البحث

عبارات مقترحة:

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

العزيز

كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...

غزوة تبوك وواقع الأمة

العربية

المؤلف صالح بن عبد الله بن حميد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. الاعتبار من أحداث السيرة .
  2. النصر في مؤتة درس عظيم .
  3. الاستعداد العسكري للروم وللمسلمين .
  4. إنفاق المسلمين ودسائس المنافقين .
  5. من معجزات النبي .
  6. اندحار الروم .
  7. عندما تخور الأمة .
  8. الأعداء وزرع الحزبيات .
  9. صفوف المنافقين. .
اهداف الخطبة
  1. أخذ الدروس والعبر من غزوة تبوك
  2. بيان تشابه مخططات الأعداء في كل الأزمنة.

اقتباس

كيف يكون حالُ أهل الإسلام حين يرضى بالقعود أولو الطول والقادرون الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل؟ لا يذودون عن حرمةٍ، ولا ينتصرون لكرامةٍ، ولا يحسّون بصغار ولا ذلة. كيف تحلو الحياة لمن يضيع دياره؟! ماذا جنى المسلمون من ترك التناصر للإسلام والأخذ بعزائم الأمور؟ ماذا كسبوا من انحسارهم في دعواتٍ إقليمية ضيقةٍ وعنصريةٍ منتنةٍ؟!

  

إن الحمد لله، نحمده، نستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضللْ فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، فتقوى الله جماع الخيرات، ومعدن البركات.
عباد الله: الحديث عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم حديثٌ تحبه النفوس المؤمنة وتأنْسُ به قلوب بالإيمان مطمئنة، فحبه في شغاف الأفئدة مغروسٌ، وتوقيره مشربةٌ به النفوس. بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ولكن هل يكفي الحديث والسرد، والتغني بالذكر العابر؟ وهل يُجدي مثل هذا؟ وقد تشابكت بأمة الإسلام في هذه الأعصار حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواجٌ من الفتن. وصيح بهم من كل جانب، وتداعى عليهم الأكلةُ. في هذه الظروف يتحدثُ الناس عن الإسراء والمعراج.
والحديث عن المناسبة والنظر في واقع الأمة – أوضاعٌ عالميةٌ متلاحقةٌ –يقتضي التذكير بواقعةٍ جهادية من وقائع العهد النبوي الميمون.. مواقف نبوية في صحب كرامٍ.. في قضايا الأمة المهمة. إنها إحدى وقائع رجب في السنة التاسعة من الهجرة، تلكم هي غزوة تبوك. غزوة القوة والبلاء والعسر.

معاشر المسلمين: استقر الإسلام في الجزيرة، فتحت مكة، وانطلقتْ الأنوار من الجبال والصحارى، أخذت الأفواج تلو الأفواج تدخل في دين الله، وتلاشتْ الوثنيةٌ في بلاد العرب.
تلقى أعداء الله من الروم وغيرهم أنباء تلك الانتصارات وما كانوا عنها غافلين. ومن ثم صاروا يجمعون جموعهم، ويمكرون مكرهم، ويدسون دسائسهم وما أشبه الحال – أيها الإخوة- بموافق المعاصرين من أعداء الله من التوجيهات الإسلامية المباركة.

لقد كان بدايات التحرش بدولة الإسلام الفتية في واقعة مؤتة، والتي كان سببُها قتل مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بُصرى. فقابل ثلاثة آلافٍ من المسلمين مائتي ألفٍ من الروم وأعوانهم.
أي عزةٍ هذه؟ وأي قوةٍ تملأُ جوانح أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟؟ إنها دولة الإسلام الناشئةٌ تقف في وجه دولة الكفر مهما كانت عظمتها.
إن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها دائماً تكافؤ القوى الظاهرية بين المؤمنين وأعدائهم. يكفي المؤمنين أن يُعِدُّوا ما استطاعوا من القوى، وأن يثقوا بالله ثم يثبتوا ويصبروا. يقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لأصحابه في غزوة مؤتة: "والله ما نقاتل الناس بعدد ولا قوةٍ ولا كثرةٍ، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي أحدى الحسنين: إما ظهورٌ – أي انتصار-ٌ وإما شهادةٌ".
وإن لكم أيها المسلمون في جهاد أفغانستان ضد دولةٌ عظمى لشاهداً حاضراً، وأقرَ الله الأعين بأطفال الحجارة.

أيها الإخوة: لم يكن الأعداء ليركنوا إلى السكون، ولم يكونوا ليصرفوا أنظارهم عن دولة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لقد أجمعوا أمرهم وشركاءهم، وأعملوا مكرهم ودسائسهم.
يقول عمر رضي الله عنه: كنا نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذُكر لنا أنه يريدُ أن يسير إلينا. فقد امتلأتْ صدورنا منه. وفي لفظٍ: كنا نتحدثُ أن آل غسان تنتعلُ النعال لغزونا.
وقد كان الأنباطُ الذي يقدمون إلى المدينة من الشام يبيعون الزيت وغيره يُحدثون أن هرقل قد هيأ جيشاً عظيماً قوامه أربعون ألف مقاتل، وأجلب معه قبائل من مُتنَصِّرةِ العرب ورزق جنده رزق سنة أي صرف لهم مرتبات سنة كاملة.
هذه من أخبار مظاهر الاستعداد العسكري.
أما المكرُ والدسائس فمنه ما انكشف من حالِ المنافقين ومسجد الضرار، وكر المؤامرات تفريقاً بين المؤمنين، و إرصاداً لمن حارب الله ورسوله.

ومن الدسائس ما جاء في خبر كعب بن مالك حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجره وهجر صاحبيه لما تخلفوا عن الغزوة، فقد جاء كعباً كتابٌ من ملكِ الروم يقول له فيه: أما بعدُ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. قال كعبٌ فعلمت أن هذا من البلاء، فتيممتُ التنور فسجرتها.

أمةَ الإسلام: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر في كل زمان وفي كل مكان يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل.
وكم من أقدام في مثل هذا قد زلَّتْ، وكم من رجالٍ في مثل هذه الأحوال قد انزلقتْ. أما كعبٌ فيمَّمها التنورَ وسَجَرَها، وكم في الأمة من مثل كعب؟؟.

معاشر الإخوةُ: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الاستعداداتُ والجموع فأمر بالخروج إليهم، ولم ينتظرْ حتى يداهموا المدينة. فندب عليه الصلاة والسلام أصحابه، وكان الوقتُ صيفاً بلغ فيه الحرُّ مداه، والناس في عسرٍ من العيش. وقد طابت ثمارُ المدينة، ولم يكنْ من عادته صلى الله عليه وسلم إذا همَّ بغزوة إلا ورّى بغيرها إلا ما كان من هذه الغزوة، فقد أعلنها وبين وجهتها ليتأهبُّوا أُهبتهم ويأخذوا عُدّتهم. فإنهم يستقبلون سفراً بعيداً ومفازاً شديداً وعدوّا كثيراً.

لقد كان فيها من مظاهر الابتلاء والامتحان ما كشف سوءات المنافقين، وتجلى به صدق الصادقين، وإيمان المؤمنين. تنزلتْ في ذلك سورةٌ كاملة من طوال السور تفضح المخلفين والقاعدين وتُشيدُ بجهاد المجاهدين وفوز الطائعين.
لقد استجاب المؤمنون لنداء رسولهم صلى الله عليه وسلم، فجاء ذوو اليسار منهم بكثير مما عندهم، فعثمان رضي الله عنه جاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينارٍ حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضرُّ عثمان ما عملَ بعد اليوم".

وجاء أبو بكرٍ بماله كلّه، وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوفٍ بمئتي أوقيةٍ فضة، وجاء العباس بمال كثير، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها حتى كان منهم من يأتي بالمدَّ والمدَّين من الطعام لا يستطيع غيرها، وجاء النساء بما قدِرْن عليه من صدقات وحُليٍّ وخلاخلٍ وقُرُطٍ وخواتِمَ:
(انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة:41].
وكان نصيبُ المنافقين الاستهزاء واللمز (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:79]. وجاء البكَّاءون من المؤمنين يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهوراً يركبونها فقال لهم: (لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 92].
لقد عانى المسلمون في هذه الرحلةِ جهوداً شاقة، وأتعاباً جسيمةً حتى كان الثلاثةُ يتعاقبون على بعيرٍ واحدٍ.. أصابهم عطشٌ شديدٌ حتى نحروا بعض إبِلهِم ليشربوا مما في بطونها وربما أكلوا أوراقَ الشجر حتى تورَّمتْ شفاههم.

روى الأمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما كانتْ غزوة تبوكَ أصابَ الناسَ مجاعةٌ فقالوا يا رسول الله لو أذنتْ لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنَّا فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا". فجاء عمرُ فقال يا رسولَ الله: إنهم إنْ فعلوا قلّ الظهرُ، ولكن ادعوهم بفضْلِ أزوادهم، ثم ادعُ لهم بالبركة لعل الله يجعل فيه ذلك. فدعا عليه الصلاة والسلام بِنطْعٍ (أي بجلد) فبسطه، ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكفٍّ من الذرة والآخر بكفِّ تمر والآخر بالكسرةِ حتى اجتمع على النَّطعْ من ذلك شيءٌ يسير، ثم دعا عليه بالبركة ثم قال لهم: "خذوا في أوعيتكم" قال فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا من المعسكر وعاءً إلا ملأوا وأكلوا حتى شبعوا وفضلت منه فضلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهدُ ألا إله إلا اللهُ وأني رسولُ الله لا يَلْقى الله بها عبدٌ غيرُ شاكٍّ فتُحجبُ عنه الجنةُ".

ووصلَ النبيُّ تبوك ومعه ثلاثون ألفاً من المسلمين ولكنَّه لم يلقَ كَيْداً، واندحرَ الرومُ إلى داخل ديارهم وضربَ الجزيةَ على أهلِ تلك الديار، ثم رجع إلى المدينة فوصل إليها في رمضان من السنة نفسها.
تلك هي الغزوةُ – أيها الإخوة- والعبرُ فيها كثيرةٌ، والدروس منها عظيمةٌ.. والدرس الجامع في ذلك – والمسلمون يمرون بالظروف المعاصرة، والمتغيرات المتسارعة والدرس الجامع – أيها الإخوة- يكون من محراب الجهاد.
من محراب الجهاد تنطلقُ قوافل المجاهدين والشهداء، وبالجهاد تُرد عاديات الطغيان فيكون الدين كله لله.. جهادٌ بالمال، والنفس، وباللسان، والسّنان، ويبقى دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُصدّقاً لما بين يديه من الحق ومُهيمناً عليه.

كيف يكون حالُ أهل الإسلام حين يرضى بالقعود أولو الطول والقادرون الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل؟ لا يذودون عن حرمةٍ، ولا ينتصرون لكرامةٍ، ولا يحسّون بصغار ولا ذلة. كيف تحلو الحياة لمن يضيع دياره؟! ماذا جنى المسلمون من ترك التناصر للإسلام والأخذ بعزائم الأمور؟ ماذا كسبوا من انحسارهم في دعواتٍ إقليمية ضيقةٍ وعنصريةٍ منتنةٍ؟! لقد ضاعوا وأضاعوا والعالم يتَّحد من حولهم. ماذا يُرجى من أمةٍ فتكتْ بها أمراض النفاق والدعاوى الجوفاء، عِلَلُ التعاظم الأجوف بالظهور المزور؟؟ (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك:20].

اللهم ربنا عزَّ جارُك وجلَّ ثناؤك وتقدّستْ أسماؤك، اللهم لا يُردُّ أمرُك، ولا يُهزمُ جندُك، سبحانك وبحمدك، اللهمَّ انصرْ جندك وأيَّدهم في فلسطين وأفغانستان وفي كل مكانٍ.
اللهم آمنْ خوفهم وفُكَّ أسرهم ووحد صفوفهم وحقق آمالنا وآمالهم، اللهم احفظ دينهم ودماءهم، وانصرهم على عدوك وعدوِّهم. اللهم فرج همَّ المهمومين، وفُك أسَر المأسورين، وكنْ للأرامل واليتامى والمساكين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.