المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان |
المؤمن سعيد بإيمانه، وإن أُعطي من الدنيا شيئاً، فهو زيادة خير وعون على الطاعة، وإن لم يعط منها فما عند الله خير له وأبقى، والمؤمن سعيد في الدنيا وفي الآخرة. سعيد في الدنيا؛ لأن استفاد حياته فيها بالأعمال الصالحة. وسعيد بالآخرة؛ لأنه فاز بالجنة الباقية خالداً فيها. والكافر شقي في الدنيا والآخرة، كما...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أتمّ علينا النعمة وأكمل لنا الدين، ونهانا عن التشبّه بالكفّار والمشركين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه رحمة للعالمين، وأمره بجهاد الكفّار والمنافقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً.
أما بعد:
أيّها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واشكروا نعمته عليكم إذ هداكم للإسلام، وخصّكم بمحمد نبيّ الرحمة -عليه الصلاة والسلام-، وجعلكم إن تمسكتم بهذا الدين، واتبعتم هذا الرسول، خير أمة أُخرجت للناس، يحتاج الناس إليكم لبيان العلم والهدى، ولا تحتاجون إليهم؛ لأن دينكم غنيٌّ بالعقيدة الصحيحة، والشريعة العادلة، والأخلاق الفاضلة، والقدوة الحسنة، متضمن لهداية البشرية كلها إلى طريق الرشاد وحصول السعادة العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة، فهو دين عالمي صالح لكل زمان ومكان، ولكل فرد، ولكل أمة وجيل، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]
وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان: 1].
وقال تعالى لنبيّه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
لما تمسك المسلمون الأوائل بهذا الدين سادوا العالم، وفتحوا أبواب البلاد شرقاً وغرباً وملؤوها بالعلم والحكمة والعدم، وصاروا أئمة يقتدى بهم، أعزّة يخافهم عدوهم، أغنياء عمّا سوى الله، يجودون بالخير على البشرية وما ذاك إلا لأن هذا الدين تنزيل من حكيم حميد، يعلم ما يصلح عباده وما يضرّهم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
ولكون هذا الدين غنيٌّ بتعاليمه السامية، حكيم في تشريعاته العادلة فقد أمرنا الله بالتمسك به، والعمل بأحكامه، والاقتداء برسوله، ونهانا عن طلب الهدى من غيره، واستيراد النظم والقوانين المخالفة لأحكامه، وتقليد الأمم الكافرة في دياناتها وعاداتها؛ لأن هذا يعني التبعية لغيرنا، والتشبّه بأعداء الله وأعدائنا من الكفّار والمنافقين، قال تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3].
وقال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) [هود: 113].
وقال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19].
إن المسلم يجب عليه: أن يعتزّ بدينه، وأن يرفع به رأسه أينما كان لا تأخذه في الله لومة لائم، قال تعالى: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
وقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
لا يجوز للمسلم أن ينظر إلى الكفار نظرة احترام وإكبار وإعظام؛ لأن الله قد أهانهم بالكفر: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) [الحـج: 18].
ولا يجوز للمسلم: أن ينظر إلى ما بأيدي الكفار من متاع الدنيا نظرة إعجاب، ولكن يعتبر ذلك استدراجاً لهم وفتنة، ومتاعاً إلى حين، كما قال الله لهم: (قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم: 30].
وقال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 131].
بل المسلم يعتبر ما بأيدي الكفّار عذاباً لهم في الدنيا يشقون في تحصيله وجمعه، ويهتمون بحفظه ومنعه، ثم يؤخذون منه وهم على الكفر دون أن يستفيدوا منه لآخرتهم، قال تعالى: (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 85].
والمؤمن سعيد بإيمانه، وإن أُعطي من الدنيا شيئاً، فهو زيادة خير وعون على الطاعة، وإن لم يعط منها فما عند الله خير له وأبقى، والمؤمن سعيد في الدنيا وفي الآخرة.
سعيد في الدنيا؛ لأن استفاد حياته فيها بالأعمال الصالحة.
وسعيد بالآخرة؛ لأنه فاز بالجنة الباقية خالداً فيها.
والكافر شقي في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحـج: 11].
فهو شقي في الدنيا؛ لأنه لم يستفد منها إلا إبعاد نفسه عن الله وعن جنته.
وشقي في الآخرة؛ لأنه مأواه النار خالداً فيها وبئس المصير.
إذن، كيف يليق بالمؤمنين الذين أعزّهم الله بهذا الإسلام، ورفعهم به فوق الأنام، أن يقلدوا الكفار ويتشبهوا بهم؟ كيف يتشبّه العالي بالسافل؟ كيف يتشبه الصاعد بالنازل؟
إن التشبّه يقتضي أن المتشبّه به أكمل من التشبّه، ولهذا حذّرنا الله ورسوله من التشبّه بالكفار في عبادتهم وفي عاداتهم وتقاليدهم، روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تشبّه بقوم فهو منهم".
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس منّا مَن تشبّه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى".
وذلك؛ لأن التشبّه بالكفّار يجرّ إلى مفاسد عظيمة، وعواقب وخيمة، منها: أن التشبّه بهم يدلّ على تعظيمهم؛ لأن التشبّه بغيره يرى أنه أكمل منه وإلا لما تشبّه به، وهذا من المسلم شعور بالنقص وضعف في الشخصية، وهو يجرّ إلى الخضوع للكافر وتعظيمه، وهذا أمر خطير.
ومنها: أن تشبّه المسلم بالكافر، هبوط وسفول؛ لأن المسلم أعلى من الكافر، فإذا قلّده هبط من عليائه ومنزلته، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهذا كفران للنعمة، وإهانة للإسلام "والإسلام يعلو ولا يعلى عليه".
ومنها: أن تشبّه المسلم بالكافر يجرّه إلى موافقته في أخلاقه السيئة وأعماله الخبيثة.
ومنها: أن تشبّه المسلم بالكافر يبعث على محبته له وموالاته له وقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51].
ومنها: أن تشبّه المسلم بالكافر يزيل الفارق بينه وبينه، والله -تعالى- قد فرّق بين المؤمنين والكفّار في الأحكام والأجسام في الدنيا والآخرة ولو كانوا من أقرب القرابة، وأمر المؤمنين بالهجرة من بلاد الكفّار، وحرّم السفر إلى بلادهم، بلا حاجة معتبرة، وفي التشبّه بهم مدعاة لمخالطتهم والسكنى معهم والسفر إليهم، ومرافقتهم وغير ذلك، وقد جرّ التشبّه بالكفّار في عصرنا إلى شرور كثيرة، وأمور خطيرة، منها: التشبّه بهم في تعظيم القبور والغلوّ في الصالحين، وبناء المساجد على قبورهم مما هو وسيلة إلى الشرك الأكبر، ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: فلولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً".
ولا يخفى اليوم ما وقع من الشرك الأكبر في هذه الأمة بسبب مشابهة اليهود والنصارى في تعظيم القبور، حتى عبدت من دون الله -عزّ وجلّ- في بلاد الإسلام، ومن ذلك: بناء المساجد على آثار الأنبياء، كالمكان الذي جلس فيه نبي، أو صلى فيه أو رؤي في المنام أنه يصلي فيه، وما أشبه ذلك.
ومنها: استيراد النظم والقوانين الكفرية والمبادئ الهدّامة من رأسمالية وشيوعية، وغير ذلك من أنظمة الحكم والاقتصاد وغيرها، حتى حكم بغير ما أنزل الله، واستبيح الربا، وعطلت الحدود الشرعية، في كثير من بلاد المسلمين، تشبهاً بالكفّار، وجرياً وراءهم.
ومنها: إحداث أعياد بدعية ليست من أعياد المسلمين، كأعياد الموالد للأنبياء أو العلماء أو للملوك وغيرهم، أو جعل الذكريات والمناسبات التاريخية أعياداً يحتفل بها تقليداً للكفار الذين يحيون ذكريات عظمائهم وأحداثهم التاريخية، نظراً لفراغهم وإفلاسهم من الدين الصحيح الذي يستغلون به وقتهم، والمسلمون في غنًى عن هذا؛ لأن الله منّ عليهم بدين يستثمر أوقاتهم بالخير.
فيجب على المسلمين: التنبيه لذلك، والحذر منه، وعدم التساهل في شيء منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية: 18 - 19]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيّها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعتصموا بحبله وتمسكوا بدينه تفلحوا وتسعدوا: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101].
واعلموا أن الأخذ بالأسباب النافعة، والاستفادة مما جدّ من المخترعات الحديثة مما سخر الله لعباده في هذا الكون.
الاستفادة من ذلك أمر مطلوب شرعاً، وهو من إعداد القوة التي أمر الله بها، فكلّ ما في هذا الكون خلقه الله لعباده المؤمنين، وسخره لهم، وهو للمؤمنين أصالة والكفّار تبع لهم، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 32].
يقول الله -تعالى- ردّاً على مَن حرّم شيئاً من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) [الأعراف: 32] أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفّار في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد من الكفّار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.
لكن لما تكاسل المؤمنون انعكس الأمر، وصار الكفّار هم الذين يستخرجون هذه الأشياء، ويبيعونها على المسلمين، ويمتنّون بها عليهم، ويستعبدونهم من أجلها.
إنه يجب على المسلمين: أن يستعيدوا مركزهم، ويعدّوا العدة لعدوهم، فينشئوا المصانع، ويستفيدوا من خبرات الآخرين، ويستغلوا ما في الأرض من خيرات لصالح الإسلام والمسلمين، وليس هذا تقليداً للكفّار، وإنما هو عمل بما تأمر به شريعتنا.
ولكن -مع الأسف- المسلمون اليوم يستهلكون ولا ينتجون، صاروا عالة على غيرهم، وصاروا يقلدون الكفار لا في الإنتاج والتصنيع، وإنما في القشور والتوافه، يستوردون الأفكار السخيفة، والعادات السيئة التي تزيدهم ضعفاً إلى ضعفهم.
إن الإسلام لا يمنعنا من استيراد الخبرات النافعة، وشراء الأسلحة، والمنتجات المفيدة، وإن كان الأولى والواجب علينا: أن ننتج ولا نستورد، ولكن الإسلام إنما يحرّم علينا استيراد العادات، والتقاليد الفاسدة، ويحرّم علينا التشبّه بالكفّار في عاداتهم وعباداتهم وما هو من خصائِصهم، ويوجب علينا أن نعتز بديننا، ونستقل بشخصيتنا الإسلامية؛ لأننا حملة دعوة، ومحل قدوة، وأصحاب عقيدة، وعلينا مسؤولية.
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن خير الحديث كتاب الله | إلخ |