الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
إن هذه الحرب القذرة لا تتحفظ من أي شيء حتى لو كان التفاوض فيها مع الشيطان ضد الإنسان، وحتى لو كانت شرارات السيوف منقولة من الساحات إلى بيوت الله. حتى المساجد رُوعت، حتى بيوت الله في العصر الجديد، تُوفيت العقول فلا عقول ولا أصحابهن هم الصحاب. من هذا الذي ألقى في الأرواع والأفئدة أن المساجد يمكن أن تتحول من مكان عبادة إلى مكان تصفية، ومن دار أمان إلى مكان اختطافات موت أو تنفيذ شهوة قتل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خالق الخلق من عدم، كاسي العظم من لحم ودم، بارئ النسم، في العالمين جوده وفضله سرى وعم، فوق السما علاه، تقدس العلي عن عاب وذم، له الرجا والخوف والحب ومنه فائض الكرم.
أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، الفضل والإنعام والشكران لك، أنت الذي ما خاب عبد لاذ بك لولاك كنت هالك فيمن هلك، لولاك كل باب موصد لمن سلك وقد رضيت فيك ربا لا شريك لك، وقد وثقت أنه ما خاب عبد أمَّلك، فيك المرجا يا مليك كل من ملك، فالفضل منك ثم فيك ثم عنك ثم لك.
وأشهد أن محمد بن عبدالله عبدُ الله ورسوله وصفيه وخليله، قد تمم الله به مكارم الأخلاق حتى غد بنوره الإظلام في إشراق، وفي هداه أصبح الشتات في تلاق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2].
مسجد أم ساحة نزال، مسلمون أم هم قوم يهود! مصلون أم سكارى عرابيد يضمهم مخور..!
أخرجوا الهويات وأعلنوا عن القتلى، هل هم نصارى أم يهود؟!
قولوا لنا: من هؤلاء الميتون هل هم نصارى أو يهود؟!
يا محصي القتلى تمهل من هؤلاء المستهدفون؟
ولربما خانتك ذاكرة وكل الذهن عنك فلم تر الأحداث أو خان الشهود!
متأكد هل هؤلاء من الجنود؟
متأكد أن الذي قد مات ليس من اليهود؟ أعني اليهود المعتدين أو المرود؟
متأكد أن الذي قد مات ليس تُبَّعًا أو من بقايا عاد أو ثمود؟!
يا محصي القتلى تمهل ليسوا نصارى أو يهود؟!
من هؤلاء القاتلون ومن هم المستهدفون؟
يا محصي القتلى تمهل ما صدقت عينيا أو سمعي بأن القتل قد حمت لظاه بمسجد في ركع لله من قوم سجود!
هم مسلمون؟ إذاً يستقبلون الله في أوقاتهم وندائهم في مسجد "الله أكبر".
يا خيبة الأفكار والأذهان والبلدان من غرّ كنود!
باع الفؤاد على حسود وعلى عدو رابض متربص فيه لدود.
العقل عقل عدونا، والجلد من هذه الجلود.
ماتت عهود الله في قوم تنزل فيهم (أَوْفُوا بِالْعُقُود) [المائدة: 1].
إن الذي قد أوقد النيران يشمله الوقود.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة:114].
ويا لها من خيانة عظمى أن تنقضي جميع الحيل حتى إذا لم تبقَ حيلة قذرة لجأت إلى آخر ما ولدته عقول أعدائك، وأين؟! في مسجد تحيى فيها النداءات بحي على الصلاة أو الفلاح.
(إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء:107]، (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف:52].
كلما زاد شطط العقول، وابتعدت عن الرشاد تسولت الوسائل الضيقة في تصفية أعدائها، حتى الجاهلية الأولى كانت لا تعرف القتال في ساحة النزال إلا مواجهة الوجوه مع الوجوه وقائلهم يقول:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا | ولكن على أقدامنا تقطر الدّما |
ولكن أبت مغابن هذه العقول المشوّهة إلا أن تقاتل بخشبة مطلية بالغدر، لا تعرف شرف القتال.
إن هذه الحرب القذرة لا تتحفظ من أيّ شيء حتى لو كان التفاوض فيها مع الشيطان ضد الإنسان، وحتى لو كانت شرارات السيوف منقولة من الساحات إلى بيوت الله.
