المحيط
كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - فقه النوازل |
حب الناس لمعرفة الغيب، وميلهم لاستكشاف المجهول، يدفعهم لئن ينسوا حاضرهم، ولم يفكروا في ماضيهم، وكلما عرفوا شيئا من الغيب؛ ندموا وتمنوا الحاضر والواقع، وكلما اتضح شيءٌ من المجهول؛ ندموا وتمنوا أن لو بقوا في المعلوم والمعروف، وكل ذلك التمني والندم يكون...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
حب الناس لمعرفة الغيب، وميلهم لاستكشاف المجهول، يدفعهم لئن ينسوا حاضرهم، ولم يفكروا في ماضيهم، وكلما عرفوا شيئا من الغيب؛ ندموا وتمنوا الحاضر والواقع، وكلما اتضح شيءٌ من المجهول؛ ندموا وتمنوا أن لو بقوا في المعلوم والمعروف، وكل ذلك التمني والندم يكون بعد فوات الأوان، والناس لو اطلعوا على الغيب لاختاروا الواقع، وإليكم بعض هذه الأمنيات التي وقعت بعد فرات الأوان:
فهذا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- تمنى أنه حجَّ متمتعا لا قارنا لولا أنه ساق الهدي، فعن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا" [صحيح البخاري (6802)].
أي "أي لو تأخر من أمري ما تقدم من سوق الهدى ما فعلته".
وأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- تمنت أنها هي التي غسلت النبي عند وفاته مع زوجاته ولم تترك ذلك للرجال، فقالت: لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِى! أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا؟ أَمْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَذَقْنُهُ فِى صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لاَ يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: "أَنِ اغْسِلُوا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ" فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ؛ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ، وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ؛ مَا غَسَّلَهُ إِلاَّ نِسَاؤُهُ" [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، قال الألباني: "حسن"].
ومن خوفهم من الآخرة: تمنى بعضهم أن يكون شجرة، قال أبو بكر: "يا ليتني شجرة تعضد ثم تؤكل"، ونحوه عن أبي ذر وعائشة
وأخذ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تبنة، فقال: "يا ليتني مثل هذه التبنة، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أك شيئا، ليتني كنت نسيا منسيا".
قال ابن مسعود: "لو وقفت بين الجنة والنار، فخيرت بينهما، أيهما منزلي، أو أكون ترابا؟ لاخترت أن أكون ترابا".
قال أبو عبيدة: "يا ليتني كبشا؛ فذبحني أهلي، فأكلوا لحمي، وحسوا مرقي"، وقاله أيضا كعب ونحوه عن عمر.
وقال عمران بن حصين: "يا ليتني رمادا تذريني الريح".
وعن عائشة قالت: "يا ليتني إذا مت كنت نسيا منسيا".
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "يا ليتني كنت عصا رطبا".
وعن أبي وائل، قال: لما حضر بشر بن مروان، قال: "والله! لوددت أني كنت عبدا حبشيا لشر أهل المدينة ملكة، أرعى عليهم غنمهم، وأني لم أكن فيما كنت فيه" فقال شقيق: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا، ولا نفر إليهم، إنهم ليرون فينا عِبَرًا وإنا لنرى فيهم غِيَرًا"
الغِيَر، أحداث الدهر المغيرة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "يا ليتني كنت لَبِنَةً من هذا اللبن لا عليّ ولا لي".
وعن الحسن قال: خرج هرم بن حيان، وعبد الله بن عامر يريدان الحجاز، فبينما هما يسيران على راحلتيهما؛ إذ مرَّا على مكان فيه كلأٌ ...، فجعلت راحلتاهما تخالجان ذلك الشجر، فقال هرم بن حيان: "يا ابن عامر! أيسرك أنك شجرة من هذه الشجر، أكلتك هذه الراحلة، فقذفتك بعرا ، فاتُخِذْت جِلَّة؟" قال: "لا والله! لِما أرجو من رحمة الله -تعالى- أحبُّ إليَّ من ذلك" فقال هرم بن حيان: "لكني والله! وددت أني شجرة من هذه الشجر، أكلتني هذه الناقة فقذفتني بعرا، فاتخذت جلة، ولم أكابد الحساب يوم القيامة؛ إما إلى جنة، وإما إلى نار، ويحك يا ابن عامر! إني أخاف الداهية الكبرى".
قال الحسن: "كان والله! أفقههما وأعلمهما بالله -عز وجل-".
