الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | شبهات حول القرآن |
يتوهم بعض المغالطين أن هناك تناقضا بين
* قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]
* ، وقوله - عز وجل -: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143]
ويتساءلون: كيف يثبت القرآن الخيرية لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقرر وسطيتها بين الأمم؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في القرآن وأنه ليس من عند الله.
وجها إبطال الشبهة:
1) الأمة المحمدية خير الأمم عند الله - عز وجل -، وهذا ما أكده القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
2) المقصود بـ "وسطية أمة محمد - صلى الله عليه وسلم ـ" أنها وسط بين تفريط اليهود باستبدالهم الدنيا بالآخرة، وإفراط النصارى في أمور الدين بالرهبانية التي ابتدعوها.
التفصيل:
الأمة هي: الطليعة الرائدة، والقائمة بالدعوة بين أمة من الأمم، بمعنى أنها جيل من الأجيال له خصائصه ومميزاته، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي خير الأمم؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فالله - سبحانه وتعالى - يخاطب المسلمين بذلك؛ تثبيتا لهم، وتعزيزا لقوة إيمانهم ووحدتهم بهذا الإيمان، ودعوة إلى غيرهم ليقتدوا بهؤلاء المؤمنين.
يقول ابن عاشـور في تفـسـير هذه الآيـة:
* فـإن قـوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]
حال من ضمير كنتم، فهو مؤذن بتعليل كونهم خير أمة، فيترتب عليه أن ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضا من قبل، وأن يؤكد عليهم فرضه، إن كان قد فرض عليهم من قبل.
وفعل "كان" يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى، دون دلالة على استمرار ولا على انقطاع،
* قال - عز وجل -: وكان الله غفورا رحيما []
، أي: ومازال. فمعنى ?كنتم خير أمة? جدتم على حال الأخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها؛ لأنهم اتصفوا بالإيمان والدعوة للإسلام وإقامته على وجهه، والذب عن النقصان والإضاعة لتحقق أنهم لما جعل ذلك من واجبهم، وقد قام كل بما استطاع، فقد تحقق منهم القيام به، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله كلما سنح سانح يقتضيه، فقد تحقق أنهم خير أمة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك. والمراد بـ "أمة" عموم الأمم كلها، على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس، فتفيد الاستغراق.
* وقوله أخرجت للناس []
الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار، والمعنى: كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا، وفاعل أخرجت علوم، وهو الله موجد الأمم، والمراد بـ"الناس" جميع البشر من أول الخليقة1.
ولم يقف أمر تفضيل أمة الإسلام على غيرها من الأمم عند حد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، "فقد تناولت الأمة الإسلامية كل ما كانت عليه الأمم التي اتصلت بها من علم وفلسفة وفنون وصنائع، فأحيت مواتها، وزادت موادها، وجمعت شواردها، وبنت المدارس والجامعات لها، وتنافس الخلفاء والأفراد في اقتناء كتبها، وحشروا إلى قصورهم من أكناف[1] الأرض جل[2] أقطابها، ونشروا خلاصة معارفهم في أقطار العالم، لا فرق بين شرقيها وغربيها، وقبلوا في معاهد طلبة العلم من جميع الأمم، غير مميزين بين مسلمها ونصرانيها[3].
كل هذه الصفات أعطت للأمة الإسلامية الخيرية على غيرها من الأمم السابقة عليها.
هذه الخيرية لأمة الإسلام ليست ثابتة بالقرآن الكريم فحسب، بل إن أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تثبت هذه الخيرية أيضا، ومن ذلك ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله: أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم»[4]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله - عز وجل -»[5] [6].
وبعد؛ فإن خيرية أمة الإسلام على غيرها من الأمم خيرية ثابتة بالكتاب والسنة، ولا مجال للتشكيك في صحة ثبوتها في حق هذه الأمة.
ثانيا. منهج أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وسط بين التفريط والإفراط في الدين:
إن المقصود بكلمة "وسط" في صفة أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو: أن الإسلام - كما دعت إليه جميع الرسالات السابقة - جاء في رسالة خاتم النبيين كاملا بالنسبة لما سبقه من الدعوات، ومهيمنا عليها، بما نزل به من الشريعة التامة والباقية وغير المحرفة في القرآن الكريم.
