المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
أيها الناس: من أراد لَـمَّ شَعثه، وطمأنينة نفسه، وتذوق طعم السعادة، فليكن من أهل المساجد، وليكن من أول الداخلين، ومن آخر الخارجين، ليعلق قلبه بالمسجد فهو علامة الفلاح في الدنيا والآخرة. فانظر يا رعاك الله لمن كان مقصرًا في صلاته فلا يصليها في المسجد جماعة، ترى أنه من الغارقين في الدنيا، المبتعدين عن الآخرة، فقل لي بربك: هل هذا قد تعلق قلبه بالمساجد أم بالدنيا؟ ...
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله جل في علاه، وراقبوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهي علامة صدق محبة الله، وإن أهم ما افترض الله علينا بعد توحيده: الصلاة التي هي الخلوة بين العبد وربه، فكل ما أتقنها العبد كلما زادت محبته لربه، وتمسك بالعروة الوثقى.
والعكس بالعكس، فإذا تكاسل العبد في صلاته، وقصَّر فيها كلما ابتعد عن شرع الله، وغرق في ملاذ الدنيا، لذا كانت الصلاة هي المقياس الحقيقي لحياة العبد، وأعني بالحياة؛ الحياة الحقيقية التي يريدها الله منا.
أيها المؤمنون: فرض الله الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، وجعلها متفرقة في ساعات اليوم؛ لتربط قلبك بالله دائمًا، حتى لا يتعلق قلبك بالدنيا، فالعبد بين الدنيا وبين المسجد، فإلى أيهما كان أميل كان قلبه به أعمر، ولهذا جعل الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجلاً قلبه معلق بالمساجد، وهو القلب الذي لم تفتنه الدنيا وملاذها، وهذه علامة على تقديم أمور الآخرة على الدنيا.
فانظر يا رعاك الله لمن كان مقصرًا في صلاته فلا يصليها في المسجد جماعة، ترى أنه من الغارقين في الدنيا، المبتعدين عن الآخرة، فقل لي بربك: هل هذا قد تعلق قلبه بالمساجد أم بالدنيا؟
وكذلك الذي لا يأتي للمسجد لصلاة الجماعة إلا في الجمعة أو في اليوم واليومين مرة، وكذلك الذي يأتي الصلاة متأخرًا قد شغلته الدنيا وشهواتها عن الصلاة فتجده في أواخر الصفوف يقضي، وإن شئت قل تجده في جماعة أخرى متأخرة، هذا دأبه باستمرار، فهؤلاء قد تعلقت قلوبهم بالدنيا فهم فيها غارقون، وابتعدوا عن أمور الآخرة فتجد أن قلوبهم متشتتة، وأهواءهم مختلفة، وأرواحهم متباعدة، يعيشون في اضطراب وقلق، ولا يعرفون طعم السعادة الحقيقية التي جعلها الله لأهل المساجد.
أيها الناس: من أراد لَـمَّ شَعثه، وطمأنينة نفسه، وتذوق طعم السعادة، فليكن من أهل المساجد، وليكن من أول الداخلين، ومن آخر الخارجين، ليعلق قلبه بالمسجد فهو علامة الفلاح في الدنيا والآخرة.
عباد الله: لقد كان المسجد هو كل شيء في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هو المصلى، وهو المدرسة، وهو قاعدة انطلاق الجيوش، لقد كان مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمنه لا يُغلق، فإذا دخلته، تأملت من فيه، فإذا هم بين تالٍ للقرآن، ومصلٍّ، ومستغفر، ودارس للعلم، كأنه خلية نحل تنطف بالعسل.
متى ما وصلت مساجدنا لهذه المرحلة؛ فاعلم أن الدول كلها تحت إمرة المسلمين، وتجد أن أعداءهم يهابونهم، وكلما ابتعدنا عن هذه الصفة، كلما زاد تسلط الأعداء، وضعفت الدولة الإسلامية.
معاشر المسلمين: إن إمام المسلمين في تعلق القلب بالمسجد هو المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فانظر إليه وقد جعل بيوته إلى جوار المسجد؛ وبابه مفتوح على المسجد، وهذا شأن المحب مع المحبوب.
- كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا
- وكان إذا رجع من سفر أو غزو بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين ثم ينقلب إلى بيته.
وكان إذا أراد أن ينبّه عن أمر مهم أو يعظ الناس جمعهم في المسجد، بل كان يربط الأسير في المسجد ليرقّ قلبه ويسلم بعدها.
- وفي مرض موته وبين السكرات والإفاقة يسأل عن أحوال المسجد والمسلمين فيقال: "هم ينتظرونك". ولما وجد في نفسه خفة خرج يهادى به بين الرجلين حتى أقيم إلى جنب أبي بكر في الصلاة.
ولقد تربى أصحابه على ذلك، فكان هذا شأنهم، يرون أن المسجد هو ملجأ التائه، والمستضعف، والمتردد، والضائق، والمغاضب، كلهم يجدون الحل في المسجد؛ لأنه بيت الله، فإذا خلا فيه العبد وشكا لربه ضعفه، جاءه الفرج.
ولما غاضَب علي بن أبي طالب زوجته فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى المسجد، ولما فزع الناس يومًا بالمدينة لجأ سعد بن أبي وقاص للمسجد فأثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اجعلنا من عمار بيوتك، ومن أهل طاعتك، أقول قولي هذا.....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس: إن المساجد هي أحب البلاد إلى الله، وأهلها هم أهل الله وخاصته، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها".
بتلك البيوت تعلقت قلوب المحبين لله، وانقطعت إلى ملازمتها لإظهار ذكره فيها، فالملازمون لها رجال (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 36- 37].
أخرج الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما توطن رجلٌ المساجدَ للصلاة والذكر إلا تَبَشْبَشَ الله –تعالى- إليه كما يَتَبَشبَشُ أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم".
والمراد بالتبشبش في اللغة: فرح الصديق بمجيء صديقه. وصفة التبشبش صفة فعلية لله –تعالى- تثبت لله كما وردت إثباتًا يليق به سبحانه، والله أعلم بكيفيتها.
وفي رواية لابن خزيمة قال: "ما من رجل كان توَطّنَ المساجد فشَغَلَهُ أمرٌ أوْ عِلة، ثم عاد إلى ما كان إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبه إذا قدِمَ".
قال ابن جريج: "كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة".
وكان زياد مولى ابن عباس- أحد العباد الصالحين- يلازم مسجد المدينة فسمعوه يوماً يعاتب نفسه ويقول لها: "أين تريدين أن تذهبي! إلى أحسن من هذا المسجد!! تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان!".
قال سعيد بن المسيب: "ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد".
قال ربيعة بن زيد: "ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً".
قال يحيى بن معين: "لم يفت الزوال في المسجد يحيى بن سعيد أربعين سنة".
هكذا كانت قلوبهم معلقة بالمساجد -رضي الله عنهم-، ولو خرجوا لعارض أو حاجة، خرجوا وتركوا قلوبهم معلقة بالمساجد حتى يعودوا، فالله اللهَ عباد الله بعمارة المساجد، لتكن هي أنيسنا في الوحشة، وسعادتنا في الضيق، وسلوتنا في الحزن.
وإني لأدعو أئمة المساجد ومؤذنيها -بارك الله فيهم- لتهيئة المسجد للجالسين فيها وإتاحة الفرصة لهم، وألا يدعوا الأمر لحارس المسجد، فالملاحظ أن حراس المساجد يخرجون الناس من بيوت الله بعد كل صلاة خصوصًا بعد صلاة الفجر، فقلَّ مِن المساجد التي يجلس فيها حتى الإشراق والسبب هو أن العامل لا يسمح بذلك، فأين دور الإمام والمؤذن، ولقد قال سبحانه (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125].
وأنت يا أخي يا مَن مَنَّ الله عليك وجعل قلبك معلق بالمساجد، احمد الله؛ فإنما اصطفاك الله من بين الملايين لهذه الصفة العظيمة، وأدم حمد الله عليها، واحذر من زوالها، فإنما هي منحة، وفضل من الله، ولو شاء ربك ما فعلوه.
اللهم اجعل قلوبنا معلقة بالمساجد، وأظلنا في ظلك....