وعن عمر بن عبد الله مولى غفرة: أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، رأى طيرا يطير، ويقع على شجرة، فقال: "يا طير ما أنعمك! لا حساب عليك ولا عذاب، يا ليتني مثلك".
وعن محمد بن إسحاق قال: "تمنى عبد الملك بن مروان الخلافة، وتمنى مصعب بن الزبير سكينةَ بنتَ الحسين، وعائشةَ بنت طلحة، وتمنى سعيد بن المسيب الجنة" فقال سعيد بن المسيب: "أصابا أمنيتهما، وأنا أرجو أن أعطى الجنة".
وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال يوم الجمل: "ليتني مت قبل هذا اليوم بكذا وكذا".
وعن أبي إسحاق قال: سمعت أبا ميسرة يقول: "ليت أمي لم تلدني!" فتقول له امرأته: يا أبا ميسرة، أليس قد أحسن الله إليك؟ هداك للإسلام، وعلّمك القرآن؟ قال: "بلى! ولكن أخبرنا أنا واردون النار، ولم نخبر أنا صادرون عنها".
وعن محمد بن سيرين قال: "ما تمنيت شيئا قط" قلنا له: وكيف ذلك؟ قال: "إذا عرض لي شيء من ذاك، سألته ربي".
وقال عمر -رضي الله عنه-: "وددت أني شعرة في صدر أبى بكر -رضي الله عنهما-".
وعند المصائب يتمنى الإنسان أن يكون أي شيء، فهذه عائشة المبرأة عندما وصلها خبر اتهامها في عرضها، قالت: "أوَ لقد قالوا ذلك؟ فانصرف أبي يصلي، فوالله! لودِدت أني كنت حيضة -بالكسر خرقة الحيض، وجزم الخطابي هنا برواية الكسر، ورجحها النوويٍ- [عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 380)] فكنت لا يكتحل عيني بنوم، ولا يرقأ لي دمع، وعلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر، فقال: "ما بال رجالٍ قد بلغني أذاهم في أهلي، ولقد ذكروا رجلا صالحا؛ قد شهد بدرا، ما دخل على أهلي قط إلا وأنا حاضر، ولا سافرت من سفر قط إلا وإنه لمعي" [الطبراني في معجمه الكبير، ج 23/ 69)، تاريخ دمشق (35/ 41)].
وعندما "مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحُبْشِيِّ -بالضم ثم السكون والشين معجمة والياءُ مشددة، جبل بأسفل مكة بنعمان الأراك- فخرجت عائشة إليه، فحملته حتى أدخلته مكة، فجاءت تقول بعدُ: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما دفنته إلا حيث مات، وما أدخلته مكة".
وندمت على خروجها يوم الجمل، فقالت -رضي الله عنها-: "لوددت أني كنت ثكلت عشرة؛ كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأني لم أسر مسيري الذي سرت".
وفي رواية قالت: "لئن أكون جلست عن مسيري، أحب إلي من أن يكون لي عشرة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مثل ولد الحارث بن هشام".
وعن صالح المري، قال: قلت لعطاء السليمي: ما تشتهي؟ فبكى ثم قال: "أشتهي والله يا أبا بشر! أن أكون رمادا، لا يجتمع منه سفّة أبدا في الدنيا ولا في الآخرة" قال: فأبكاني والله! وعلمت أنه إنما أراد النجاة من عسر يوم الحساب.
وعن ابن جريج قال: أخبرنى عطاء قال: اشتكى النبى -صلى الله عليه وسلم- فأمر أبا بكر أن يصلى بالناس فصلى النبى -صلى الله عليه وسلم- للناس قاعدا، وجعل أبا بكر وراءه بينه وبين الناس، فصلى الناس وراءه قياما، فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت؛ ما صليتم إلا قعودا بصلاة إمامكم، ما كان أن أصلى قائما، فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا" [أخرجه عبد الرزاق (2/ 458)].
وعن عبد الملك بن الماجشون قال: قال مالك: ما بال أهل العراق يسألوني عن حديث "السفر قطعة من العذاب" قيل له: لم يروه أحد غيرك؟! فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدثت به" [التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (22/ 34)].
وقال له القاسم بن مسرور: "أرأيت يا أبا عبد الله! أحاديثَ تحدثت بها ليس عليها رأيك، لأيِّ شيء أقررتها؟" فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما فعلت، ولكنها انتشرت عند الناس، فإن سألني عنها أحد ولم أحدث بها وهي عند غيره اتخذني غرضاً" [ترتيب المدارك وتقريب المسالك].