وفي هذا المعنى العام من هيمنة القرآن الكريم بكمال دعوته وشريعته وبيانه وبرهانه
* يقول - سبحانه وتعالى -: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9]
* ويقول: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48]
* وقال تعالى موجها الخطاب لأهل الكتاب: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: 171]
ولهذا فقد ارتبط معنى "الوسط" في صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي حملت هذا النور المبين بالقرآن الكريم في آخر رسالات الله، وهذا الوسط كمال تحقق لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - حين جعلها الله - بما أنزله إليها - "وسطا" بين طرفين متباعدين من التفريط والإفراط في الدين؛ فقد تطرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في اتجاهين متناقضين، بينما جاء الإسلام وسطا بينهما في دعوة القرآن الحكيم، وفي أسوة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وفي وعي هذه الأمة التي آمنت بالله، وعملت بما نزل إليها على رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أما الغلو والتفريط عند اليهود، وقد تمثل - ولا يزال - في بيعهم الآخرة من أجل الدنيا،
* وقد ذكر الله تعالى هذا بقوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 96]
* وعن إفسادهم في الأرض يقول الله تعالى: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين [64 المائدة.]
وأما الإفراط في الدين من جانب النصارى، فقد تمثل - عند عدد منهم - في بيع الدنيا في سبيل الآخرة، وذلك بالرهبانية التي لم ينزل بها دين سماوي، وقد تتحول هذه الرهبانية إلى النقيض الداعي إلى بيع الآخرة بالدنيا - كما حدث في أوربا كثيرا -،
* وفي ذلك يقول تعالى: ۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34]
* ويقول سبحانه أيضا في مغالاة بعض هؤلاء وهؤلاء إلى ما هو أسوأ: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [31 التوبة.]
في معنى الوسطية والخيرية المنوطة بهذه الأمة المحمدية يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: " نأتي اليوم من هذه المثل العليا
* بقوله - عز وجل -: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143]
ونحن نفسر هذه الآية: فقوله تعالى: وكذلك إشارة إلى معنى الآية المتقدمة،
* وهي قوله - عز وجل -: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [142 البقرة]
، سماهم "سفهاء"[7]؛ لأنهم حقروا عقولهم بالتقليد، وبالإعراض عن النظر والتحقيق، فاعترضوا على المسلمين الأولين في تغيير قبلتهم إلى البيت الحرام بعد أن كانت إلى البيت المقدس، وهم في اعتراضهم هذا قد اتصفوا بالسفاهة؛ لأنهم لم يعقلوا أن توجيه الوجه إنما يكون إلى الله لا إلى المكان،
* وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]
؛ لأنه تعالى لا ينحصر في مكان، فاعتبر الغفلة عن هذه الحقيقة سفاهة؛ فيكون معنى الآية التي نحن بسبيلها: إننا كما هديناكم في أمور دينكم ودنياكم إلى الصراط المستقيم، جعلناكم أمة وسطا، أي خيارا معتدلين، وأصل الوسط اسم للمكان الذي تتساوى جوانبه، استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط، وإنما جعلناكم كذلك لنسدي[8] إليكم مهمة عالمية جليلة الشأن، هي أن تكونوا شهداء على الناس في تقصيرهم وغلوهم، ويكون الرسول عليكم شهيدا.
ثم إن هذه المهمة العالمية المخولة[9] لهذه الأمة تجعلها نزاعة[10] إلى التفوق في كل فضيلة، سباقة إلى التحلي بكل خصلة نبيلة، وهذا يفسر ما اشتهر عن هذه الأمة من سعة الصدر في معاملة المخالفين، ورحب الذراع في حماية المستضعفين، مما كان له أثره في نشر دينها وإحياء لغتها، مما لا تستطيعه الجيوش الجرارة ولا الدعايات القائمة على أشد الوسائل الإرهابية.
ولقد كان مما أدهش المؤرخين أن تظفر أمة لم ينقض على تآلفها من قبائل شتى أكثر من ربع قرن، فتنقلب إلى أمة فاتحة، وتنقض على أمتين كان لهما السلطان المطلق على الأرض، فتمحو وجود إحداهما، وتفت في عضد الأخرى، وأوجب منه للدهشة والحيرة، أن تحفظ ما حصلته من الفتوحات قرونا طويلة، وأن ترفعها عما كانت عليه من الثقافة والمعرفة درجات كثيرة"[11].
ويثري هذا المعنى أيضا ويزيده غناء - مبينا آثار الوسطية - فضيلة الشيخ محمد الغزالي؛ إذ يقول: قالوا من قديم: إن الفضيلة وسط بين رذيلتين، وسواء اطرد هذا القول أم لم يطرد، فإن الحقيقة تضيع بين الإفراط والتفريط، والناس يعانون كثيرا من الغلو الشديد والإهمال البارد، وعندما ظهر الإسلام كان اليهود معروفين بالحرص على الحياة، والحب القوي للمال وطلبه من الربا ومن وجوه السحت الأخرى، وأن المسيحيين يرون التقوى في الرهبانية والزهد واحتقار المال، حتى قيل في كتبهم: لأن يلج الجمل في سم الخياط[12] أقرب من أن يدخل الغني ملكوت السماوات!
