البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إننا بحاجة إلى تربية أنفسنا على التوكل والاعتماد على الله، والثقة به، وبذل المستطاع من الأسباب المادية والشرعية؛ لتستقيم أحوالنا، وتفرج همومنا، وتدفع عنا البلايا والمصائب والفتن؛ ذلك أنه لما ضعف التوكل على الله وقع عدد من المسلمين في الشرك، ولجأ كثير من الناس إلى ارتكاب المحرمات والموبقات لتأمين متطلباتهم، وتوفير حاجياتهم وتحقيق رغباتهم.. فسُفكت الدماء وضُيعت الأمانات، وظهر الغش والجشع، وحلت الشحناء والبغضاء بين الناس، وباع الرجل دينه بعَرَض من الدنيا قليل، ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، مجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهادي من توجه إليه واستهداه، ومحقق رجاء من صدقه في معاملته ورجاه.. من أقبل إليه صادقا تلقاه، ومن ترك لأجله أعطاه فوق ما يتمناه، ومن توكل عليه كفاه.. فسبحانه من إله تفرد بكماله وبقاه..
أحمده سبحانه حمدًا يملأ أرضه وسماه.. من اعتمد على الناس مل، ومن اعتمد على ماله قل، ومن اعتمد على علمه ضل، ومن اعتمد على سلطانه زل، ومن اعتمد على عقله اختل، ومن اعتمد على الله فلا مل ولا زل ولا قل ولا ضل ولا اختل ...
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن نصره وآواه واقتفى أثره واتبع هداه.
أما بعد:
عبـــاد الله: التوكل على الله هو الاعتماد عليه، والثقة به في نيل المطلوب وتحقيق المرغوب، بعد بذل المستطاع من الأسباب، وأن يعتقد العبد بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وأن بيده مقاليد كل شيء ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء..
وقد أُمر المسلم بأن يتوكل على الله في سائر أموره وفي كل أحواله قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) [الأحزاب:48]، ويقول سبحانه: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان: 58]ـ
بل إن الله –تعالى- جعل التوكل شرطاً لصحة الإيمان فقال سبحانه: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 23].. وقال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3].. وقولـه: (فَهُوَ حَسْبُهُ)، أي: كافيه.
ومن كان الله -جل وعلا- كافيه تيسرت أموره، ولا مطمع لأحد فيه، وهو يدل على عظم شأن التوكل وفضله، حتى إنه لم يأت في أي عبادة من العبادات أن الله قال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) إلا في مقام التوكل..
ومن فضيلة التوكل أيضاً: أن الله -تعالى- جعله سبباً لنيل محبته، قال -تعالى- (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
والتوكل دليل على صحة إسلام المرء، قال -تعالى-: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِين) [يونس: 94].. وفي الترمذي عن عمر -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً". ومعنى "خماصاً" أي: فارغة البطون..
وقال -تعالى- عن أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]، قال ابن القيم: "التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق، وظلمهم وعدوانهم" (التفسير القيم لابن القيم: 587).
ولما فوَّضت أم موسى أمرها إلى الله؛ حفظ ابنها وردّه إليها، قال -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص: 7-8]..
وهل يُعقل من أمٍ ترمي رضيعها الصغير الضعيف في بحر عميق تتلاطم وتفترسه الهوام إلا إذا كانت واثقة بالله متوكلة عليه.. ثم قال -تعالى-: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص/13].
توكل على الرحمن في كل حاجة | أردتَ؛ فإن الله يقضي ويقدرُ |
متى ما يرد ذو العرش أمرًا بعبدهِ | يصبه؛ وما للعبد ما يتخيرُ |
وقد يهلك الإنسان من وجه أمنهِ | وينجو بإذن الله من حيث يحذرُ |
قال ابن عيينة: "دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبدالله فقال: سلني حاجةً.. قال: إني أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره. فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجةً .. قال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟!"
أيها المؤمنون/ عبـاد الله: إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تربية أنفسنا على التوكل على الله والثقة به، والاعتماد عليه؛ لنحقق العبودية الحقة لله، وكمال الإيمان به -سبحانه وتعالى- القائل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال/4,3]..
إننا بحاجة إلى تربية أنفسنا على التوكل والاعتماد على الله، والثقة به، وبذل المستطاع من الأسباب المادية والشرعية؛ لتستقيم أحوالنا، وتفرج همومنا، وتدفع عنا البلايا والمصائب والفتن؛ ذلك أنه لما ضعف التوكل على الله وقع عدد من المسلمين في الشرك، ولجأ كثير من الناس إلى ارتكاب المحرمات والموبقات لتأمين متطلباتهم، وتوفير حاجياتهم وتحقيق رغباتهم.. فسُفكت الدماء وضُيعت الأمانات، وظهر الغش والجشع، وحلت الشحناء والبغضاء بين الناس، وباع الرجل دينه بعَرَض من الدنيا قليل، وسكت كثير من الناس عن قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فظنوا وهم في حالة ضعف أن الرزق والأجل يمكن أن يتحكم بهما أحدٌ من البشر ، وأرضى الناس المخلوق بضعفه وفقره وحاجته ونسوا الخالق –سبحانه- بقوته وقدرته وسعة ملكه..
قال الله -تعالى-(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:41].. وقال شقيق البلخي: "لكل واحد مقام، فمتوكل على ماله، ومتوكل على نفسه، ومتوكل على لسانه، ومتوكل على سيفه، ومتوكل على سلطانه، ومتوكل على الله".
بل ظهر القلق والخوف والهلع في حياة الناس على الحاضر والمستقبل، والطعام والشراب، والأولاد والوظيفة والمال، والغنى والفقر، والصحة والمرض؛ بسبب ضعف التوكل على الله؛ لأن قلوبهم لم تتصل بالله، ولم تعتمد عليه، فضاقت النفوس وتكدرت الأحوال ولم يصل المرء إلى غايته ومبتغاه فخسر دينه ودنياه وآخرته...
لقد نسي هؤلاء أن الله هو الذي بيده الموت والحياة، وكل شيء عنده بمقدار، وأنه كتب الآجال، وقدّر الأقدار، وحكم بين العباد، ولا يجري في هذا الكون أمرٌ إلا بإرادته ومشيئته، وعنده علم الغيب لا ينازعه فيه أحد، قال -تعالى-: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59]..
قَالَ رَجُلٌ لِمَعْرُوفٍ الكرخي: أَوْصِنِي. قَالَ: "تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَكُونَ جَلِيسَكَ وَأَنِيسَكَ، وَمَوْضِعَ شَكْوَاكَ، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَكَ جَلِيسٌ غَيْرُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشِّفَاءَ لِمَا نَزَلَ بِكَ كِتْمَانُهُ، وَأَنَّ النَّاسَ لَا يَنْفَعُونَكَ وَلَا يَضُرُّونَكَ، وَلَا يُعْطُونَكَ وَلَا يَمْنَعُونَكَ.." (التوكل لابن أبي الدنيا).
اللهم اجعلنا ممن يتوكلون على ربهم حق التوكل، واحفظنا بالإسلام وأدم علينا نعمة الإيمان والأمان.. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطـبة الثانية:
عبــاد الله: في التوكل يجد العبد راحة البال, واستقرارًا في الحال، وطمأنينة في النفس وفي التوكل يجد العبد الأمن والنصرة والعناية والتأييد من الله والنجاة والفلاح، قال -تعالى- على لسان أهل الإيمان: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ) [إبراهيم: 12].
وقال لقمان لابنه: "يا بني، الدنيا بحر غرق فيه أناس كثير، فإن استطعت أن تكون سفينتك فيها الإيمان بالله، وحشوها العمل بطاعة الله -عز وجل-، وشراعها التوكل على الله؛ لعلك تنجو..".
لما ولي الحجاج بن يوسف الثقفي العراق وزاد طغيانه وتجبره، وقف الحسن البصري ينكر عليه أعماله، فقال الحجاج لحاشيته ومقربيه: مَن ينكر عليَّ؟ قالوا: الحسن البصري. فقال الحجاج وهو يشتاط غيظاً من لجلسائه: "تبًّا لكم وسحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه!! والله لأسقينكم من دمه، ثم أمر بالسيف والنطع" فأُحضرا، ودعا بالجلاد فمثُل واقفًا بين يديه، ثم أمر الشرطة أن يأتوا به، فجاءوا بالحسن فارتجفت له القلوب خوفاً عليه.
فلما رأى الحسن السيف والنطع والجلاد تحركت شفتاه، ثم توجه إلى الحجاج في عزة المؤمن الواثق بربه المتوكل عليه والذي يخشاه ولا يخشى أحداً إلا إياه، وما أن رآه الحجاج حتى هابه ووقره وقال: "ها هنا يا أبا سعيد!" ثم مازال يوسع له ويقول: ها هنا والناس يندهشون للموقف، حتى أجلسه على فراشه وأخذ يسأله عن بعض أمور الدين، ويجيبه الحسن بعلمه الفياض ومنطقه العذب وهو ثابت صلب. فقال له الحجاج: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد, ثم طيَّب له لحيته بأغلى أنواع الطيب وودعه.
ولما خرج تبعه حاجب الحجاج، وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، وأنى رأيتك عندما أقبلت، ورأيت السيف والنطع، حرّكت شفتيك فأسألك بالله إلا أخبرتني ماذا قلت؟ قال الحسن: "لقد قلت: يا ولى نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته برداً وسلاماً عليَّ كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.."، وصدق الله إذ يقول: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَـالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَيء قَدْراً) [الطلاق: 3].
عباد الله: مهما كانت الظروف صعبة والفتن متلاحقة، والقلوب متنافرة والأوضاع سيئة كما يبدو للمرء؛ فإن علينا أن نُحسن التوكل على الله والاعتماد عليه والثقة به، فما بعد العسر إلا يسراً، وما بعد الشدة إلا فرجاً، وما بعد الضيق إلا سعة ومخرجاً..
وعلينا مع التوكل: بذل الأسباب كالتوبة من الذنوب والمعاصي، وأداء الفرائض والواجبات الشرعية، وتصفية القلوب من الأحقاد والضغائن، ونشر التسامح والتراحم فيما بيننا، وحفظ الدماء وصيانة الأعراض، ووقف النزاعات والصراعات والحروب، وعدم الركون إلى الذين ظلموا، وإصلاح ذات البين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فثقوا بالله وتوكلوا عليه فهو المدبر لكل شيء وهو أرحم بنا من أنفسنا القائل سبحانه: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]..
اللهم بك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت أرحم الراحمين..
اللهم احفظنا بحفظك الذي لا يرام واحرسنا بعينك التي لا تنام واحقن دمائنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين..
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، وردنا إلى دينك رداً جميلاً .. هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله و أصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.