلا أن يجعل هذه المنطقة في أتون الصراع؛ لتجاهد في سبيل الله وتخرج العدو من الأرض المباركة.
لقد استنجد أهل فلسطين في بداية صراعهم مع اليهود بإخوانهم العرب والمسلمين، وقامت التجارب الجهادية -لأمة ما زال فيها عرق ينبض ورجال لا يقبلون الضيم حينذاك-، واشترك علماء وشباب ضحوا بأنفسهم في سبيل الله؛ لمقاومة دولة يهود ودفاعًا عن المقدسات، لكن تلك التجارب أجهض أكثرها وحوربت من القريب قبل البعيد، وكان مسلمو فلسطين يصرخون ويستغيثون ويبينون المؤامرة تلو المؤامرة؛ فعقدت المؤتمرات الكثيرة، وناقشوا القضية، وأشبعوها نقاشًا، فتمخض الدعم بالمال فقط إن وجد، واستجاب العالم العربي بدوله ومنظماته بلجان تأتي وتذهب ولا تستطيع أن تفعل شيئا، لجان ومندوبون برعاية كافرة من هيئة الأمم أو مجلس الأمن، وكانوا يصدرون القرارات ويعدون ويحاورون ويناورون ويعِدون العرب ولا يوفون، والعرب لا يزالون ينتظرون، واليهود يماطلون، بل استفادوا تسليحًا وتدريبًا ونحن في غفلة ضائعون.
وفي الوقت ذاته الذي كان العرب يزدادون فيه ضعفًا وتخاذلاً فإن اليهود الصهاينة يزدادون قوة وتمكينا، وضعفت المقاومة تجاه اليهود، بل أصبحت الشعوب العربية ممنوعة حتى من الهتاف ضدّ إسرائيل -وقد تقمع لذلك- ذلكم هو تاريخ القضية التي ما زالت تنتقل من نكبة إلى نكبة ومن نكسة إلى نكسة.
أيها الإخوة المؤمنون: إنها دعوة للتأمل ودراسة الحال بحثًا عن العلاج؛ فإنّ المتأمل في مسيرة هذا الصراع تصدمه حقائق كبيرة يراد تصغيرها ومعالم خطيرة يراد تحقيرها؛ منها أن الكيان الصهيوني -الذي جعل الدين ركيزة تنطلق منها السياسة- ظل يتنقل خلال مراحل الصراع من إنجاز إلى إنجاز، ومن قوة وانتشار إلى مزيد من القوة والانتشار في الوقت الذي ظلت فيه أكثر الكيانات العلمانية التي تصدرت للمعركة تتخبط في سيرها متنقلة من فشل إلى فشل، ومن تنازل وخسارة إلى مزيد من التنازل والخسارة.
إن اليهود رفعوا منذ بدأت معركتهم راية واحدة هي راية التوراة، واندفعوا وراء غاية واحدة هي أرض الميعاد، فأسموا دولتهم باسم نبي الله يعقوب -عليه السلام- إسرائيل، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، وخاضوا معاركهم خلف الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم -بكل توجهاتها- شعارًا واحدًا هو نجمة داود، وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدون بناءه مكان المسجد الأقصى -كما يزعمون-.
إنها ثلاثة وخمسون عامًا على قيام دولة يهودية شاذة في أرض العرب، أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع، والهزائم المنكرة، والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعدّدة من اشتراكية وقومية وتقدمية أو بعثية أو ناصرية أو رافضية.
إن الذي هزِم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسميات أخرى بعيدة عنه مشوهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل هي العلمانية، الإسلام الذي لم يُمَكَّن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود.
أيها الإخوة المؤمنون: بعد كل ذلك هل نستفيد من التاريخ؟ هل نرجع إلى الماضي لنقوّم الحاضر؟ هل لليل فلسطين من آخِر؟ وهل لفجرها من موعد؟
إن اليهود بما يملكون من قوى سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو إعلامية أو نظام مؤسسات هم أضعف بكثير مما يتصورهم عدد من الناس، لكننا لا نستطيع مواجهتهم والوهن كامن في نفوسنا والمهابة منزوعة من صدور أعدائنا وإعلامهم ونظامهم ينسج الحقيقة من وجهات نظرهم وحدهم.
إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر -بإذن الله-، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر ومقومات الصمود؛ فليس الصراع مع اليهود صراعًا موسميا، بل بدأ صراعنا معهم منذ نبوّة محمد، وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من بني قريضة وقينقاع وبني النظير وعبد الله بن سبأ وميمون بن ديسان القداح.
إن قضية فلسطين قضية إسلامية بالدّرجة الأولى، وإن الصراع سيستمرّ وهو صراع بين الإسلام والتحالف الغربي الصهيوني، والجهاد الذي بدأه الشيخ يوسف الجرار وعز الدين القسام وعبد القادر المظفر وفرحان السعدي سيستمر -بإذن الله-.
