المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | نايف بن حمد الحربي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحكمة وتعليل أفعال الله |
في هذه الأيام, يَدأبُ رُوادُ البر, ويَكثُرُ مرتادوه, هذا يرقبُ ما يصيد, وذاك يُؤَمِّلُ تحصيلَ ما في رصيده يزيد, وثالثُ يَنشُدُ طردَ الهمّ والبعدَ عن التنكيد, تعددت دوافعُهم, لكنَّما الكلّ، لو فَطِنُوا, يَبتغونَ مِن فضلِ اللهِ المزيد. إذا كان الحالُ كذلك, فإنه ينبغي لطالب الإحسانِ أن يُجَمِّلَ طلبَهُ بالتزام حدودِ الطاعة, فلا يكن ولَعُكَ بالصيدِ كَلَفًا يُورِثُ ما عليك مِن الحقوقِ تَلَفًا, وإلا انقلبَ مباحُهُ في حقك إلى محظور, وفي الأثر, وإن كان في إسناده نظر: "مَن تتبع الصيدَ غفل"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله قَدَّرَ ما حَظَرَ, وأطلَق ما أباح, مَضى في هذا حكمُهُ, وفي شرائعه استضاح, فالحرامُ بُرَاض, والحلالُ فيافٍ فِسَاح, حكمةٌ بالغة, مَن هُدِيَ لالتزام حدودها استقامت حالُهُ واستراح, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه, وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فعَلَيْكم بتقوى الله عباد الله، لله درُّ صَاحِبِهَا, ضميرُهُ ما أخشعَهُ! خفاؤُهُ ما أنصعه! وحديثُهُ ما أسمعه! وعظُهُ ما أوقعه! وسَمْتُهُ ما أبدعه! وبالجملةِ: عيشُهُ ما أروعه!
معاشر المسلمين، الشُموليةُ في شرعِ الله, سِمَةٌ ظاهرة, في كل جزئيةٍ حاضرة (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]، "تُوفيَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائرٌ يُقَلِّبُ جناحه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا"، لا يَخرج عن هذا شيء مما مضى, ولا فيما نستقبل؛ إذْ المُشَرِّعُ بصير, الكل خلقه, وهو بهم لطيفٌ خبير.
إذا تقرر هذا أهل الإسلام, فهلُمَّ بِنَا سويًّا, نتلمسُ أحكامَ الشرع حول أمرٍ, هو في أصله مِن المباحات, لعلنا ننقله بتحريِّنَا إلى حَيِّزِ الطاعات.
ففي هذه الأيام, يَدأبُ رُوادُ البر, ويَكثُرُ مرتادوه, هذا يرقبُ ما يصيد, وذاك يُؤَمِّلُ تحصيلَ ما في رصيده يزيد, وثالثُ يَنشُدُ طردَ الهمّ والبعدَ عن التنكيد, تعددت دوافعُهم, لكنَّما الكلّ، لو فَطِنُوا, يَبتغونَ مِن فضلِ اللهِ المزيد.
إذا كان الحالُ كذلك, فإنه ينبغي لطالب الإحسانِ أن يُجَمِّلَ طلبَهُ بالتزام حدودِ الطاعة, فلا يكن ولَعُكَ بالصيدِ كَلَفًا يُورِثُ ما عليك مِن الحقوقِ تَلَفًا, وإلا انقلبَ مباحُهُ في حقك إلى محظور, وفي الأثر, وإن كان في إسناده نظر: "مَن تتبع الصيدَ غفل".
فإيِّاكَ إيِّاك, مِن قتل ما لم يُؤذن لكَ بقتله شرعاً, ففي صحيح مسلمٍ من حديث أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن صَبرِ البهائم", وفيه أيضاً من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تتخذوا شيئاً فيه الروحُ غرضاً" أي: هدفاً يُرمَى إليه, وفيه ثالثة من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لعنَ مَن فعل هذا".