حتى المساجد رُوِّعت حتى بيوت الله في العصر الجديد، تُوفيت العقول فلا عقول ولا أصحابهن هم الصحاب.
من هذا الذي ألقى في الأرواع والأفئدة أن المساجد يمكن أن تتحول من مكان عبادة إلى مكان تصفية، ومن دار أمان إلى مكان اختطافات موت أو تنفيذ شهوة قتل (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 16].
هل يستوي عُمّار المساجد مع هادميها؟ (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:18].
ونحن نقول: هل يستوي من يعمر المساجد يدأب فيها قائمًا وقاعدًا، ومن يرى عن الطريق حائدا، ومن ترى يفجر المساجد يقتل فيها راكعًا أو ساجدًا يصلي بهن قانتا وعابدًا.
فعسى لمن يعمر مساجد الله أن يكون من المهتدين، فما الحال بمن أصل مساجد الله من شعل أحقاده، وعلى من؟ على مصلين استشهدوا لتطير أشلاء ممزقة تنادي الله أكبر.
ويل الظلوم من الردى، والظلم دين مفتدى
لا لن يموت الحق في شفة الهدى
سنقولها ودم القتيل يروع الظلام ما ضاعت ظلامته سدى
اصبغ فسادك إننا نحن الذين نموت من أجل الهدى
وإذا كانت وصايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته أبي بكر -رضي الله عنه- قاضية بألا يتعرض في الحروب للرهبان في الأديرة والصوامع في طريق الحروب، ووصية أبي بكر حاضرة لمن أشهد قلبه أو ألقى السمع وهو شهيد وقول أبي بكر ليزيد: "وستجد أقوامًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له"، فكيف بما يقال عن قوم طهّرهم الإسلام، وتتطهروا للصلاة، ومساجد الرحمن نادت بالأمان، ثم تأمر الشريعة بالغدر عليهم؟! أو تسوغ للخيانة؟! يا خيبة الأفكار والأذهان والبلدان من غر كنود.
شقي على أهله يحقدُ | ويحلو له الشانئ الأبعد |
جريء ولكن على قومه | وميدان إجرامه المسجد |
فمهما ادعى أنه مصلح | فإني على زيغه أشهد |
روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كانت تَقُمّ المسجد وتنظّفه فمات أو ماتت، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، فقالوا مات، أو قالوا ماتت. فقال: "أفلا كنتم آذنتموني؟! دلوني على قبره أو قال على قبرها"، فأتى قبرها فصلى عليها.
وفي رواية أن امرأة كانت تلقط القذى من المسجد، فتوفيت فلم يؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدفنها، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا كان لكم ميت فآذنوني"، وصلى عليها -صلى الله عليه وسلم- في قبرها، ثم قال: "إني رأيتها في الجنة تلقط القذى من المسجد".
ثم لا يروعك أن يأتي على الناس زمان لا تُقَمّ فيها المساجد، بل تُقصف فيها المساجد ولا تأمن فيه بيوت الله، بل تؤم فيه بيوت الله بالأحزمة الناسفة في ميكيافلية رخيصة الغاية القذرة تبرر الوسيلة القذرة أيضًا.
لا تقمّوا القذى من المساجد، بل قمّوا أذى الأفكار وسفسطات العقول عن هذه البيوت.
بال أعرابي في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فزرمه الصحابة -رضي الله عنهم- ورفعوا أصواتهم عليه، فلما انتهى من بوله جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال -عليه الصلاة والسلام- للأعرابي: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا القذر، ولا تصلح لشيء من هذا البول ولا الخلاء، وإنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة".
أفترون هذه المساجد صالحة إذاً لتقطيع الأعضاء، وإراقة الدماء، أو إلى تصفية الأعداء، وإلى تسوية الخصوم؟!
أترون هذه المساجد صالحة لأن تُهجَر، وصالحة لأن يتركها الناس خوفًا على أرواحهم وعلى أبدانهم من فقدانها بقرار مستأجر رخيص، وبدلا من أن يكون الشعار "من دخل المسجد فهو آمن" يصبح الشعار "من دخل المسجد فهو خائف"، ربما يجد روحه مختطفة في أي حين وآن.
ومن نكد الدنيا أن تخاف على نفسك من القتل وأنت داخل في بيوت الله، ووالله لو لم يكن في حرمة التعرض للمساجد إلا فقدان الناس صفة الصلاة بها وتركها، لكفى بذلك رادعًا، فكيف وهذه المسألة تحتف بهذا الكم الهائل من الجنون، جنون لا يقل عن المنون فو أسفاه من غر خؤون (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11- 12].
