الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | الشيخ د عبدالرحمن السديس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - أهل السنة والجماعة |
السؤالُ المطروح بإلحاح إزاءَ هذه الأوضاع المزرِية هو: كيف نتجاوز سلبياتِ هذه المرحلة ونُعاودُ البناءَ والإعمار؟ أوَلسنا خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس؟! أوَلسنا أمّةَ الشهادةِ على العالمين؟! أوَلسنا الموعودين بالنصر والتمكين؟! ألم يئن الأوان لتحويل هذه السُّنن الشرعيّة إلى واقعٍ حضاريٍّ فعّال؟!
أمّا بعد:
فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فهي سبيل أهلِ الرشاد، وخير زادٍ يبلِّغ لرضا ربِّ العِباد، فتزوّدوا منها ليومِ المعاد، واغتنِموا أيامَ العُمر قبل النفاد، وشمِّروا في تحقيقها عن ساعِد الجدِّ والاجتهاد، واحذَروا مسالكَ أهل الغيِّ والفسادِ وطرُقَ أهل الباطل والضلال والعِناد، تدخلوا جنَّةً لا يخفى نعيمُها على كلِّ رائحٍ وغاد.
أيّها المسلمون، في زَحمةِ الأحداثِ وتسارُع المتغيِّرات وفي خِضمّ تداعياتِ النوازلِ والمستجِدّات وكثرة الأطروحات والتحليلات يَلحظُ المتأمِّلُ الغيورُ غيابًا أو تغييبًا للرؤية الشرعيّة والنظر في فقه السّنَنِ الكونية والاستقراء التّام للأحوال التأريخية والحضارية، حتّى حصل من جرَّاءِ ذلك زللُ أقدام وخَطَلُ أقلام وضلالُ أفهام وتشويشٌ وحيرة عند كثيرٍ من أهل الإسلام وخلطٌ في الأوراق لدى كثير من أرباب الفِكر والثقافة ووسائل الإعلام، ممّا يؤكِّد أهمّيّة المرجعيّة الموحَّدة للأمّة الواحدة، ترتكز في تحقيق أهدافها على الخيّرة صحَّة المعتقد وسلامةِ المنهَج والعناية بمصالح الأمة الكبرى ومقاصِد الشريعة العُظمى، باعتدالٍ في الرؤى وتوازُنٍ في النظر وأسلوبٍ عالٍ في الطرح والحوار، (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].
معاشرَ المسلمين، الكلُّ يدركُ ما تواجهُه أمّتُنا الإسلامية اليومَ من متغيِّراتٍ متسارعة، تضاعفت من خلالِها نُذُر الأخطارِ المتصاعدة، متغيّراتٍ وجدت فيها الأمةُ نفسَها أمامَ نظامٍ عالميّ جديد دون أن تعلمَ موقعَها فيه ومكانَها في خارطته، متغيِّراتٍ أصبحَت فيه نداءاتُ مقدَّسات المسلمين وصَرخات الأرض المباركة وأنّاتُ فلسطين واستغاثاتُ الأقصى مهدّدةً بالضياع في دهاليز التيهِ وأنفاق الظُّلمَ، وغدت حسراتُ أرض الفرات تتحشرجُ في الحلوقِ بين انعدامِ الأمن وضياع الحقوق وتطاوُلِ إرهاب الصّهاينة المعتدين لتنفيذ مؤامراتهم ضِدَّ أولَى القبلتين ومسرَى سَيّدِ الثقلين، في قفزاتٍ متسارعةٍ لتحقيق أحلامهم في إقامةِ دولتهم الكبرى بزعمهم وإقامةِ جدار الفصل العُنصُري، في إذكاءٍ لثقافةِ الصراع والعنصريّة ولغةِ الحِقد والكراهية بين الشعوب، وبدت ملامحُ التحرُّش الشَّرِس على مقدَّرات الأمّةِ وقِيَمها.
حتى بلاد الجزيرة لم تسلَم من أعمال الاستفزاز والاستهداف، فغُرِّرَ ببعض أبنائها، وأصبحوا أدواتٍ تُنفَّذ من خلالِها أعمالُ العُنف والإرهاب والتخريب والإرعاب وسلوك مسالكِ الغلوّ والتكفير والتفجير والتدمير، وآخرين يعيشون حياةَ التفريط والجفاءِ بين مطرقةِ التغريب وسِندان العولمة، في وضعٍ يمثِّل صورةً صارخةً لمقدار التبعيَّة الفكرية والانهزامية الثقافية لدَيهم، مع جرأةٍ عجيبة في المزايدةِ على الشريعة وتزييف الفِكر والوعي الذي يستمدُّ جذورَه من التنكُّر لعقيدة الأمّة ورسالتها التأريخية والسقوط في مباءات التقليدِ ومتاهات التبعيّة واجترار فكرِ الغير بانهزاميةٍ مُفرِطة، يتبعها سعيٌ حثيث لمسخ هويّة المجتمع وتغيير بنيتِه الفكرية ومنظومته الاجتماعية والطّعن في مناهجه الشرعية وأعماله الخيريّة والإغاثيّة والاحتسابيّة والتلاعُب بقضايا المرأة والحجاب، فكأنّ لهم الوصايةَ عليها والمحاماةَ عنها وهم داؤها لا دواؤها، وجعلِها شمّاعةً يعلِّقون من خلالها ما يرومون من انسلاخٍ عقديّ وفكريٍّ للأمّة وحلٍّ للنسيج الاجتماعيّ المتميِّز فيها، في مشروعَاتِ التغيير وأُطروحات التنوير والتطوير التي يُقصَد بها النيلُ من ثوابتِ الأمة وتغييبُ ثقافتها الشرعية، وهذا الأمرُ ليس بدعًا من الظواهر المعاصرة، فلم يزل أحفادُ عبد الله بن أُبيّ عليهم من الله ما يستحقّون يظهرون ويَتَجدّدون في كلّ زمان، ويلبسون لكلِّ عصر لبوسَه، تختلفُ قوالبُهم، وتتَّحِد قلوبُهم في شرخِ عقيدة الأمّة وإغراق سفينتها، (وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:30].
أمّةَ الإسلام، وإنّ أخشى ما يُخشى أن تشهدَ المرحلة القادمةُ حَربًا ضروسًا على القِيَم الدينيّة والثوابت الشرعية، وسيسقُط القناع ويُماط اللِّثام عن حقيقة ثقافةِ هؤلاء وجذور أولئك، كما يُخشَى أن يكون كلٌّ من تيّار الغلوّ والغلو المضادّ أداةً طيِّعة للأعداءِ المتربِّصين في اختراق سفينة الأمّة وتسويق مشروعاتهم الفكرية والاجتماعية وبسطِ نفوذهم على مراكز الرأي والتأثير في الأمّة تحت مسمِّياتٍ برّاقة وشِعاراتٍ خلاَّبة تجعل التدمير والتفجير شهادةً وجهادًا، كما تجعل الفسادَ إصلاحًا، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11، 12].
ولهذا فإنّ استبانةَ سبيل هؤلاء وأولئك ورصدَ توجُّهاتهم عن طريقِ دراساتٍ واستراتيجيّات تزيل الشُّبَه عن الأجيال اللاحقة يُعَدُّ حفاظًا على الفكر الوسطيّ المعتدِل أمام معاوِل الهدم والتخريب التي تحاول إسقاطَه؛ إما بالتفريط والجفاء أو الإفراط والغلوّ، ممّا يؤكِّد ضرورةَ حماية الأمنِ الفكريّ في الأمّة بتحقيق التعاون بين الجهات العِلميّة والبحثيّة والشرعيّة والأمنيّة والإعلاميّة والتربويّة لصدِّ العدوان الشَّرِس الذي يستهدف بلادَنا في عقيدتها وأمنها وفكرها واقتصادها، لا بدّ من تجفيف منابعِ الإرهاب بنوعَيه والغلوّ والتطرّف بشِقَّيه، وذلك ليس مجرَّدَ ترَفٍ علميٍّ وإعلاميّ، بل هو من الضرورات المهمّة والأولويات الأكيدة التي تحافظ على سفينة الأمّة لتمخر عُبابَها أمام أمواجِ المِحَن وتلاطُم الفِتن؛ لتصلَ إلى برّ الأمان وشاطئ السلامة والاطمئنان، (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:55].
إخوةَ الإيمان، والسؤالُ المطروح بإلحاح إزاءَ هذه الأوضاع المزرِية هو: كيف نتجاوز سلبياتِ هذه المرحلة ونُعاودُ البناءَ والإعمار؟ أوَلسنا خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس؟! أوَلسنا أمّةَ الشهادةِ على العالمين؟! أوَلسنا الموعودين بالنصر والتمكين؟! ألم يئن الأوان لتحويل هذه السُّنن الشرعيّة إلى واقعٍ حضاريٍّ فعّال؟! فنحن أمّةٌ لا تعرف التلاشيَ والسُّقوط، ولا يتطرّق إليها اليأسُ والقنوط، فسرعانَ ما تكبو تنهض وتعلو.
إنّه مِن خِلال الوعي بهذه الحقيقةِ بتجديد الثقةِ بالله وقرب نصرِه، ثم إعادة الثقةِ بالنفس وبثِّ أخلاقيات الأمل والتفاؤل والتحصُّن بالرّشد والاعتدال المطلوب للخروج من مرحلة الضّياع التي تكاد تعصِف بالأمَّة خارجَ دائرة العالم الحضاريّة، وبذلك يجتمع الشّتات ويُلَمّ الشّعث وتُسوَّى الصفوف لتصوغَ الأمةَ في كيان واحدٍ كبير وإن تعدَّدت منه الأطياف، لتُكرَّس للتعاوُن والتكاتُف والتكامل، لا للخصام والجفاء والتقاتُل، في توظيفٍ للطاقات وتنميةٍ للقدرات في عصرِ القوى الكبرى والتكتُّلات العُظمى، لتستوعب طاقاتِ الأمّة عامّة والشباب خاصّة وتصفّ نظامَها وتضبطَ عطاءها وتستثمرَ جهودَها على أحسن وجوهِ الانتفاع للبلاد والعباد.
وإنّ أحدًا لا يرضى أن تبقى الأمةُ مفرّقةً لا جامعَ له، تتخبّط في مواطنِ الفتن وتخوض في مواضع المِحَن وتسبح في بحرٍ متلاطِم بلا رُبّانٍ مَهَرة، بل أحيانًا بلا سفينةٍ صالحة، فكيف يكون هذا حالَ أمّةٍ أمرها الله بالتوحيد والوحدة؟! وما الذي يمنع الصفوفَ من التراسّ والمواقف من الاجتماع ونحن أمّةُ الأخوّة والوئام والتكاتُف والتعاون والالتئام والتلاحُم والاعتصام؟! إنّنا نريد أن نتجاوزَ مرحلةَ التأطير والتنظير إلى محطّةٍ من التحرُّك والإيجابية والتفعيل، انطلاقًا من رؤًى شرعية لا تروم المستحيلَ ولا تجافي الواقع، ولكنها تهدف إلى معالجة الأمور على ضوء المقاصدِ الشرعية والضوابط المرعيّة.
إنّ مرجعيَّةً تُعنَى بالقواعدِ والأصول وإن اختلفتِ الفروع وتهتمّ بالكليات وإن تنوّعت الجزئيات وتُعنى بالثوابت والنتائج والمحكَمات وإن تباينتِ الوسائل والمقدّمات والاجتهادات لهي الفريضةُ الأمَل والمخرجُ الصائب والبلسمُ الناجع والتِّرياق المصَفَّى الذي يقضي على الآراءِ الآحاديّة والفتاوى الفرديّة والنظريّات أحاديّة الجانب، ويجتثّ آراءَ الرويبضةِ ممّن يتكلّمون في أمور الشريعة ويخوضون في أمورِ الحلال والحرام وهم ليسوا منها في وِردٍ ولا صَدَر، عبرَ إثاراتٍ صحفية وتلاسُنٍ إعلاميّ فضائيّ مُسطَّح، جرَّ الأمةَ إلى هوّةٍ سحيقةٍ من الفرقة والشتات في الرأي والعَجز والوهَن في المواقف.
إنّه لا اعتصامَ للأمة ولا اجتماعَ ولا امتناع إلا إذا احتمَت بسياج المرجعيّة المعتبرة من الولاية المسلمة والعلماء الربّانيين، فلا بدّ من هبَّةٍ للدين وقومةٍ لله مَثنى وفُرادى، ثم تفكُّرٍ في أساليب وطرائق الصلاح والإصلاح، في صرحٍ من التلاحُم في القلوب قبل القوالب، لا تُميِّلها الرياح، ولا تزعزِعها الأعاصير، ولا تنال منها المعاوِل، بل تضربُ بجذورها وتقوم على أصولها وتُؤتي أكُلُها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها.
فيا كلَّ مسلمٍ غيور، ويا كلَّ عبدٍ موحِّدٍ، ويا أيّها القادة المسلمون والعلماء المخلصون والدعاةُ الصادقون والشباب الصالحون، لنبادِر جميعًا بوضع البنية التحتيّة وحجَر الزاوية الأرضيّة في سبيل نُصرة دين الله، معتصمين بشرعه، مدركين أنه لا حولَ لنا ولا قوّةَ إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولن ندركَ غاياتنا إلا بهدايتِه، ولن نُحقِّق أهدافنا إلا بتوفيقه ومعونتِه، ولن نخرجَ من المحَنِ والبلايا والنوازل والرزايَا إلا بإعزازِ دينِه والغَيرةِ على محارمِه وتحكيم شريعتِه والوقوف في صفِّ دعاته، فلا موضعَ بعدَ اليوم للتحيُّز والانفِصام، فضلاً عن المناطحة والصِّدام. وإنّ مخالفةَ الجماعةِ والانطلاقَ من رؤًى ضيّقةٍ من التحيُّز والتحزُّب والإعجاب بالرأي وتسفيه الآخر مؤدّاهُ لا مَحالةَ إلى الفشلِ الذَّريع. وإنَّ حقًّا على جميعِ شرائِح الأمّة وأطيافِ المجتمع أن تتحلَّى بالصّدق في الانتماء لدِينها وعقيدتها وغَيرتها على أمنِ بلادها ووطنها، فلم يعُد الأمرُ محتمِلاً للتَّمحُّلات والأساليب الإعلامية المستهلَكة، كما لم يعُد مجالٌ للسكوت والتغاضي والتصنُّع والمجامَلة أمام كلِّ فِكرٍ دخيل ومنهَج وافدٍ هزيل.
إنّنا مُطالبون جميعًا كلٌّ في ثغرِه ودائرةِ اختصاصه ـ في المسجدِ والأسرة والبيتِ والمدرسة ووسائل الإعلام وقنواتِ التربية والتوجيه ـ بتحرِّي الصدقِ مع الله في خدمةِ عقيدتنا والدّفاع عن بلادنا، بعيدًا عن المصالح الحزبيّة الضيّقة والمكاسِب الدِّعائية المحدودة، وأن ننَزِّه مقاصِدَنا وألسنتَنا وأقلامنا عن تلك الأساليب الممجوجة التي تعُجّ بها بعض الدواوين والصحُف والقنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية والأروقة الانتهازيّة والنفعية، فإنه لم يعُد ثَمَّ مجالٌ لغير الصدق مع الله أوّلاً، ثم مع الرعاةِ ثانيًا، والرعيّة ثالثًا، وأمّتِنا الإسلامية رابعًا، وخامسًا المجتمعات الإنسانية والعالمية التي ترقُب حضارتَنا وتتطلَّع إلى محاسِن ديننا وصلاحِ شريعتنا ونُبل قيَمنا، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].
(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدَى والبيان، ورزقنا التمسّك بسنّة المصطفى من ولدِ عدنان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله المرجوِّ عفوُه وثوابه، والمخوفُ مكرُه وعقابُه، أحمده تعالى وأشكره، غمَر قلوبَ أوليائه برَوح رجائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، منّ على عباده بجزيلِ نعمائه وفَيضِ آلائه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد أنبيائه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وأصفيائه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وعليكم بالجماعة فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، ها قد انقشعَت بفضلِ الله ومَنِّه سحائبُ الفتنةِ التي مرّت على بلادنا حرسها الله، وتساقطت رموزُ الفتنةِ بحمد الله كما يتساقُط ورقُ الخريف، فهلاّ شكرنا المنعِمَ المتفضِّل سبحانه عند تجدُّد النّعَم وتبدُّدِ النِّقَم؟! هلا تفقّهنا في النصوص ووقفنا بحزمٍ مع النفوس في مراجعاتٍ صادِقة ومحاسباتٍ دقيقة، في تجاوزٍ لمرحلة التشفّي والشَّجب والاستنكار إلى وضعِ الخُطَط والبرامجِ للعمَل والحوار حتى لا يُلدَغَ المؤمِن مِن جحرٍ مرتين؟!
