البحث

عبارات مقترحة:

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الشباب والوقاية الفكرية

العربية

المؤلف هلال الهاجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. تأملات في خروج الخوارج على عليّ -رضي الله عنه- .
  2. خطورة السرطان الفكري والانحراف المنهجي .
  3. مناظرة ابن عباس للخوارج وأهمية الإقناع .
  4. الحث على وقاية الشباب فكريًّا .
  5. دور المعلمين والمربين في توجيه الشباب. .

اقتباس

إنَّه السَّرطانُ الفِكريُّ .. الذي يفتِكُ بالعُقولِ .. وتضطربُ معه الأصولُ .. ويقودُ صاحبَه إلى المجهولِ. فمن المرضى من يكونُ في مرحلةٍ مُتَقدِّمةٍ .. لا ينفعُ معه جلساتُ العِلاجِ الفكريِّ .. ولو أظهرَ شيئاً من القَبولِ والإذعانِ وكأنَّه آسفٌ .. فبمجردْ أن يخرجَ من برنامجِ المُناصحةِ يلبسُ الحِزامَ النَّاسفَ. ومنهم من ينفعُ معه العلاجُ .. وهو مواجهةُ الفِكرِ بالفِكرِ .. والمجادلةُ بعلمٍ وحكمةٍ .. وكشفُ الباطلِ والشُّبهاتِ .. وإظهارُ الحقِّ بالأدلةِ الواضحاتِ...

الخطبة الأولى:

إنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

 أما بعد:

عندما خرجَ الخوارجُ على عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ عنه-، وساروا من الكوفةِ إلى نَهرِ جُوخَا .. قالَ ابنُ كثيرٍ -رحمَه اللهُ تعالى- في كتابِه البدايةِ والنِّهايةِ في أحداثِ سنةِ سبعٍ وثلاثينَ للهجرةِ:

"فَكَتَبُوا كِتَابًا عَامًّا إِلَى مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَمَسْلَكِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَعَثُوا بِهِ إِلَيْهِمْ لِيُوَافُوهُمْ إِلَى النَّهْرِ، لِيَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجُوا يَتَسَلَّلُونَ وُحْدَانَا، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَحَدٌ بِهِمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ فَخَرَجُوا مِنْ بَيْنِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَفَارَقُوا سَائِرَ الْقرَابَاتِ، يَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُرْضِي رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَالذُّنُوبِ الْمُوبِقَاتِ، وَالْعَظَائِمِ وَالْخَطِيئَاتِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يُزَيِّنُهُ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَأَنْفُسُهُمُ الَّتِي هِيَ بِالسُّوءِ أَمَّارَاتٌ ..

وَقَدْ تَدَارَكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَرَدُّوهُمْ وَوَبَّخُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَحِقَ بِالْخَوَارِجِ فَخَسِرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَوَافَى إِلَيْهِمْ مَنْ كَاتَبُوهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَاجْتَمَعَ الْجَمِيعُ بِالنَّهْرَوَانِ، وَصَارَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ، وَهُمْ جُنْدٌ مُسْتَقِلُّونَ وَفِيهِمْ شَجَاعَةٌ وَثَبَاتٌ وَصَبْرٌ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ مُتَقَرِّبُونَ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، -عَزَّ وَجَلَّ-".

سبحانَ اللهِ .. لم يكنْ في ذلكَ الزَّمانِ شبكةٌ عنكبوتيَّةٌ تبثُّ الأفكارَ المُتطرِّفةَ .. ولا صفحاتٌ للتَّواصلِ الاجتماعيِّ تُثيرُ الشُّبُهاتِ المُنحرِفةَ .. ولا مواقعُ تبثُ مقاطعَ التَّصويرِ المُحتَرفةَ .. ولا قنواتٌ فضائيِّةٍ تُلبسُ البَّاطلَ الثِّيابَ المُزخرفةَ.

كانَ الحاكمُ هو أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ عنه- .. رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ يحبُّه اللهُ ورسولُه .. كما شَهدَ له بذلكَ النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- .. وكانَ العلماءُ هم كبارُ الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- .. وكانَ المجتمعُ هو مجتمعُ الإيمانِ .. وكانَ القرنُ هو خيرُ القُرونِ كما قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.