لو أن أهل السماوات وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن واحد لأكبهم الله في النار، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- كما في صحيح الجامع: "خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق".
وفي صحيح الجامع أيضًا من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- قال -عليه الصلاة والسلام-: "أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة"، "ولا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا"، وقال عليه الصلاة والسلام: "أول ما يُقضَى بين الناس في الدماء".
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: خرج من بيته في آخر سدفة من غسق الليل، وقد لاحت خيوط الفجر في لغة الأذان والمؤذن يبعثها الله أكبر، الله أكبر، ومن قال الله أكبر فالرحمن يعبد، والدرب يسهل والتوفيق يجتمع.
ثم تهادى ذاهبًا إلى المسجد وبينما هو ذاك إذ نادى في الناس: الصلاة الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقد كانت تلك عادته، دخل المسجد بعدما نادى الناس للفجر، ثم مر من بين الصفوف ثم مضى ماشيًا حتى وقف في المحراب، ولما وصل إليه التفت على الناس وقال لهم: "أقيموا صفوفكم، استووا، سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة"، حتى إذا لم ير فيهم خَللاً تقدم فكبر:
والله أكبر سقناها على ثقة | لأنت أعظم مقصود ومعبود |
قرأ الفاتحة وربما قرأ سورة يوسف بعدها أو في سورة النحل، وكان كثيرا ما يقرأ في سورة يوسف في صلاة الفجر حتى يبلغ قوله تعالى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84]، ثم ينهار باكيًا ويبكي المسلمون لبكائه.
وبينما هو في الركعة الأولى إذ صرخ عمر -رضي الله عنه- قائلاً: "قتلني الكلب عدو الله"، فتأخر عمر -رضي الله عنه- غير بعيد، ثم طعنه المجوسي أبو لؤلؤة ثلاث طعنات فرأيت عمر قائلاً بيده هكذا وهو يقول: "دونكم الكلب فقد قتلني"، وقد طعنه المجوسي أبو لؤلؤة بسكين ذات طرفين ثلاث طعنات إحداهن تحت سرته، وقد انفجرت جراحه، ثم صار هذا المجوسي الخبيث لا يمر على أحد يمينًا أو شمالاً إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن صفوة التابعين مات سبعة منهم في الحال.
فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنُسًا وهو نوع من الأردية، فلما ظن العلج المجوسي أنه مأخوذ مقتول نحر نفسه وقتلها بسكينه، وبدعة الانتحار في المساجد تولى كبرها هذا الشقي المجوسي.
وتناول عمر -رضي الله تعالى عنه- يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه ليكمل بالناس الصلاة، فأما من كان قريبًا من عمر فقد رأى وعلم الذي حدث، وأما من كان في نواحي المسجد فإنهم لا يدرون ما حدث لعمر غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله.
فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة قرأ فيها بأقصر سورتين، قرأ بالكوثر وبسورة النصر.
ثم غلب عمر -رضي الله عنه- على النَّزف حتى غُشِيَ عليه، فحُمل حتى أدخل بيته، فلم يزل في غَشْيِه حتى أسفر، فنظر في وجوه مَن عنده فقال: أصلَّى الناس؟ فقالوا: نعم، قال: لا إسلامَ لِمَن تركَ الصلاة، فتوضأ وصلى، فقرأ في الأولى "والعصر"، وفي الثانية "يا أيها الكافرون"، قال ابنه عبدالله: "وتساند إلَيَّ وجرحه يثغب دمًا، إنِّي لأضع أصبعي الوُسطى، فما تسد الفتق".
ثم قال الفاروق -رضي الله عنه-: "يا ابن عباس، انظر مَن قتلني" فجال ساعةً ثم جاء، فقال: قتلك يا أمير المؤمنين غلام المغيرة، فقال عمر: "الصنع؟" يعني الصانع؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال عمر: "قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا"
لا بأس يا أبا حفص:
ومن يصنع المعروف في غير أهله | يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر |
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليد فإنك
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ | وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا |
ثم قال عمر -رضي الله عنه- "الحمد لله الذي لم يَجعل ميتتي بيد رجل يَدَّعي الإسلام"، وفي رواية: "الحمد لله الذي جعل ميتتي على يد رجل لم يسجد لله سجدة واحدة".
لقد كان الخبر كالصاعقة على الناس، وما لهم؟! لقد أُصيبوا بأفضل رجل في الإسلام في عهده، وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم، وكأنهم لم يصابوا بعد هذه مصيبة مثلها.
فأُتي بلبن فشربه فخرج من جرحه. فعلموا أنه ميت لا محالة، فقالوا: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى رسول الله لك من صحبة رسول الله، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت ثم شهادة، فقال عمر -رضي الله عنه-: "لقد وددت أن ذلك كفافٌ لا عَلَيَّ ولا لي".
وهكذا تُطوَى صفحة بطل من أبطال الإسلام بغدر خئون تلونت الخيانة فيه حتى تفانى العُجب فيه والعجاب، وهكذا طويت بغدر في مسجد تقام فيه الصلوات، وكل الغادرين يأتون يوم القيامة لهم لواء يوم القيامة يقال لكل واحد منهم: "هذه غدرة فلان بن فلان".
وها هنا مقامات سريعة..
الأولى: أن البدعة وليد حقود، إنها ليست بدعة يتيمة، بل بدع شتى، فالقتل في المساجد بدعة، وقتل الناس وهي مصلية بدعة أخرى، والانتحار بعدهن في المسجد بدعة ثالثة، واختيار مكان القتل في بلد من بلدان المسلمين بدعة رابعة.
وهكذا تولى كبرها ذلك الطاغية المجوسي، وكل من أتى بعده ممن ترسم خطواته فيه شعبة من شعب الفارسية المجوسية النفقية من عبدة أهل النار.
يا ويلهم نصبوا منارًا من دم | يوحي إِلى جيل الغد البغضاء |
اللهم إن العبد يمنع | رحله فامنع رحالك |
ذبحوا الأذان على مآذ | نها كما ذبحوا رجال |
ذبحوا المساجد كل من | فيها ومن فيها دعالك |
لا يغلبن قيودهم | ومحالهم أبدا محالك |
ولما تحالفت بني خزاعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحالفت قريش مع بني بكر نقضت قريش وبنو بكر عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقتلوا في بني خزاعة مقتلة عظيمة قيل: إنهم قتلوهم وهم يصلون حتى جاء رجل من بني خزاعة ويدعى عمرو بن سالم يشكو إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أصابهم من غدر قريش وبني بكر وقف عمرو بن سالم وهو على عصاه على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يرتكز قائلا:
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا | حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا |
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا | وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا |
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا | إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا |
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا | وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا |
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا | وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا |
فقال عليه الصلاة والسلام: "نُصرت يا عمرو بن سالم، نُصرت يا عمرو بن سالم"، فما برح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى فتح الله عليه يوم الفتح في يوم مكة.
المقام الثاني: الحرب على الغلو إنما تتم عبر الطرق السليمة الوقائية النظيفة، فلا تكفير لذات الأفعال، بل لا بد من الوقاية المرشدة، نحارب الغلو لأنه المشروع الجداري للأمة الذي ما دخل مشروعًا من مشاريع نهضتها إلا وكسرته معاويل ومخاتل.
نحارب الغلو لأنه كلما تقدم الجهاد بأرض سحبته أظافر طويلة عقدت خناصرها على ألا يتقدم جهاد إلا عبر مشروعها، وكلما دخلت الأمة في مشروع تصحيحي نظيف دفاعي إذ بها تفتأ بكفّ تضغط على الزناد ليضيع جهد صنع في حقبة طويلة.
فيا أيها الغلاة! قفوا واستوقفوا ظلما وبغيا، وإلا فهو من طوفان عاد إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين، كلنا ذاك الذي يتشوف لعزة الإسلام، ويريد أن يموت تحت أحد ألويته الظافرة، ليبك يا إسلامنا خذ من دمانا ما تريد، لبيك إنا ها هنا يا دين ذي العرش المجيد، لكن الذي شرع حكما هو الذي شرع سبله وطرائق إحكامه، فمن يلطم عينه العمياء لكي تبصر لا يزيدها إلا عمى.
ودين الله وكتابه لا يُؤخذ إلا عن علمائه الذين يستنبطونه منهم، لا من دعاوى صاح فيها المدعي.
المقام الثالث: الغلو لا يحارب بالغلو، فلا يحارب الجهاد الصحيح النظيف تحت ذريعة الحرب على جهاد مشوّه، فالذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعدل يا محمد" كان كثّ اللحية، أفنحلق لحانا لأن ذلك الخارجي كث اللحية، وكان الخوارج كما قال عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقرءون القرآن، أفنترك قراءة القرآن لأنهم كانوا يقرؤونه؟!
إن فتنة الإرجاء والتفريط لا تأتي عادة إلا بعد فتنة غلو وتخريب، والإرجاء والغلو وجهان لعملة فاسدة.
المقام الثالث: يا أولياء الأمر -والأمر المبين سيستبين- عزز في أولادك عزة الإسلام، وعلمهم أن الشرع الذي جعل الجهاد ذروة سنام الإسلام هو الذي تبرأ من جهاد الخوارج وجعله جهادًا على الإسلام، وأن حملتنا تجاه التطرف والغلو لا يمكن أن تسوقنا بلا شعور إلى حرب على الدين والتدين والشرع والنهج المستقيم فننكأ من حيث أردنا أن تأسى الجراح.
المقام الرابع: نداء لكل إعلامي نظيف ولكل رخيص: إن دستور هذه البلاد ومنهاج علمائها ومناهجها التعليمية وخطاب دعاتها ليبرأ إلى الله من هذه الفتنة الحيزبون، ومن هذا الفكر الدخيل فلا يتم العلاج عبر مزايدة رخيصة يسجل فيها موقف يخدم العدو لا يخدم جرحا نازفا ولا يحقق لحمة متينة.
فاتقوا الله..
المقام الخامس: نداء لكل شاب يتوقد دمه أحمر عبقا حرقةً على هذا الدين: سلم الله دمك وأقر الله عينك بنصر عاجل لهذا الدين، كلنا يد واحدة للخروج من هذه الغمة، ومن هذا القمقم العنيد من عبادة الأهواء إلى عبادة رب السماء، ومن حرب الاستعجال إلى سلامة التؤدة والفهم الصحيح.
لا بد من سنن كونية للنصر، وإضعاف الأمة مرت عبر حقب طويلة وطريقها إلى النصر لا بد أن يمر بخطى محكمة ولو طالت الأعصر، فقد كتب الله "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز أو بذل ذليل"، وثغور الجهاد في الإسلام عظيمة كثيرة فاختر منها ما شئت.
المقام الأخير: توفي قبل أسبوع أحد الشباب الصالح في مدينة الرياض في حادث أليم حزنت عليه المدائن كلها لا مدينة الرياض فحسب، كان شابًّا ألمعيًّا ذكيًّا تنبض في عروقه وقدات همها أن تنهض الأجيال لتكون جيلاً قرآنيًا فريدًا في وقدة رهيبة يصدق فيه قول من قال:
والناس ألفٌ منهم كواحدٍ | وواحدٌ كالألف إن أمرٌ عنى |
كان شابًّا مجاهدا في سبيل الله في مرضاة الله في سبيل القرآن لم يكمل السادسة والعشرين من عمره، كان خلية طيبة لا ترمي خطواته إلا بالشهد المصفى، كان وحده مجمعًا قرآنيًّا فريدًا يدير لجانا كثيرة لأربعة مساجد، ويعمل في مركز دعوي؛ داعيًا إلى الله –عز وجل- ويعمل مدرسًا يدعو إلى الله في مدرسته وإغاثيًّا مميزًا له مجهوداته العظيمة في نصرة الأمة في كل مكان ويدير مكتبتين في أحد الجوامع في الرياض، ويدير نشاط إحدى المجمعات القرآنية في أحد الجوامع لأكثر من عشر سنين، ناهيك عن جهوده في وسائل التواصل وغيرها بالدعوة إلى الله.
كان صغيرا لكن له همم لا منتهى لكبرها وهمته لله والدين تشهد
كان يعمر المساجد بالذكر وبالتربية القرآنية، هل يستوي من يعمر المساجد هل يستوي من يعمر المساجد فيها قائمًا وقاعدًا ومن يُرَى عن الطريق حائدا، ومن يرى يفجّر المساجد يقتل فيها قانتا وعابدا؟! لا يستوون، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويذل فيه أهل الضلالة، ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر.