الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | مشعل بن عبد العزيز الفلاحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
إن حداك حادي الشوق إلى تلك المشاعر المقدسة فالله يتولاك برعايته، ونفقتك مخلوفة عليك بإذن الله تعالى، ولن تجد ألذ ولا أجمل ولا أفضل من هذه الرحلة في عمرك كله، وإن قصر بك الحال لمرض أو قلة ما بيدك فأحسن النية، واجعل قلبك يطوف بالمشاعر من كثرة الأماني والرغبة إلى هناك، ولك أجر النية الصالحة..
الخطبة الأولى:
أيها المسلم، هل سمعت بالأشواق حين تختلج في قلوب المحبين؟ هل رأيت بعينيك دموع المحبين وهم يسمعون حادي الأرواح إلى مشاعر الحج؟ أوَلم تر عيناك ذلك الكهل الذي أثّر الزمن في ظهره ومع ذلك هو بنفسه يجوب تلك الفيافي ويرحل إلى عالم المحبين؟ فيا لله، لو رأيت تلك الجموع لهزك الشوق إلى هناك.
أيها المسلم، إليك قصة مثيرة دونها التاريخ كرحلة من أعظم الرحلات، قصة الحاج عثمان دابو -رحمه الله تعالى- من جمهورية جامبا في أقصى المغرب الإفريقي وقد تجاوز الثمانين من عمره، قصة قصّها الداعية عبد الرحمن الصويّان.
يقول الداعية: زرته قبل وفاته في منزله في إحدى الرحلات إلى إفريقيا، زرته في منزله المتواضع بقريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين عامًا إلى البيت العتيق، حجّ تلك الأيام ماشيًا على قدميه برفقة أربعة من صحبه، حجّوا من بانجول إلى مكّة قاطعين قارّة إفريقيا من غربها إلى شرقها، وهكذا هي الأشواق، لم يركبوا في تلك الرحلة إلا فتراتٍ يسيرة متقطّعة على بعض الدواب إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر، ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة، رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دوّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة وعبرة، استمرّت الرحلة أكثر من سنَتين، ينزلون أحيانًا في بعض المدن للتكسّب والراحة والتزوّد لنفقات الرحلة ثم يواصلون المسير.
يقول الداعية: سألته: أليس حجّ البيت الحرام فرض على المستطيع وأنتم في ذلك الوقت غير مستطيعين؟! قال: نعم، ولكنا تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء فما عذرنا عند الله -تعالى- إن نحن قصّرنا في المسير إلى بيته الحرام؟! خاصة أننا نظن أن الأيام لا تزيدنا إلا ضعفًا، فلماذا التأخير؟! خرج الخمسة من دورهم وليس معهم من القوت إلاّ ما يكفيهم لأسبوع واحد فقط، وأصابهم في طريقهم من المشقّة والضيق والكرب ما الله -تعالى- به عليم، فكم من ليلة باتوا فيها لا يجدون طعامًا ولا كساءً حتى كادوا يهلكون, كم من ليلة طاردتهم السباع وفارقهم لذيذ المنام، وكم من ليلة عرض لهم قطّاع الطريق.
رب ليلٍ بكيت منه فلما | صرت في غيره بكيت عليه |
يقول الحاج عثمان دابو: لدِغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي.
وإني لأرعى النجم حتى كأنني | على كل نجم في السماء رقيب |
فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس ليك: أما كان الأولى أن تبقى في أرضك؟! لماذا تكلّف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع؟! لكن الأشواق إلى رؤية بيت الله -تعالى- ومواطئ الأنبياء كانت أشد في قلبي من تلك الوساوس كلها.
ظل هؤلاء يسيرون في رحلتهم، وفي أثناء الطريق مات منهم ثلاثة كان آخرهم في عرض البحر، واللطيف في أمره أنه قال في وصيته لصاحبيه: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فأخبرا الله -تعالى- شوقي للقائِه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي ، قال عثمان دابو: لما مات صاحبنا الثالث نزلني همٌ شديد وغم عظيم، وكان ذلك أشدّ ما لقيت في رحلتي، فقد كان أكثرنا صبرًا وقوة، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى تلك المشاعر، فكنت أحسب الأيام والساعات.
إذا برقت نحو الحجاز سحابة | دعا الشوق مني برقها المتطامن |
فلما وصلنا إلى جدّة مرضت مرضًا شديدًا وخشيت أن أموت قبل أن أصلَ إلى مكة، فأوصيت صاحبي أن إذا متّ أن يكفنني في إحرامي ويقربني قدر طاقته إلى مكة لعل الله -تعالى- أن يضاعف لي الأجر ويتقبلني في الصالحين.
فيوشك أن يحول الموت بينِي | وبين جوار بيتك في الطواف |
فكم من سائلٍ لك ربّ رغبًا | ورهبًـا بين منتعل وحـافي |
أتاك الراغبون إليك شعثًـا | يسوقون المقلّدة الصـوافِي |
مكثت في جدة أيامًا ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، بعد أن تدثّرنا بإحرام الحج كانت أنفاسي تتسارع والبشر يملأ وجهي والشوق يهزني ويشدني إلى الوصول إلى المسجد الحرام، سكت الشيخ قليلاً وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله -تعالى- أنه لم ير لذّة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لمّا رأى الكعبة المشرفة، قال: لما رأيت الكعبة سجدت لله -تعالى- شكرًا، وأخذت أبكي من شدّة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فيا لله ما أشرفه من بيت! وما أعظمه من مكان! ثم تذكرت أصحابي الذين تساقطوا في الطريق ولم يتيسّر لهم مثل رؤيتي، فبكيت وحمدت الله -تعالى- على نعمته وفضله عليّ اهـ. وكتب الله -تعالى- له أن يؤدّي فريضة الحج بمثل هذه المحن.