ويجب أن يعلم المسلمون أن لا ثقة بوعود الغرب وأمريكا راعية السلام المزعوم، وأنه من السذاجة وهزال الرؤية أن نستجدي الغرب ليساعدنا ضدّ اليهود أو يوقفهم عن ارتكاب المجازر في حق شعب عربي هم يعتبرونه همجيا أو إرهابيًا، وإن نكبة مثل فلسطين لا تستَردّ بالحلول السهلة أو بالمؤتمرات والخطب فقط أو بالجلوس مع يهود في مفاوضات سلام لا تبحث إلا عن إرضاء اليهود ومصالح يهود، وإن البحث عن مثل هذا الواقع المتردي هو أول الوسائل للنصر.
أيها الإخوة: لقد هانت هذه الأمة حين ظهر فيها تفرق الكلمة واختلاف الأغراض وتجاذب الأهواء، لقد برزت فيها الأحقاد، شغل بعضهم ببعض، انقسموا إلى قوميات وتفرقوا إلى دوليات، لهم في عالم السياسات مذاهب، ولهم في الاقتصاديات مشارب، استولت عليهم الفرقة ووقعت عليهم الهزيمة، بل نهش بعضهم بعضا وسلب بعضهم حقوق بعض حتى صيح بهم من كل جانب، فانصرفوا عن قضاياهم الكبرى، واستغل الأعداء الأجواء.
وفي هذه الأجواء المظلمة والأحوال القاتمة يزداد الصهاينة في مقدساتنا عتوًا وفسادًا وتقتيلاً وتخريبًا، يريدون في زعمهم أن يبنوا هيكلهم المزعوم على أنقاض ثالث المسجدين الشريفين، أو أن يجهضوا انتفاضة الحجر لأطفال المسلمين ورجالها ونسائها؛ ألا ساء ما يزعمون؛ فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والمسكنة لمن غضب الله عليه ولعنه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، أولئك شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل.
أيها المسلمون: والله ثم والله ثم والله، لا عز لهذه الأمة ولا جامع لكلمتها إلا كتاب الله وسنة رسوله ، فليس بغير دين الله معتصم، به العز والمنعة، وعليه وحده تجتمع الكلمة، ولن يكون لهذه الأمة ذكر ومجد إلا به.
لقد تبين لكل ذي لبّ أن النزاع مع هؤلاء الصهاينة نزاع هوية ومصير وعقيدة ودين، وأن حقوق الأمة لن تنال بمثل هذا الخور، لقد أوضحت الانتفاضة -كما أوضحت أفغانستان والبوسنة والشيشان- أن الجهاد في سبيل الله هو السبيل الأقوم والطريق الأمثل لأخذ الحق والاعتراف به، وأيقن المسلمون أن راية الدين إذا ارتفعت تصاغرت أمامها كل راية، بالجهاد ترد عاديات الطغيان ويكون الدين كله لله ويبقى دين محمد مصدقًا لما بين يديه من الحق ومهيمنًا عليه.
إن حقًا على أهل الإسلام أن تربيهم التجارب والوقائع وتصقلهم الابتلاءات والمحن، وإن بلوى نكبة فلسطين وتكرار ذكرها ينبغي أن يكون دافعًا لنا لا محبطا، محركًا للجهود لا جالبًا لليأس من عدم النصر؛ فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ومن الابتلاء ما جلب عزًا وخلد ذكرًا وكتب أجرًا وحفظ حقًا.. كيف تحمى الحياة لمن يضيع دياره؟! وإذا ضاع الحمى فهل بعد ذلك من خسارة؟!
ولتعلموا أن الكفاح في طريق مملوء بالعقبات الكؤود عند أصحاب الحق والكرامة والصرامة ألذّ وأجمل من القعود والتخلف من أجل راحة ذليلة وحياة حقيرة لا تليق بهمم الرجال، وإن صاحب الحق لا بد له من المدافعة عن حقه وتهيئة أسباب القوة لانتزاع حقه من أيدي الغاصبين، والانتصار لا يتحقق للضعفاء، فلا حلّ إلا بالجهاد، ولا بد من الإعداد (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].