وجاء الإسلام فرفض المسلكين، وعد المال وسيلة لما بعده، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو
كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة
[13].
وكانت الصرامة والقسوة ملحوظتين في تعاليم اليهود، كأن التقوى عقوبة مرصدة[14] لكل ذنب، وكأن مرضاة الله لا تتم إلا بواجبات جافة ومظاهر محبوكة، فجاء عيسى - عليه السلام - يتحدث عن القلوب الرقيقة والبشرية الضعيفة الفقيرة إلى عفو الله، وقالوا: إنه ترك امرأة اقتيدت متهمة بالإثم، وقال لليهود: من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم ليرجمها!
وجاء الإسلام فرفض العبادة المقرونة بالصلف[15] والاستعلاء على الناس، ويسر التوبة لكل عاثر[16]، وأمر بستره والتجاوز عنه، وأقر العقاب لمن يتبجح بجرمه ويؤذي المجتمع بالإصرار عليه، أي أنه رفض الطاعة المستكبرة، ورحم المعصية النادمة، وطلب الإصلاح المتواضع الرقيق، يقول علي بن أبي طالب: ألا أخبركم بالفقيه حق؟! الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يرخص للمرء في معاصي الله[17].
فالإسلام دين وسط يأمر الأمة بالتزام الصراط المستقيم، ويحذرها من الخطوط المنحرفة يمينا والمنحرفة يسارا، والوسطية فضيلة تبرز في توجيهات الإسلام الاجتماعية والاقتصادية؛ ففي العلاقة بين الرجال والنساء مثلا، أبى أن تكون المرأة حبيسة البيت أو طريدة، كما أبى أن يكون موقف الرجل منها موقف السجان أو الصياد، فالبيت هو المحضن الذي تتولى المرأة فيه تربية الجيل الجديد وتنشئته على تعاليم الدين ومبادئه، وليس البيت سجنا - كما تفهم ذلك بعض التقاليد السائدة عندنا - ولا ملتقى عابرا للأبوين والأولاد - كما تألف ذلك أوربا، حيث الأسر شكل لا موضوع له -، وللمجتمع العام حظ من حياة المرأة؛ فهي تتعلم وتعلم وتتداوى وتأمر وتنهى وتبايع، وقد تشارك الجيش في بعض الخدمات الطبية، وقد تقاتل إن اقتضى الأمر الدفاع عن نفسها وأمتها، وينبغي أن تكون خبيرة بشئون أمتها الدينية والمدنية، وهناك من يأبى على المرأة هذا كله أو بعضه، في الوقت الذي أسرفت فيه المرأة الغربية إسرافا شائنا في الذوبان خارج البيت، وهذا كله ضد رسالتها الأولى. ولو أننا التزمنا وسطية الإسلام لكان ذلك أرضى لله، وأسعد للأمة، وأزكى للجنسين معا.
وأما من الناحية الاقتصادية، فقد أقر الإسلام حق الملكية الفردية، بيد أنه كبح[18] جماحها بقيود الحلال والحرام، وانتقص أطرافها بحقوق الضعاف والمتعبين، وبذلك ضمن إنتاجا غزيرا؛ لأن الحوافز قائمة، وحفظ الجماعة من التفكك؛ لأن التواصي بالرحمة لم يدع ثغرة إلا سدها، ونجت الشعوب من الشيوعية الكافرة والرأسمالية الجائرة. والمفروض أن يتعلم المسلمون من نبيهم هذه الحقائق، ويعوها ويطبقوها، فإن الله سائلهم عن الهدايات التي بلغتهم: هل انتفعوا بها ونفعوا الناس[19]؟
· الأمة المحمدية هي خير أمة أخرجت للناس؛ وذلك لأنها هي الأمة التي أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر وآمنت بالله - عز وجل -، وهذا ما أكدت عليه آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الخيرية ليست خيرية مطلقة دون قيد أو شرط، بل هي مرتبطة بشروطها السابقة - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله - فإن تخلف شرط من هذه الشروط فقدت الأمة خيريتها.
· معنى الوسطية الذي وصفت به أمة الإسلام يعني: الاعتدال في كل أمور الدنيا والآخرة، فلا يوجد فيها التفريط في الدين من أجل الدنيا كما فعل اليهود، أو الإفراط فيه على حساب الدنيا كما فعل النصارى، وهذه الوسطية هي التي جعلت من أمة الإسلام رقيبا ومهيمنا على غيرها من الأمم، وهذا ما يبدو واضحا في تشريعات الإسلام وتعاليمه: الاجتماعية - كالعلاقة بين الرجل والمرأة - والاقتصادية - كالملكية الفردية والواجبات الاجتماعية على صاحب المال - إلخ. فأي تناقض يتوهمون؟!