هذه رحلة عثمان دابو من أقصى إفريقيا إلى مكة عبر عامين من الزمن، قطع فيها البحر والبر، وتعرّض خلالها للسرقة والنهب، لدغ في الطريق وبات متألمًا من آثار ذلك السمّ الزعاف، كم من ليلة بات فيها في العراء دون لحاف، وكم من يوم ظل فيه يناظر الطرقات يبحث عمّن يتصدّق عليه بغداء أو عشاء، تساقط صحبه في الطريق، وماتوا وهم راحلون إلى الله تعالى، وحال الموت بينهم وبين تلك الأشواق، وعانق الرجل مكة بعد هذا الزمن كله، طاف بالبيت وسعى، وشهد مشاهد المشاعر كلها وهو يلبي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد: فرحلة الحج رحلة من أعظم الرحلات في تاريخ المسلم، ولِم لا تكون كذلك وهي رحلة تطوف فيها بالمشاعر المقدسة وتلتقي فيها بجموع من المسلمين؟! وقبل ذلك وبعده رحلة تتعرّض فيها للنفحات الإلهية وغفران الذنوب.
إن رحلة الحج هي في المقام الأول تلبية للأمر الإلهي: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).
وهي في المقام الآخر استجابة للنداء الذي نادى به إمام الحنيفية السمحة إبراهيم عليه السلام حين أمره الله -تعالى- بقوله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27]، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "أي: ناد في الناس بالحج، داعيًا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر وشجر ومدر، من كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم" اهـ.
وهي في المقام الثالث سير على وفق معالم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، وقد مروا بهذه المشاعر وخاضوا رحلة الحج المباركة، فقد مرّ النبي في أثناء رحلته في حجة الوداع مع الصحابة الكرام بوادي الأزرق فقال لأصحابه: "أي واد هذا؟" قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: "كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية، وله جؤار إلى الله -تعالى- بالتلبية"، ثم أتى النبي على ثنية يقال لها: ثنية هَرشى فقال: "أي ثنية هذه؟" قالوا: هذه هَرشى، قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة ـ يعني مجمعة الخلق شديدة ـ، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خُلبة ـ يعني من الليف ـ وهو يلبي".
وهي في المقام الرابع أمل يحدو الإنسان إلى أن يناله الثواب الوارد في حديث النبي : "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه" متفق عليه من حديث أبي هريرة، وللبخاري: "رجع كيوم ولدته أمه"، وقال في حديث أبي هريرة: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة" متفق عليه، وروى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء"؟!
وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة" (رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني).
وقال في حديث أبي هريرة: "وفد الله -عز وجل- ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر" رواه النسائي وصححه الألباني، وقال في حديث أبي هريرة: "ثلاثة في ضمان الله تعالى" وذكر منهم: "رجل خرج حاجًا".
وعند الطبراني من حديث ابن عمر وحسنه الألباني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله -عز وجل- ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثًا غُبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج ـ أي: متراكم ـ أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك".
إليك إلَهـي قـد أتيـت ملبيًـا | فبـارك إلَهـي حجتي ودعائيـا |
قصدتـك مضطرًا وجئتك باكيًـا | وحاشـاك ربِي أن تـرد باكيًـا |
كفـانِي فخـرًا أننِي لك عـابد فيـا | فرحي إن صرت عبدًا مواليًا |
أتيت بلا زاد وجـودك مطعمـي | وما خاب من يهفو لِجودك ساعيًا |
إليك إلَهـي قد حضرت مؤمـلاً | خلاص فؤادي من ذنـوبِي ملبيًا |
وأخيرًا هذه بعض من ملامح هذه الفريضة المباركة، فإن حداك حادي الشوق إلى تلك المشاعر المقدسة فالله يتولاك برعايته، ونفقتك مخلوفة عليك بإذن الله تعالى، ولن تجد ألذ ولا أجمل ولا أفضل من هذه الرحلة في عمرك كله، وإن قصر بك الحال لمرض أو قلة ما بيدك فأحسن النية، واجعل قلبك يطوف بالمشاعر من كثرة الأماني والرغبة إلى هناك، ولك أجر النية الصالحة.
وبين يديك في العشر الأول من شهر ذي الحجة غنائم عظيمة وخيرات جسيمة، قال : "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام"، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" (رواه البخاري).
ويوم عرفة يكفّر الله -تعالى- بصيامه سنتين، والحرص على الذكر من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد وكثرة النافلة من الصلاة نحوها والصدقة دلائل ترد بك بإذن الله -تعالى- إلى غايات المفلحين.
وحذارِ أن تكون ممن توفّرت لديه القدرة المالية والبدنية فتخلف عن الحج دون سبب، وقد اختلف أهل العلم في مثل حالك إذا مت وأنت لم تؤد الفريضة حجة الإسلام، فمنهم من قال: يقضى عنك كبقية الديون من مالك إن بقي لك مال، ومنهم من قال: يكفُر من كان هذه حاله ولم يحج، واستدلوا بقول الله تعالى: (وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) [آل عمران: 27]، فقالوا: فقوله: (وَمَن كَفَرَ) دليل على كفره، واستدلوا بقول عمر -رضي الله عنه- حينما بعث إلى الأقطار بعوثًا لينظروا؛ فمن وجدوهم ذوي جِدة فلم يحجوا فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
عافاني الله وإياك من عقوبة المخالفة، وجعلنا من أهل المعروف في ساحات هذه الدنيا، والله يتولانا وإياك برعايته.
ألا وصلوا وسلموا...