ومعَ ذلكَ خرجَ الشَّبابُ مُتسلِّلينَ إلى الخوارجِ يُهرعونَ .. وانضموا تحتَ لواءِ الإجرامِ ابتغاءَ وجهِ اللهِ يزعمونَ .. يُقاتلونَ أميرَ المؤمنينَ -رضيَ اللهُ عنه- وأهلَ الإيمانِ .. فإنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجعونَ واللهُ المُستعانُ.

وبعدَ أن ذكرَ ابنُ كثيرٍ عزمَ أميرِ المؤمنينَ -رضيَ اللهُ عنه- والنَّاسِ جميعاً على قتالِهم .. قالَ:

"فَاجْتَمَعَ الرَّأْيُ عَلَى هَذَا وَفِيهِ خِيَرَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ وَلِأَهْلِ الشَّامِ أَيْضًا، إِذْ لَوْ قَوُوا هَؤُلَاءِ لَأَفْسَدُوا الْأَرْضَ كُلَّهَا عِرَاقًا وَشَامًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا طِفْلًا وَلَا طِفْلَةَ وَلَا رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً، لِأَنَّ النَّاسَ عِنْدَهُمْ قَدْ فَسَدُوا فَسَادًا لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا الْقَتْلُ جُمْلَةً".

فلا إلهَ إلا اللهُ .. التَّاريخُ يعودُ .. والأحداثُ تتشابَهُ .. والمناظرَ تتكرَّرُ .. والأفكارَ تتوافقُ .. وصدقَ أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ عنه- .. فَعَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: فلَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ، جَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي قَطَعَ دَابِرَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّهُمْ لَفِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ.

عبادَ اللهِ ..

إنَّه السَّرطانُ الفِكريُّ .. الذي يفتِكُ بالعُقولِ .. وتضطربُ معه الأصولُ .. ويقودُ صاحبَه إلى المجهولِ. 

فمن المرضى من يكونُ في مرحلةٍ مُتَقدِّمةٍ .. لا ينفعُ معه جلساتُ العِلاجِ الفكريِّ .. ولو أظهرَ شيئاً من القَبولِ والإذعانِ وكأنَّه آسفٌ .. فبمجردْ أن يخرجَ من برنامجِ المُناصحةِ يلبسُ الحِزامَ النَّاسفَ.

ومنهم من ينفعُ معه العلاجُ .. وهو مواجهةُ الفِكرِ بالفِكرِ .. والمجادلةُ بعلمٍ وحكمةٍ .. وكشفُ الباطلِ والشُّبهاتِ .. وإظهارُ الحقِّ بالأدلةِ الواضحاتِ .. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهمَا- قَالَ: "لَمَّا اعْتَزَلَتْ حَرُورَاءَ، قُلْتُ لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبْرِدْ عَنِ الصَّلاةِ لَعَلِّي آتِي هَؤُلاءِ الْقَوْمَ، فَأُكَلِّمَهُمْ، قَالَ: فَإِنِّي أَتَخَوَّفُهُمْ عَلَيْكَ، قَالَ: قُلْتُ: كَلا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْيَمَانِيَّةِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَائِلُونَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا ثَفِنُ الإِبِلِ، وَوُجُوهُهُمْ مُعَلَّبَةٌ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ –أَيْ أَيْدِيهِمْ وَوُجُوهُهُمْ غَلِيظَةٌ-.

 قَالَ: فَدَخَلْتُ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا جَاءَ بِكَ؟، قَالَ: جِئْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، نَزَلَ الْوَحْيُ وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تُحَدِّثُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنُحَدِّثَنَّهُ، قَالَ: قُلْتُ: أَخْبِرُونِي مَا تَنْقِمُونَ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وَخَتَنِهِ، وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مَعَهُ؟

قَالُوا: نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلاثًا، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالُوا: أَوَّلُهُنَّ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ) [الأنعام: 57]. قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا؟ قَالُوا: وَقَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، لَئِنْ كَانُوا كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّتْ لَهُ أَمْوَالُهُمْ، وَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ.

قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا؟ قَالُوا: وَمَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ.

قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُحْكَمِ، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مَا لا تُنْكِرُونَ، أَتَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ .. إِلَى قَوْلِهِ .. يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) [المائدة: 95]، وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35]، أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ، أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ، أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا؟، فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأُمِّكُمْ فَقَدْ كَفَرْتُمْ وَخَرَجْتُمْ مِنَ الإِسْلامِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]، فَأَنْتُمْ تَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ ضَلالَتَيْنِ، فَاخْتَارُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ؟ أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَالَ: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لِرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: مُحَمَّدَ بن عَبْدِ اللَّهِ، فَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

فَرَجَعَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلافٍ، فَقُتِلُوا.

هكذا يكونُ الإقناعُ والحِوارُ .. بالرُّجوعِ إلى كتابِ اللهِ وسنَّةِ النَّبيِّ المُختارِ .. من عالمٍ حكيمٍ على الدِّينِ وأهلِه يغارُ .. وليسَ في الشَّتمِ والعَداءِ، أو السُّخريَّةِ والاستهزاءِ، ولا في تمثيليَّاتٍ هابطةٍ، وشخصيَّاتٍ ساقطةٍ، لا يعلمونَ أينَ مواقعُ الخللِ، فيريدونَ الإصلاحَ فيقعونَ في الزَّللِ، ويُشوِّهونَ صورةَ شعائرِ الإسلامِ، وهم يحسبونَ أنهم يُحسنونَ صُنعاً.

اللهمَّ اجعلْ القرآنَ ربيعَ قلوبِنا وشفاءَ صدورِنا، ونورَ أبصارِنا وجلاءَ أحزانِنا، وذهابَ همومِنا وغمومِنا .. نستغفرُك ربَّنا إنك كُنتَ غفَّاراً .. فاغفر لنا وللمسلمينَ والمسلماتِ إنَّك أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي خلَّصَ قلوبَ عبادِه المتقينَ من ظُلْمِ الشَّهواتِ، وأخلصَ عقولَهم عن ظُلَمِ الشُّبهاتِ .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ فاطرُ الأرضينَ والسَّماواتِ، شهادةً تقودُ قائلَها إلى الجنَّاتِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه، والمبعوثُ إلى كافةِ البريَّاتِ، بالآياتِ المُعجِزاتِ .. صلى اللهُ عليه، وعلى آلِه الأئمَّةِ الهُداةِ، وأصحابِه الفُضلاءِ الثِّقاتِ، وعلى أتباعِهم بإحسانٍ، وسلمَ  تسليماً كثيراً ..

أما بعد: أيُّها الآباءُ .. أيُّها المُربُّونَ .. أيُّها المعلمونَ .. أيُّها الأئمةُ ..

إنَّ أفضلَ ما يُواجهُ به هذا المرضُ الخطيرُ بعدَ هدايةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- .. هو الوِقايةُ الفِكريَّةُ .. فعليكم بتطعيمِ المَعرفةِ الصَّحيحةِ .. ولِقاحِ الحِوارِ النَّافعِ .. ومَصلِ كَشفِ الشُّبهاتِ .. استخدموا سهولةَ الشَّرحِ .. وشفافيةَ الطَّرحِ .. وإيَّاكم والمُصطلحاتِ الغامضةَ .. والكلماتِ المُبهمةِ .. والتي لا تدرِكُها عقولُهم .. وقد يسيءُ فِهمَها الشَّبابُ.

 أخبروهم بسنَّةِ اللهِ -تعالى- في الكونِ، وأن النَّاسَ بينَ هدايةٍ وضلالٍ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل: 36]، بل إنَّ أهلَ الضَّلالِ أكثرُ: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116]، وأهلَ الهدايةِ أقلُ: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‌)، وأن الزَّمنَ يتغيَّرُ "وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيراً"، وَأنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْهُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى يَلْقَوْا رَبَّهُمْ قَالَهُ نَبِيِّهُمْ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- .. ولا يجوزُ للمسلمِ أن يتشائمَ أو ييأسَ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ".

علِّموهم .. أن المطلوبَ من المؤمنِ في الدُّنيا هو الإيمانُ والعملُ الصَّالحُ ودعوةُ النَّاسِ إلى الحقِّ والصبرُ على هذه الأمورِ .. (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].

بيِّنوا لهم أن تكفيرَ من ظهرَ إسلامُه .. ليسَ بالأمرِ الهيِّنِ .. فقد جاءَ في الحديثِ: "أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ" .. ذكِّروهم بحُرمةِ الدِّماءِ وبقولِه تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93] .. "وإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" ..

بل قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ" .. وأنَّ "زَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" .. وأنَّ "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا" .. و"لا يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا".

اذكروا لهم حقَّ ولاةِ الأمرِ وأئمةِ المُسلمينَ .. وقولَ اللهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ) [النساء: 59].. فيما أحببتَ وكَرِهتَ .. كما قَالَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ" .. وأنَّ "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" .. وأنَّه "سَتَكونُ أُثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ: "تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكمْ وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكمْ" .. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ، قَالَ: "لاَ .. مَا صَلَّوْا".

وضِّحوا لهم أنَّ ما يَحدثُ في المسلمينَ اليومَ .. هو مِصداقُ قَولِه تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 140].. وفسِّروا لهم قولَه سُبحانَه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين) ..

واذكروا لهم كيفَ صبرَ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- على رؤيةِ أصحابِه وهو يُعذَّبونَ في مكةَ ولم يستعجلْ .. وكانَ يسمعُ أخبارَهم وهو في المدينةِ ولم يتهوَّرْ .. بل قالَ لهم لمَّا شَكَوا لهُ ما يُقَاسُونَه من العذابِ: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" .. فالعجلةُ من الشَّيطانِ ولا تأتي بخيرٍ.

أوصوهم بالصَّبرِ والعبادةِ .. فقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ" .. وأن لا يخوضوا مع الخائضينَ .. فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟، قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" .. واتلوا عليهم قولَه تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَني لا يُشرِكُونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [النور: 55].

فلعلَّ هذه النَّصيحةَ تَصلُّ إلى قلوبِهم .. ولعلَّ بهذه الكلماتِ تهدأُ نفوسُهم .. وعسى أن تكونَ لهم حِصناً حصيناً .. ودرعاً متيناً .. من سهامِ الشَّهواتِ .. وسيوفِ الشَّبُهاتِ .. فيبقىَ الأمنُ والإيمانُ .. والطُّمأنينةُ في عبادةِ الرَّحمنِ.

وحتى لا يتَحقَّقُ فينا قولُ ذلكَ الشَّيخِ الكبيرِ لأولادِه: "لقدْ حدَّثناكُم بجوعٍ وخوفٍ مرَّ بنا، وأخشى أن يأتيَ زمانٌ تحدِّثونَ أولادَكم بنعمةٍ وأمنٍ مرَّ بكم".

اللهمَّ أصلحْ شبابَ المسلمينَ، اللهمَّ اجعلْهم قُرةَ عينٍ لوالديهم وأهليهم، اللهمَّ اجعلهم عدةً لدينِهم ولأوطانِهم يا حيُّ يا قيومُ .. اللهمَّ اصرِفْ عنهم الفِتنَ وقُرَنَاءَ السُّوءِ يا حيُّ يا قيومُ .. اللهمَّ وفِّقْ جميعَ ولاةِ المسلمينَ للحُكمِ في شَريعتِكَ، واتِّباعِ سُنَّةِ نبيِّك -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ..

اللهمَّ اجعلهم لشَرعِك مُحَكِّمينَ، وبسُنِّةِ نبيِّك متَّبعينَ، ولأوليائِك ناصرينَ  .. اللهمَّ انصرْ دينَكَ وكتابَك، وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَك المؤمنينَ، اللهمَّ ادفعْ عنهم الوَباءَ والغلاءَ، والرِّبا والزِّنا والزلازلَ والمِحَنَ، والفِتنَ ما ظهرَ منها وما بَطَنَ، عن بلادِنا خاصةً وعن سائرِ بلادِ المسلمينَ عامةً يا ربَّ العالمينَ.