أما المأذونُ لكَ بقتله شرعاً فعلى صنفين:
أحدهما: الفواسق الخمس وما في حكمها مما يُخشَى ضررُه, ؛ لما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خمسُ فواسقٍ يُقتلنَّ في الحِلِّ والحرم: الغرابُ الأبقع, والحِدَأَةُ, والعقربُ, والفأرةُ, والكلبُ العقور".
وأما الثاني: فكُلُّ ما اُحتِيِّجَ إلى أكلهِ مما يُباح, فيحِلُّ للإنسان قتلُهُ لأكله, لا للهو.
ثم اعلموا أهل الإسلام, أنَّ الأصل في كل الأطعمةِ والأشرِبَةِ الحِلُّ إلا ما ورد الشرعُ بتحريمه: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) [المائدة: 4]، (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) [الأنعام: 119].
فالـمُحَرَّمُ مِن المطعوماتِ لا يخرج عن أحد خمسة أصناف:
الأول: كل ذو نابٍ من السباع, ومخلَبٍ من الطير؛ لما في مسلم من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل ذي نابٍ من السباع, وعن كل ذي مخلب من الطير"، غيرَ أنه يُستثنَى من هذا الضبع, فيُباح أكلُهُ لحديث ابن أبي عِمَارةَ قال: سألتُ جابراً عن الضبع صيدٌ هو؟ قال: "نعم" (رواه الخمسة وصححه الألباني).
الثاني مما يحرم: كل ما فيه ضرر, كسائر السوَّامِ والميتات إلا ما اُستُثنِي, فتحرم وما يستخرج منها كذلك.
كذلك تحرم الـمُستخبَثات, كالقُنفُذُ, والخفاشُ, وسائر الحشرات.
والرابع من المحرمات: ما ورد النهيُّ عن قتله, أو أكله, كما جاء من حديث جابر في الصحيحين قال: "نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يومَ خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية, وأَذِنَ في لحوم الخيل"، ولما جاء في حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- عند أحمد وغيره قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النملة, والنحلة, والهدهد, والصُرَد".
وتَمَام المحرمات: ما تولَّدَ بين مأكولٍ وغير مأكول؛ تغليباً لجانب الحظر.
فاضبِطُوا المحرمات, يستقم لكم أمر المباحات..
أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله بما خلقَ ودبَّر, والفضلُ له بما شرعَ ويسَّر, ولا نحصي ثناءً عليه, فقد جعل مع المشقة طريقاً مُيَّسر, لا يبلغ حمدَهُ حمدُ الحامدين, وإن أثنى كل مخلوقٍ بما أُوتي وعن امتنانه عبَّر, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه والتابعين, ما هلَّ هِلاَلٌ, وعند تمامه, وحال ما أبدر..
أما بعد: أهل الإسلام, مَن خرج منكم للصيد بعد إحاطته بما تقدَّم, مُيمماً ما يَحِلُّ, مُتجنباً ما يحرم, فإنه ينبغي له أن يعلمَ أيضًا, أنَّ لِحِلِّ الصيد شروطاً, شروطٌ في الصائد, وأخرى للمَصيد, وثالثةُ في آلة الصيد.
أما الصائد: فلا بد أن يكون أهلاً للذكاة, وذلك بأن يكون مميزاً, مسلماً كان أو كتابيا. فلا يحل صيدُ غيرِ أهل الكتاب من سائر الملل إجماعا؛ لحرمة ذبائحهم, كما لا يَحِلُّ صيدُ غير مميزٍ, ولا سكران؛ لانعدام النية منهما.
وشرط حِلُّ أكل صيد أهل الكتاب: ألا يُعلَمَ أنهم ذكروا عليه غيرَ اسمِ الله.
كما يُشتَرطُ لحِلِّ صيد البَرِّ خاصةً أن لا يكون الصائد مُحرِمَا؛ لقول الله: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 96].
ويُشتَرطُ في الصائد ثالثة: أن يُرسل هو جارحَهُ لحديث عديٍّ في الصحيحين: "إذا أرسلت كلبك الـمُعَلَّم"، فإن استرسل الجارحُ مِن تلقاء نفسه فصيدُهُ له, لا يَحِلُّ منه شيء.