ألا ما أَحوجَ الأمّةَ إلى فِقهِ السّياسة الشّرعيّة على وفق فهمِ الصّحابة الأبرار والسّلَفِ الأخيار، لا على وفق المشاعِر والانفعالات، مع التأكيد على وجوبِ الأخذ بالنصوص متكاملةً وضبط المصطلحاتِ الشرعية على وَفق السّلف رحمهم الله، وأن لا نسنحَ للحماس المتدفّق والعواطِف المشبوبَة أن تجرَّنا إلى شطَطٍ في الفهم وهوًى في الرأي واتخاذ المواقف.
وإلى الذين تشبَّعوا في الفِكر التغريبيّ والفكر التكفيريّ، إلى هؤلاء وأولئك أن يراجعوا أنفسَهم، وأن يصدروا عن علمائهم، فذلك خيرٌ وأجدَى من أن يظلَّ الإنسان أسيرَ فكرةٍ محدودةٍ أو رأيٍ مجرَّد، وليعلموا أنّ المراجعاتِ سنّةٌ محمودةٌ وطريقة مشهودةٌ، سلكها أهل العلم والفضل والبصيرة منذ صَدر التاريخ، فكيف بمن هو دونهم؟! فهلا اعتبرنا بجماعاتٍ اتّخذت ثقافةَ العُنفِ والتغريبِ مسلكًا، فدخَلت نفقًا مظلِمًا، وكان عاقبة أمرها خسرًا، ثمّ أعلنت بعدَ ذلك تراجُعَها وأسَفَها لذلك الخلَلِ الفكريّ والانحراف المنهجيّ، فهل نستنبِتُ بعدهم في بلادٍ اختصَّها الله بخصائصَ ليست لغيرها مآسيَ وفواجع قد أثمرت ثمارَها المرّة عند غيرنا؟! أوَليس السعيد من وُعِط بغيره؟!
إنّنا نذكِّر من هذا المنبر العالميّ المبارَك الذين لا زالوا يهُمّون أو حتى يتعاطفون أو يسكتون أمام هذه الأفكار الضالة إفراطًا أو تفريطًا أن يعلَموا أيَّ جنايةٍ يجنونها في حقِّ دينهم وأمّتهم وبلادهم، ولذا فإنّ المراجعات واتهامَ الرأي في هذه القضايا العامّة والخطيرة ضرورة قُصوى، فوالله لأن يرجعَ المسلم إلى حقّ ترَكه مهما وصفه الواصفون خيرٌ له من أن يلقَى الله غدًا وقد تلطّخت صفحتُه بدمٍ حَرام سفكَه في غير حِلِّه أو سار على ما لم يَسِر عليه سلفنا الصالح.
لقد تكرّم ولاةُ الأمر بفرصةٍ كافيَة للعفو والمراجعة، وتلك مكرُمة ومنقبةٌ للعُظماء عبرَ التاريخ، فما ملك الأحرارَ كالعفوِ عنهم، فاستجاب من استجاب، وحقُّه علينا الإشَادةُ والتأييد وشفاعةُ الأمةِ أن يجدَ العفو والأمان والصفحَ والغُفران، أمّا من كابر وأصرَّ على ضلالِه فإنما يجني على نفسِه وأُسرته ومجتمعه، وسيجد مغبّةَ استكبارِه عن الحقّ ونتيجةَ إصرارِه على الباطل، فيُندمُ حيثُ لاتَ ساعةَ مندَم، (اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) [فاطر:43].
وإنَّ الأملَ في شبابنا وأبنائنا وَهم ولله الحمد والمنّة محلُّ فخارِنا واعتزازنا أن يتبيَّنوا قُدّامَهم محلَّ وقع أقدامِهم، وأن يحذروا من وسائل الإثارة والاستفزاز مهما كان مروِّجوها، ولتهنأ بلادُ الحرمين الشريفين حرسَها الله دائمًا بالأمن والأمان والخير والسلامة والاطمئنان، في بُعدٍ عن أسباب الفِتَن وبواعث المِحَن، وما ذلك على الله بعزيز.
ألا وصلِّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وهادي البشرية كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء وأشرف المرسلين نبيّنا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطّاهرين...