التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
لقد نُعِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم موتُه ووفاته قبل يومِ وفاتِهِ بشهور عديدة، ففي شهر رمضان الذي هو آخر رمضان صامه عليه الصلاة والسلام عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وقد كان يعارضه في القرآن في كل رمضان مرة واحدة، فقال عليه الصلاة والسلام: "ذلك أجَلي، ذلك أجَلي" ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وما ترك خيرا إلا دل الأمة عليه ولا شرا إلا حذرها منه، ترك أمته على المحجة البيضاء، والسُّنة الغراء، ليلِها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشرَ المؤمنينَ.. عبادَ الله: اتقوا الله؛ فإن من اتّقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله: وإلى وقفة أخرى متجدّدة مع نبأ وفاة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، نبأ وفاة خير عباد الله، وخليله ومصطفاه، خير من دعا إلى طريق الله المستقيم، خير الورى، وإمام الهدى، وقدوة عباد الله، صلوات الله وسلامه عليه.
فقد كان نبأُ وفاته نبأ عظيما، وخبرا جسيما، اهتزت له القلوب المؤمنة وتفطَّرت، خبرٌ عظيم، وخطبٌ جسيم، مليء بالعظات والعبر البالغات، فهذه -عباد الله- وقفة أخرى متجدّدة مع نبأ وفاة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، لنأخذ من ذلك العبر والعظات.
عباد الله: لقد نُعِي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- موتُه ووفاته قبل يومِ وفاتِهِ بشهور عديدة، ففي شهر رمضان الذي هو آخر رمضان صامه -عليه الصلاة والسلام- عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وقد كان يعارضه في القرآن في كل رمضان مرة واحدة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ذلك أجَلي، ذلك أجَلي".
ثم في حجة الوداع لما حج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي أواسط أيام التشريق نزل عليه قوله الله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر]، فعرف -عليه الصلاة والسلام- أنه الوداع، فخطب الناس خطبة بليغة، فأمرهم ونهاهم، ووعظهم ووصّاهم، وذكّرهم بالله.
وقال لهم -عليه الصلاة والسلام- في خطبته تلك: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، وأخذ يودع الناس، فعُرف ذلك العام بعام الوداع، وعُرفت تلك الخطبة بخطبة الوداع؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ودّع الناس فيها.
وفي تلك الحجة العظيمة، حجة الوداع، نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، عشية عرفة، نزل عليه قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام إلى أن قُبض -عليه الصلاة والسلام-، فهي آية نزلت مُشعرةً بدنو أجل النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومبينة إلى أن مهمّة البلاغ قد قام بها -صلى الله عليه وسلم- على التمام والكمال، فما ترك خيرا إلا دل الأمة عليه، ولا شرا إلا حذرها منه، فتركهم على محجة بيضاء، وطريقة واضحة غراء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
تركَهم على دين كامل، وعقيدة وافية، وعبادة تامة، وأخلاق كاملة؛ فتمم الله -عز وجل- به الدين، وأكمله، وما ترك خيرا إلا دل الأمة عليه، ولا شرا إلا حذرها منه.
ثم رجع -عليه الصلاة والسلام-، وقفل إلى المدينة، وفيها قُبِضَ -صلى الله عليه سلم-، قبض -عليه الصلاة والسلام- في بيته في حجرة عائشة -رضي الله عنها- وبين سحرها ونحرها.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن عمر والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهما- لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استأذنا على عائشة -رضي الله عنها- فأذنت لهما بالدخول، فدخلا، فلما رأى عمر رضي الله عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد مات نظر إليه، فقال: واغشياه! غشي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان -رضي الله عنه- يظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غشي عليه ولم يمت.
ثم توجه إلى الباب خارجا ليُعْلِمَ الناس بالخبر، ليعلمهم بما ظهر له، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- غُشي عليه ولم يمت، ولما وصل الباب هتف به المغيرة فقال: يا عمر، مات رسول الله -صلى الله عليه سلم-، فقال عمر -رضي الله عنه-: لا، لا يموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يُفني اللهُ المنافقين.
ثم جاء أبو بكر -رضي الله عنه- ودخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُسَجَّىً ببردته، قد مات -عليه الصلاة والسلام-، فتقدم إليه -رضي الله عنه-، وكشف عنه بردته، فلما نظر إليه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! مات رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-.
فحدر فاه -رضي الله عنه- وجاء من قِبل رأسه -عليه الصلاة والسلام- وقبَّل جبهته وقال: وا نبي الله! ثم رفع رأسه فحدر فاه ثانية وقبَّل جبهته وقال: وا صفياه! ثم رفع رأسه فحدر فاه ثم قبَّل جبهته وقال: وا خليلاه! مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم خرج إلى الناس وهم جموعٌ في المسجدِ في خَطْبٍ عظيم، وفي أمر جسيم، وهم مختلفون في هذا النبأ، فمنهم من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم مَن يقول: بل لم يمت، وإنما غُشي عليه، وكان عمر -رضي الله عنه- قائما يخطب الناس يقول لهم: لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يفني الله المنافقين.
ويتقدم الصديق -رضي الله عنه- أمام هذه الجموع في المسجد، ويقف أمام الناس، ويخطب خطبة عظيمة ثبّت الهل بها القلوب المؤمنة، وبصَّر الله بها نفوس المؤمنين، وقف أمام الناس -رضي الله عنه- وخطب خطبة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تلا قول الله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30]، حتى فرغ من الآية بتمامها.
ثم تلا قول الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144]، حتى فرغ من الآية بتمامها.