وقال بُندار: سمعت ابن مهدي يقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ كتبت تفسير الحديث إلى جنبه، ولأتيت المدينة، حتى أنظر في كتب قومٍ سمعت منهم" [تاريخ الإسلام، للذهبي].
ويندم الإمام أبو المعالي الجوينيّ عن تعلمه علم الكلام، فيقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما اشتغلت بالكلام" [تاريخ الإسلام، للذهبي].
وشريك النخعي يقول: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت؛ ما تركت للسديِّ حرفا إلا كتبته" [ثقات ابن حبان].
وعبد الله بن إدريس قال: "كان شعبة قبان المحدثين" زاد ابن الفرج: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما لزمت غيره" [الكامل في ضعفاء الرجال (1/ 71)].
وهذه أمُّ تتمنى ألّو كان ابنها الخليفة حيضة، وهو "معاوية بن يزيد بن معاوية لما خلع نفسه، صعد المنبر، فجلس طويلا -فخطب ثم نزل فخلع نفسه من الخلافة- فدخل عليه أقاربه وأمه، فوجدوه يبكي، فقالت له أمه: "ليتك كنت حيضة، ولم أسمع بخبرك" فقال: "وددت والله ذلك" ثم قال: "ويلي إن لم يرحمني ربي" [سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي].
ومنهم من يندم على ما ابتناه من بنيان، فعن أبي عبد رب الزاهد قال: "لقيت أبا الأخضر مولى خالد بن يزيد بن معاوية، فقلت له: خالد قد علم العرب والعجم في أي ذلك وجد بناء هذه الدار، يعني دار الحجارة؟ فقال: والله ما سمعته يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما وضعت فيها حجرا على حجر" [تاريخ دمشق (66/ 11)].
و "يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن مخلوف بن عبد السلام الشرف أبو زكريا بن سعد الدين بن القطب بن الجمال بن الشهاب بن الزين الحدادي الأصل المناوي القاهري الشافعي والد زين العابدين محمد ويعرف بالمناوي... ومات بداره التي جددها ووسعها من سويقة الصاحب في ليلة الاثنين ثاني عشر جمادى الثانية سنة إحدى وسبعين وسبعمائة... كان يحب منصب القضاء محبة شديدة، واعتمده غيره في هذا مع أنه قال: "والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما طرقت لهم عتبة ولكنه كما قيل وجدت أكره الناس في الدخول لهذا الشأن أحرصهم على الوقوع فيه والأعمال بالنيات".
ونقل السخاوي قولَ ابن حجر عن لسان الميزان: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم اتقيد بالذهبي ولجعلته كتابا مبتكرا" [ذيل تذكرة الحفا، الذهبي (1/ 334)].
وفي طبقات النسابين الكلام عن الشيخ العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين، بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، المتوفي ضحى الخميس من اليوم السابع عشر من شهر ذي الحجة عام 1393 هـ، في مكة -حرسها الله تعالى- رحمه الله تعالى- وصُلِّيَ عليه ظهراً بالمسجد الحرام بإمامة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز، له كتاب نسب بني عدنان، نظمٌ كان ألَّفه في شبابه، ثم دفنه؛ لأنه كان يقول: "إنما ألفته للتفوق به على الأقران، فدفنته؛ لأن تلك كانت نيتي، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصححت النية ولم أدفنه".
الخطبة الثانية:
إن بعض الناس يتمنى أن تتغير الأحوال، وتزال حكومات وحكام، وتدمر دول، ثم بعد ذلك يزال الغبار، وتنكشف الأستار، ويتمنى الناس أن ما كان ليته ما حدث ولا كان، فتنتشر الفتن، ويكثر القتل، وتنتهك الأعراض، وتنتهب الأموال، وتخرب المرافق العامة، وتعيش الأمة في خوف وقلق وفزع، ويتمن المتمني أن يعود حكم الحاكم الظالم، الذي هو في ظلمه أهون من ظلم من بعده، فسيزداد الظلم والقهر.
فمن علامات الساعة: أن يتمنى كثير من الناس الموت، ليس تدينا، بل من كثرة فتن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة، حتى يمر الرجل بقبر أخيه، فيلكزه برجله، ويقول: يا ليتني كنت مكانك" [المتمنين، لابن أبي الدنيا].