فاتقوا الله -رحمكم الله- وتناصروا بدين الله، وخذوا بعزائم الأمور، واعتصموا بأخوة الإسلام والولاء لله ولرسوله ولدينه، نسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين؛ إنه سميع مجيب.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الشدائد والنوازل التي أصيب بها المسلمون خلال ثلاثة وخمسين عامًا بل أكثر في فلسطين تستجيش مكمون القوى وكوامن الطاقات، وعندما تدلهم الخطوب والأحداث يتميز الغبش من الصفاء والثقة من القنوط، وإن التساؤلات التي تفرض نفسها في حال فلسطين ونكبتها لتبين لنا كيف جبنت الهمم وضعفت العزائم وخارت القوى عن تقديم أبسط وسائل النصرة لشعب فلسطين الذي يقصف صباح مساء على أيدي الصهاينة اليهود، والعرب لا يتكلمون، بل علقوا آمالهم على سلام مهترئ يسمى زورًا وبهتانًا سلام الشجعان، أو على مبادرات من هنا وهناك تؤخر ولا تقدّم وتعِد ولا تنجز، فأي سلام هذا الذي يهدم البيوت ويزرع المستوطنات ويشرّد من الديار ويحاصر الشعوب ويقتل الآلاف وينتهك المقدسات؟! سلام يلغي الكرامة ويولي مجرمي الحرب رؤساء ومفاوضين! إنها صور مأساوية للبغي على شعب فلسطين، يراها العالم بكل فئاته فلا يحرك ساكنًا، حتى الحس العربي تبلّد فما أصبح له من أثر.
محمد الدرّة، أمل الخطيب، وغيرهم في فلسطين، هل تعلمون من هم؟! إنهم الإرهابيون المتوحّشون -كما يزعم شارون- حين يقصفهم هو وجنوده في منازلهم وفي طرقاتهم، وأولئك الأطفالُ على أسرّتهم بدعوى مقاومة الإرهاب، وإنما هم أطفال لم يحركوا ساكنًا والعالم صامت لا يتكلم.
إيمان حجو ذات الأربعة أشهر يقصفها اليهود بقذيفة تشقّ صدرها من هنا وتخرج من هناك بدعوى مقاومة الإرهاب في فلسطين؛ فبأيّ ذنب قتلت وهي بطفولتها البريئة في مهد جنازتها؟!
إنما ترينا جبننا وخورنا عن نصرة قضية فلسطين ونحن ما زلنا صامتين، إنها أسماء أطفال لم تحارب، بل حتى الحجر لم تقذف الحجر، بل ماتت بالسلاح الصهيوني الذي لا زال حتى الآن يهدم البيوت ويقصف الآمنين ونحن عابثون صامتون لاهون عن نصرتهم..
إن الله سائلنا -ولا شك- عما قدمناه من نصرة لهؤلاء الضعفاء الذين خذلهم القريب قبل البعيد، أين أبسط أدوار المناصرة التي نقدمها إلى فلسطين؟! إنه ليس من عذر لأحد اليوم يرى مقدساته تنتهك ويرى أطفال أبرياء يقتلون في أسرتهم ويهود متسلّطين، ثم لا يدعم إخوانه هناك ولا يتأثر لمصابهم، بل قد يتلهى عنهم بالترَّهات والأباطيل؛ فأين أخوة الإسلام؟! أين نخوة عرب مضر وعدنان؟! ألم تروا جنائز الشهداء؟! ألم تسمعوا بكاء النساء؟! إنه لا عذر لأحد اليوم، إنه لا عذر لأحد اليوم، إنه لا عذر لأحد اليوم.
وفي المحيا سـؤال حائر قلـق
إن أبسط أدوار المناصرة هي الدعم بالمال للمسلمين في فلسطين، هذا الدعم الذي بدأه قادة هذه البلاد وشجعوه في حملة نصرة انتفاضة الأقصى المباركة، ونحن نسينا هذا الدعم -بل تغافلنا عنه-، كذلك الشعور الدائم بالقضية عبر مقاطعة بضائع اليهود والنصارى التي تحمّس لها المسلمون زمنًا، ثم تغافلوا عنها بالرغم من أثرها الكبير عليهم، ومع ذلك فقد نسيها أكثر المسلمين.
إن أشد ما يواجهه إخواننا في فلسطين من قصف وقتل هو هذه الأيام فهم أشدّ ما يكونون حاجة إلى نصرة إخوانهم حتى الدعاء في القنوت الذي أمر به ولاة أمر هذه البلاد وفقهم الله بخل به بعض أئمة المساجد وتثاقله كذلك بعض الناس من المصلين في تلك المساجد، فأين الشعور بالجسد الواحد؟!
لقد طالعت قبل قليل بعض صور الدماء والقتلى من جراء القصف اليهودي فرأيتهم لم يستثنوا أحدًا، لا طفلاً ولا امرأة ولا عجوزًا ولا بيتًا، إنها صور مؤثرة تبكي الإنسان، وعجز الإنسان عن نصرة إخوانه هناك يقتله أكثر من هذه الصور التي يراها، إنها صور رأيت فيها شعب فلسطين يناشدوننا فيها النصرة، رأيتهم يبكون ويقولون: أين إخواننا العرب؟! ولكن لا مجيب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن أملنا بالله عظيم في نصرة إخواننا في فلسطين، وأن يهيئ لهم النصر على سواعد الأبطال التي تقذف الحجارة.
إذا البغي يومًا طغى وانتشر