ورابعة: يُشتَرطُ أن يُسَمِّي عند إرسالِ الجارح, فإن ترك التسميةَ عمداً, أثِمَ ولم يَحِلَّ صيدُهُ, وإن تركها نسياناً, لم يأثم, لكن صيدَهُ لا يَحِل؛ لعموم قول الله: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 121]، ولحديث عَدِيِّ المتقدمُ وفيه: "إذا أرسلت كلبك الـمُعَلَّم, وذكرتَ اسمَ الله..."، ومثلُ هذا يُقال في الذبائح.
هذه شروط الصائد, أما شروط المصيد فاحصوا أربعة: أن لا يكون مقدوراً على ذكاته, وإلا فلا يَحِلَّ صيدُهُ, وأن لا يكون مملوكاً لآخرين, وإلا فعليه غُرمُهُ, وأن لا يكون مِن صيد الحرم, وإلا ففيه الفدية, وأن يموت بحدِّ الجارح لا بثُقلِهِ, وإلا فوقِيذ.
أما شروط الحِلِّ المـُتَعَلِقَةِ بآلة الصيد: فآلةُ الصيد لا تخلو إما أن تكون جارحاً, أو مُحدَدًا.
فيُشتَرطُ لِحِلِّ الصيد بالجارحِ خاصةً أن يكونَ مُعَلَّما, وأَمَارةُ التعليم في الكلب: أنه إذا أرسله استرسل, وإذا زجره انزجر, وإذا أمسك لم يأكل, فإن أكل من الطريدة لم يَحَلَّ منها شيء البتة؛ لحديث عَدِيِّ المتقدمُ وفيه: "فكل مما أمسكن عليك, إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل, فإني أخافُ أن يكون إنما أمسك على نفسه".
وفي الطير: إذا أرسله استرسل, وإذا زجره انزجر, أما عدم الأكل فلا يُشتَرط لحِلِّ صيدِ الطيرِ على الراجح؛ إذْ الطيرُ -كما يقول أهل الصيد- لا يَستَرسِل إلا إذا كان جائعا.
ويُشتَرطُ في الجارح والـمُحدَدِ على حَدٍّ سواء: أن يُرسلهما قاصدا, وأن يَقتُلا بحدِهما لا بثُقلِهِما, وعليه: فما يَقتُلُ بثُقلِهِ كالمقلاعِ, والنُبَاط, والشَبَك, لا يَحِلُّ ما صِيدَ به, إلا أن يُدركه حيًّا فيُذكيه ذكاةً شرعية.
انقضت الشروط، وبقي أن يُعلَم: أنَّ مَن وَجَدَ صيدَهُ غريقاً بماء, فلا يَحِلُّ له الأكلُ منه إجماعًا, ولو كان به أثرُ جِراح؛ لاحتمال موته غرقًا.
وليُعلَم ثانية: أنَّ مَن وجد صيدَهُ حيًّا حياةً مُستقرة, وذلك بأن أمكنَهُ أن يأتي بالـمُدْيَةِ فيُذكيهِ ولم يَفعل حتى زهقت روحُ الصيد, فصيدُهُ ميتَةٌ لا يَحِلُّ له الأكلُ منه, قضى بهذا الأئمة الأربعة.
وليُعلَم أخيراً: أنه قد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "مِن اتخذ كلباً إلا كلبَ ماشيةٍ, أو صيدٍ, أو زرع, انتُقِصَ مِن أجرِهِ كُلَّ يومٍ قيراط"، وعليه: فلا يجوز اقتناءُ الكلابِ لغير حراسةٍ, أو صيد, وليس في هذا إباحةً لقتلها ما لم تؤذِ –غير العقور كما تقدم- إذْ الأجرُ ثابتٌ بالإحسانِ إليها, فكذلك الوِزرُ يكونُ بالإساءة, ولا إساءةَ تفوقُ القتلَ.
رزقنا اللهُ فقهاً في الدين... وعلمنا التأويل..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...