الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
لقد شخّص رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لنا الغفلة التي ترين على قلوب الناس، وحذرهم منها، وصورها لهم في صور شتى، من أعجبها وأبلغها تصوير المجتمع بالسفينة الماخرة في عباب بحر متلاطم الأمواج. وهذا الحديث يشتمل على معنى جدير بالتدبر والتفكير، هو... ومن وحدة المصلحة ينشأ الترابط بين أفراد المجتمع، ترابط لا يتخلخل ولا تنقطع عراه، إنهم ركاب سفينة واحدة، ناجية أو غارقة، فكيف...
أيها الإخوة: إن ضربَ الأمثال للتوضيح والاعتبار والتفكر منهج قرآني عظيم، قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَـالِمُونَ) [العنكبوت:43].
وكما أن كتاب الله زاخر بالأمثال القرآنية العظيمة، فكذلك سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وسنقف اليوم مع مثل عظيم نأخذ منه العظة ونستقي من العبرة، فقد روى البخاري في صحيحه عَنِ النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ [القائم فيها يعني الذي استقام على دين الله فقام بالواجب وترك المحرم] وَالْوَاقِعِ فِيهَا [أي في حدود الله، أي الفاعل للمحرم أو التارك للواجب] كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا [اقترعوا] عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".
صورة عجيبة تلك التي تتمثل في النفس عند قراءة هذا الحديث، إنها صورة حية موحية معبرة، ويا له من جمال بديع في اختيار هذا التشبيه بالسفينة! فالحياة كلها هذه السفينة الماخرة في العباب، لا تكاد تسكن لحظة حتى تضطربَ من جديد، ولن تُكتبَ لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كلُّ شخصٍ فيها على حذَرٍ مما يفعل، ويقظة لما يريد.
والمجتمع -أيها الأحبة- كله هذه السفينة، يركب على ظهرها البر والفاجر، والمتيقظ والغافل، وهي تحملهم جميعاً لوجهتهم، وإنها -وهي محكومة بالموج المضطربِ والرياحِ من جانب، وما يريده لها الربان من جانب- لتتأثر بكل حركة تقع فيها، فتهتز مرة ذات اليمين، وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الأفق أحياناً، وربما رسبت إلى الأعماق!.
أيها الإخوة: وإن كثيراً من الناس لينسى في غمرة الحياة هذه الحقيقة، ينسى سفينة المجتمع أو سفينة الحياة، ينسى، فيخيل إليه أنه ثابت على البر، راكز راسخ لا يضطرب ولا يزول، ومن أجل ذلك يَفْجُرُ أو يطغى.
ولو تذكر من استكبر وطغى أنه ليس راكزاً على البر، وليس دائماً في مكانه، ولا خالداً في سطوته، والعمر إنما هو رحلة قصيرة على سفينة الحياة، لو تذكر ذلك ما استكبر ولا طغى، ولا اغتر بقوته الزائلة وإمهال الله له عن الحقيقة الخالدة، ولعاد لمصدر القوة الحقيقية في هذا الكون وهو الله، ليستلهمَ منه الهدى، ويطلبَ منه الرشاد، ويسيرَ على النهج الذي أمرَ به وارتضاه للناس.
ولو تذكر من يفجر وينحرف أنه ليس راكزاً على البر، وإنما هو منطلق على عباب البحر، وأن كل حركة يأتيها تتأثر بها السفينة فتهتز، لو تذكر ذلك لما ترك نفسه لشهواته وانحرافاته، ولعمل حِسَاباً لكل خطْوَةٍ يَخْطُوْها وكل حركة يتحركها؛ حرصاً على نجاته ونجاة الآخرين. ولكنها الغفلة السادرة التي تخيم على البشرية، إلا من آمن واتقى وعرف ربه واهتدى إليه!.
أحبتي: لقد شخّص رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لنا الغفلة التي ترين على قلوب الناس، وحذرهم منها، وصورها لهم في صور شتى، من أعجبها وأبلغها تصوير المجتمع بالسفينة الماخرة في عباب بحر متلاطم الأمواج.
وهذا الحديث يشتمل على معنى جدير بالتدبر والتفكير، هو وحدة المصلحة في المجتمع، وإن بدت المصالح ظاهرة الخلاف! فالذين أسفل السفينة قوم لهم مصالح قريبة يستنفعون منها على حساب الآخرين، ولو تركهم الركاب وقتاً من الزمن فسوف يستفيدون بتوفير الجهد بالصعود إلى أعلى، وتوفير مغالبة الشهوات بالراحة، ويأتيهم رزقهم قريباً سهلاً ميسراً لا يتعبون فيه؛ ولكن! ولكن! هي فترة من الزمن قصيرة تمضي، ثم تبدأ السفينةُ في نهاية المطافِ تغرقُ وتأخذ معها رُكابها على السواء!.
ومن ثم؛ فالمصالح النهائية واحدة، والأخطار النهائية واحدة، ليست هناك مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه بمفرده، كل مصلحةٍ هي مصلحتُهم جميعاً، وكلُ ضررٍ سيصيبهم جميعاً، ولا يستطيع أحد أن يتخلى عن مسؤوليته في هذا السبيل.
أيها الإخوة: ومن وحدة المصلحة ينشأ الترابط بين أفراد المجتمع، ترابط لا يتخلخل ولا تنقطع عراه، إنهم ركاب سفينة واحدة، ناجية أو غارقة، فكيف يمكن أن ينفصل بعضهم عن بعض أو يتجاهل بعضهم وجود بعض؟.
تربطهم مصلحة واحدة يلتقي عندها الجميع، ويقويها رابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، ترابط التعاون على البر والتقوى، وليس ترابط التعاون على الإثم والعدوان، ترابط لا يقول فيه إنسان: ما شأني أنا بفلان؟ فليصنع ما يشاء ولن أتدخل في أمره! ولا يقول فيه إنسان لآخر: ما شأنك بي؟ سأصنع ما أشاء ولا تتدخل في أمري! كلا! إن أمور المجتمع لا يمكن أن تستقيم كذلك، لا بد من يقظة كل فرد لأعمال أخيه، ولا بد من رده عن الخطأ والإسراف فيه.
وليس معنى ذلك أن يتحول المجتمع إلى منازعات ومشاحنات، كلا! فليس هذا هو الطريق؛
الطريق أيها الإخوة: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:33-34].
الطريق: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل:125].
الطريق أيها الأحبة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].
الطريق: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].
الطريق: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71].
لكن؛ إن تنكبنا الطريق، ولم نسلك هذا الطريق الواضح المعالم؛ فما النتيجة؟ النتيجة مروعة، والبلاء عريض! النتيجة طردٌ وإبعادٌ من رحمة الله، وعقاب عام يصيب الأمة لا يجدي معه دعاء، ذكره الله -تعالى- بقوله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].
النتيجة ما أقسم عليه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق بلا قسم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ" رواه الترمذي وهو حديث حسن.
النتيجة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".
النتيجة ما قاله حذيفة -رضي الله عنه-: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَحَاضُّنَّ عَلَى الْخَيْرِ، أَوْ لَيُسْحِتَنَّكُمُ اللهُ جَمِيعًا بِعَذَابٍ، أَوْ لَيُؤَمِّرَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ" رواه أحمد بسند حسن.
فرحماك ربي بنا رحماك! اللهم الطف بنا، وارحم ضعفنا، وقوِّ عزائمنا؛ فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك.
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية:
أما بعد: قال الله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: يمدح -تعالى- هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله، وجهادهم على ذلك، وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس.
إذن؛ هذا هو الطريق، لكن إذا انشغل الناس بدنياهم؛ من يقوم بواجب هذا الطريق؟ خذ الجواب من الحق -تبارك وتعالى- بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:104-105].
قال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات وأفرض الفروض، والأمة إذا لم تقم بهذا الواجب فإنها سوف تتفرق بها الأهواء وسيكون كل قوم لهم منهاج يسيرون عليه، ولكنهم إذا أمروا بالمعروف ونهو عن المنكر اتفق منهاجهم وصاروا أمة واحدة.
أيها الإخوة: هذا هو الطريق، إنه الترابط، ترابط الحب لا البغضاء، وإن النصيحة لتصدر من هذا المنبع العذب، أنا أنصح أخي لأنني أحبه، لأنني أريد له الخير، لأنني أريد أن آخذ بِحُجَزِه أن يقع في النار؛ وهو يتقبل مني النصيحة على هذا الوضع، لأنه يحبني ويثق في صدقي بالنصح والتوجيه.
أما "الأخذ على اليد" بما تحمله من معنى الزجر أو الشدة فليست أول الطريق؛ وإنما هي النهاية حين تفشل الوسائلُ كلُها ولا يتبقى غير هذا الطريق؛ عندها يقوم بهذا الدور أهله من ولاة الأمر القائمين بالولاية على الأمة.
أيها الإخوة: أمر هذا موقعه من الدين ومن سلامة الأمة ونجاتها، يخضعه من يدعي الثقافة والتحضر للنقاش: هل هو مهم أم لا؟! وهل الأمة بحاجة إليه؟!.
نعم وألف نعم! هو من ثوابتنا التي لا تقبل النقاش، ومن ضروريات الحياة التي لا تخضع للمساومات والتنازلات.
وقد أكد ذلك ولي أمر في هذا البلاد حرسها الله يوم وعد الأمة بأن يتخذ القرآن دستوره، مثبتا نظام هذه البلاد بالحكم به، ثم ما أقامت الدولة من رئاسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترعى شؤونه، وخلعت على رئيسها أعلى المرتب الإدارية.
وفق الله كل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، رسميهم ومحتسبهم، وحماهم وهيئتهم من كل سوء.