ثم قال مقالته المشهورة، وكلمته العظيمة، قال: فمن كان يعبد اللهَ فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. يقول -عمر رضي الله عنه-: وكأني لا أعلم بهذه الآية! قال: وإن هذه الآية لفي كتاب الله -عز وجل- وكأني أسمع بها أول مرة.
وجاء في بعض الروايات أن الناس أخذوا هذه الآية، فما وُجد إنسان في المدينة إلا وهو يتلو قول الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].
فوعى الناس الخبر، وعلم الناس الحقيقة، ودخلوا في هذا المصاب العظيم، مصابهم بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أعظم مصاب وأكبره؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ أُصِيبَ منكم بمصيبة فلْيَتَذَكَّرْ مصيبته بي؛ فإنها أكبر المصائب".
عباد الله: تأمَّلوا هذه المقولة العظيمة، مقولة صدِّيق الأمة -رضي الله عنه وأرضاه- عندما وقف أمام الناس وقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. نعم -عباد الله- إن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- عبد لا يُعبد، بل رسول يُطاع ويُتبع، لا يُصرف له شيء من العبادة، ولا يُتَقَرَّب إليه بشيء من الطاعة، فكُلُّ ذلك حق الله -جل وعلا-، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.
سمع مرة رجلا يقول: ما شاءَ اللهُ وشئتَ. فقال: "أجعَلْتَنِي لله ندا؟ قُلْ: ما شاء الله وحده"، وقد كان في حياته -عليه الصلاة والسلام- حَمَى حِمى التوحيد، وسدَّ كل ذريعة تفضي إلى الشرك والباطل، ونهى عن الغلو فيه، وإطرائه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تُطروني كما أطْرَت النصارى عيسى بن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
ومن يقل ما أمر به -عليه الصلاة والسلام- يخلص من آفتين عظيمتين، وزلتين خطيرتين، ألا وهما الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، فمَن رفعَه فوق مقام العبودية، وأعطاه من خصائص الألوهية، فقد خرج عن الاعتدال إلى الغلو، ومن جفا في حقه -عليه الصلاة والسلام-، وهضمه مكانته وقدره، فقد خرج إلى جانب الجفاء، والحق قَوَامٌ بين ذلك، لا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط؛ إنما هو توّسط واعتدال.
مَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت: في أيّ وقت تلتجئ إليه، وفي كل حال تعتمد عليه، أبوابه مفتوحة، يسمع دعاء الدّاعين، ويستجيب لدعاء الدّاعين، وهو القائل -جل من قائل-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
ومَن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات: العبادة إنما تصرف للحي الذي لا يموت، لا تصرف إلا لله، فكل شيء هالك إلا وجهه، فلا يُدْعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يُلتجأ إلا إلى الله، ولا يصرف شيء من العبادة إلا لله وحده، تبارك وتعالى.
أمّا الرسل، وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهم وسائط بين الله وبين خلقه في إبلاغ دينه، وليسوا وسائط بين الله وبين عباده في العبادة، فالعبادة يُلتجَأ إلى الله فيها دون أن يجعل الملتجِئُ بينه وبين الله واسطة، فهذه حقيقة من أجَلِّ الحقائق، ومقام عظيم من أجَلِّ مقامات الدين، ألا وهو مقام العبودية، وتحقيق الإخلاص لله، والبراءة من الشرك كلِّه، والخلوص منه جميعه في كل صوره وأشكاله.
ألا فلْنقْتدِ -عباد الله- بنبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- في تحقيق العبادة، وإخلاص التوحيد لله، وإتمام العبادة لله -جل وعلا-، ولْنَأْتَسِ به -صلى الله عليه وسلم- في أخلاقه وآدابه -عليه الصلاة والسلام-.
ولْنَحْذَرْ أشَدَّ الحذَر من الغُلُوِّ في حقِّه، وإطرائه -عليه السلام-، ورَفْعه فوق قدره، فليس هذا مقام أهل التوحيد والإيمان والإخلاص والتوسط، جعلنا الله من أتباعه حقا، ومن أنصاره صدقا، وحشرنا يوم القيامة تحت لوائه، وفي زمرته، وجعله لنا شفيعا وقائدا إلى جنات النعيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: معاشر المؤمنين، عباد الله، اتقوا الله تعالى، فإن تقوى الله -جل وعلا- هي خير زاد يبلِّغُ إلى رضوان الله.
ثم اعلموا -عباد الله- أن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- خير مقام، فهو مقام إبلاغ دين الله وتحقيق العبودية لله، وقد أتمّ ذلك على أحسن حال، في أكمل حال، فلم يمت -عليه الصلاة والسلام- حتى أتم الله به الدين، وأكمل به النعمة، ولم يمت -عليه الصلاة والسلام- حتى تمتْ الشريعة حلالا وحراما، عقيدة وشريعة، معاملة وأدبا.
فمن أراد الخيرية لنفسه فعليه بلزوم غَرْز النبي -عليه الصلاة والسلام-، وسلوك نهجه، ولزوم طريقه -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن السعادة الأبدية، والحياة الهنيئة، إنما تكون بذلك -عباد الله-.
فعليكم بالاقتداء برسولكم وإمامكم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه في كل حركاتكم وسكناتكم، وفي جميع أحوالكم تَسْعدوا في الدنيا والآخرة؛ فإن السعادة موقوفة عل ذلك، وطريق الجنة مسدود إلا من طريقه صلوات الله وسلامه عليه، والكيِّس -عباد الله- من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وصلوا -رعاكم الله- وسلموا على خير عباد الله، وإمام الهدى محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا".
وقد جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- الأمر من الإكثار من الصلاة والسلام عليه في ليلة الجمعة ويومها، فأكثروا في هذا اليوم المبارك من الصّلاة والسلام على رسول الله.
اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...