الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | باحثو مركز أصول |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | حُجيَّة السُّنة، ووجوب العلم بها، وبالآحاد |
مختصَرُ الإجابة:
الهدايةُ التي نزَلَ بها القرآنُ الكريم، والسنَّةُ المطهَّرة، هي هدايةُ الثوابتِ الكُبرى، والمقاصدِ العُليا، التي تعرِّفُ الإنسانَ بأسبابِ وجودِه، وغايةِ خلقِه، وحقيقةِ عَلاقتِهِ بخالقِهِ جلَّ وعلا، وما وراء الموتِ مِن بعثٍ وحسابٍ، وتبيِّنُ للناسِ طريقَ الفضيلة، ونُورَ الأخلاقِ والقِيَمِ النبيلة، ومقاصدَ الشريعةِ التي تَحفَظُ على الناسِ ضروراتِهم وحاجاتِهم، وتسوقُ قَصَصَ الرسُلِ والأنبياءِ الذين حمَلوا مشاعلَ الأنوارِ في هدايةِ البشريَّةِ كلِّها، وتَضرِبُ الأمثالَ بما قدَّموا مِن التضحيَات، وما تعرَّضوا له مِن مواقفِ الأُمَمِ والشعوب؛ لتكونَ فيها العِظةُ والعِبرةُ لجميعِ الأجيال؛ كيلا تَضِلَّ البشريَّةُ عن غايةِ وجودِها.
فما الذي سيتغيَّرُ في هذه الثوابتِ العُظمى مع تغيُّرِ الزمانِ والمكان؟!
والحقُّ أن ما يقومُ به المعاصِرون في ذلك ليس تأويلًا معاصِرًا لسُنَّةِ النبيِّ ﷺ، بل هو تحريفٌ وعبَثٌ وإزالةٌ للدِّين.
وكيف يُمكِنُ قلبُ هذه المقاصدِ الكلِّيَّةِ لتناسِبَ عصرَنا وحاضرَنا، وهي في مادَّتِها وصورتِها وحقيقتِها قِيَمٌ ثابتةٌ أصيلةٌ، لا تبدِّلُها الأزمانُ، ولا الأمكنةُ، ولا الأحوال؟!
بل كانت ثابتةً مستقِرَّةً في شرائعِ جميعِ الرسُلِ والأنبياء، وستبقى كذلك إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضُ ومَن عليها.
الجوابُ التفصيليّ:
لقد أوجَبَ اللهُ تعالى على المسلِمين العملَ بسُنَّةِ نبيِّه ﷺ، وحذَّرهم مِن العدولِ عنها، أو التحاكُمِ إلى غيرِها:
فقال سبحانه:
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾
[المائدة: 49].
وقال أيضًا:
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
[الجاثية: 18]
وقال أيضًا:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
[النساء: 65]
وقال أيضًا:
﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾
[النور: 47].
فهل نُسِخَتْ هذه النصوصُ التي تُلزِمُ العملَ بالسنَّةِ النبويَّةِ، وتُوجِبُ الحُكمَ بها، وتَنْفي الإيمانَ عمَّن خالَفَها؟
لا شكَّ أن الجوابَ على ذلك هو النفيُ القاطعُ؛ لأن هذا الحقَّ ليس لأحدٍ مِن دونِ الله، ولا سبيلَ إليه إلا بالوحيِ المعصوم، وقد أكمَلَ اللهُ لنا الدِّينَ، وأتَمَّ علينا النِّعْمةَ، وأحكَمَ آياتِه، وتعبَّدَنا بها إلى قيامِ الساعة.
وهذه الشبهةُ الرائجةُ عند بعضِ المفكِّرين المعاصِرين، قائمةٌ على زعمٍ باطلٍ؛ أَلَا وهو: أن السنَّةَ هي الفهمُ الشخصيُّ للنبيِّ ﷺ لِمَا أنزَلهُ اللهُ في القرآن، يعني: نوعًا مِن تفسيرِ القرآنِ صدَرَ عن النبيِّ ﷺ، مع حصرِ السنَّةِ في أنها حياةُ الرسولِ التي انتهَتْ بوفاتِه، وتوقَّف دَوْرُها منذُ ذلك الحِين.
وهذه الخطوةُ كانت تمهيدًا لهدَفٍ آخَرَ: وهو أن معانيَ القرآنِ قابلةٌ للتطوُّرِ بشكلٍ دائمٍ، ولو مِن النقيضِ إلى النقيض؛ لتغيُّرِ أفهامِ الناس؛ وبالتالي: تغيُّرِ ما يُمكِنُ أن يستنبِطوهُ مِن القرآنِ، كما فعَلَ النبيُّ ﷺ، وأن لكلِّ جيلٍ حقَّ فهمِ القرآنِ حَسْبما يَرَى، وما تُمْليهِ عليه الظروفُ، غيرَ مُلزَمٍ بفهمِ مَن سبَقهُ للقرآن، حتى لو كان النبيَّ وصحبَهُ.
ومِثلُ هذا مؤذِنٌ بتغييرِ شعائرِ الإسلامِ كلِّها.
ويُمكِنُ الجوابُ عن تحريفِهم لحقيقةِ السنَّةِ بما يلي:
أوَّلًا: معنى السنَّةِ، وقِيمةُ شهادةِ غيرِ المسلِمين في إثباتِ حجِّيَّةِ السنَّةِ، وأنها ليست مجرَّدَ فهمٍ وتفسيرٍ مِن النبيِّ ^ للقرآن:
هذا كلُّه الذي ذكَرْناهُ مِن مسلكِ بعضِ المفكِّرين المعاصِرين:
فليست السنَّةُ مرحلةً مخصوصةً مِن مراحلِ التاريخِ الإسلاميِّ، بدَأتْ وانتَهتْ، ولم تعُدْ صالحةً للحياة.
وليست هي فهمَ النبيِّ ﷺ للوحي.
وليس القرآنُ قابلًا لأن تتغيَّرَ معانيهِ بتغيُّرِ الزمان.
فربُّنا تبارَكَ وتعالى الذي خلَقَ البشَرَ، وهو - وحده - يَعلَمُ ما يُصلِحُ أمرَ دِينِهم ودنياهُم وآخِرتِهم، أرسَلَ محمَّدًا ﷺ، وأمَرهُ بتبليغِ رسالتِهِ إلى جميعِ الناس؛ ليحقِّقوا الفوزَ في الدارَيْن.
وسنَّةُ النبيِّ ﷺ، والرسالةُ التي جاء بها: هي صلاحُ الناسِ إلى يومِ القيامة، بلا تقيُّدٍ بزمانٍ دون زمان، أو مكانٍ دون مكان، وهي رسالةٌ تخاطِبُ جميعَ العقول، لا في عصرِ النزولِ فقطْ، بل في كلِّ عصر، وهذه حقيقةٌ لا يختلِفُ فيها عاقلانِ؛ فالشرعُ الإسلاميُّ لم يأتِ بشيءٍ يخالِفُ العقلَ السليم، ولم يأتِ بشيءٍ يؤخِّرُ الإنسان، وإنما أتى بما يَرْقى بعقلِ الإنسانِ في كلِّ مجالٍ مِن مجالاتِ الحياةِ في حدودِ ما أحلَّه الله.
ثانيًا: هل ما يقومُ به المعاصِرون هو تأويلٌ معاصِرٌ لسُنَّةِ النبيِّ ﷺ، أم هو تحريفٌ وعبَثٌ وإزالةٌ للدِّين؟:
يَذهَبُ بعضُهم: إلى نماذجَ لتغييرِ المحتوى في مفاهيمِ الشريعةِ وقِيَمِها:
ففي العباداتِ: يَرَى أن «أقلَّ قَدْرٍ منها يُرْضي اللهَ، ولو اكتفى المسلِمُ بصلاةِ ركعتَيْنِ في اليومِ - بدلًا مِن سبعَ عَشْرةَ ركعةً موزَّعةً على خمسِ صلَواتٍ واجباتٍ - لكفاه».
وفي لباسِ المرأةِ: يرَوْنَ أن «أقلَّ ما هو مطلوبٌ، وأنه يُرْضي اللهَ مِن المرأةِ إذا فعَلتْهُ: هو أن تستُرَ العَوْرتَيْنِ المغلَّظتَيْن، ولها أن تَظهَرَ بعد ذلك خارجَ بيتِها عارِيةً، لا تغطِّي شيئًا مِن بقيَّةِ الجسَد!».
ويرَوْنَ: أن «احتساءَ الخمورِ والزِّنى أفعالٌ مباحةٌ لا عقابَ ولا لومَ فيها شرعًا وقانونًا؛ اقتداءً بالمجتمَعِ الأمريكيّ».
وأن قطعَ يدِ السارقِ الواردَ في صريحِ القرآنِ، هو مجرَّدُ حبسِ اليدِ وصاحبِها في السِّجْنِ، وهكذا.
وعلى هذا الأساسِ: شاع العبَثُ في دِينِ اللهِ تعالى، وأصبَحتِ المسألةُ عمليَّةَ إزالةٍ للإسلامِ كلِّه، وتغييرٍ لثوابتِه، وإنكارٍ للمعلومِ مِن الدِّينِ بالضرورة.
ثالثًا: أمثلةٌ على صلاحيَةِ السنَّةِ في الواقعِ المعاصر:
إن سُنَّةَ النبيِّ ﷺ - سواءٌ في ذلك القوليَّةُ أو العمليَّةُ - ليس فيها شيءٌ للعَزْلِ عن حياةِ المسلِمين؛ لأنها مصابيحُ هُدًى في قلوبِ الأُمَّةِ؛ كالرُّوحِ في الجسَد.
وصلاحيَةُ السنَّةِ لكلِّ عصرٍ ومصرٍ أمرٌ لا رِيبةَ فيه، وهي ظاهرةٌ صالحةٌ للعَرْضِ والاختبارِ الآنَ، وفي كلِّ لحظةٍ، سواءٌ أخَذْتَ العيِّنةَ مِن العقائد، أو العبادات، أو المعامَلات، أو الأخلاق.
أيُّ مثالٍ مِن السنَّةِ، ومِن هذه المجالاتِ: إذا نظَرْتَ فيه بوَعْيٍ، تجِدُهُ يمزِّقُ حدودَ الظرفيَّةِ الزمانيَّةِ والمكانيَّةِ، التي يدَّعي مُنكِرو السنَّةِ تقييدَها بها.
فهو يأمُرُ بمكارِمِ الأخلاقِ، ويَنْهى عن سفاسِفِها، ويأمُرُ بالمعروفِ؛ كالتوحيدِ والعدلِ والصدقِ، والعِفَّةِ والصدَقة، ويَنْهى عن المنكَرِ؛ كالشركِ والظلمِ والكذبِ، والسوءِ والفحشاء.
خاتِمةُ الجواب - توصية:
إن قولَهم بمَرْحليَّةِ السنَّةِ النبويَّة، وأن ما جاء فيها مِن أحكامٍ خاصٌّ بتلك البيئةِ الصَّحْراويَّةِ التي بُعِثَ فيها النبيُّ ^، أما واقعُنا، فلا بدَّ فيه مِن أحكامٍ جديدةٍ تناسِبُ تطوُّرَهُ ومتغيِّراتِهِ اليوميَّة؛ فالسنَّةُ - حسَبَ رأيِهم - تتغيَّرُ وتتبدَّل، ولا يجوزُ أخذُ ظواهرِ الأحاديثِ، وتطبيقُها في كلِّ مكانٍ وزمان.
وهؤلاءِ لم يعترِفوا بحجِّيَّةِ السنَّة، وعلَّلوا ذلك بأسبابٍ جدَليَّة؛ كالقولِ أنها لا تُنْهي خلافًا؛ لكثرةِ الخلافِ حول الأحاديثِ، وطرُقِ ثبوتِها، وصحَّتِها وضعفِها، وقد تبيَّن ضعفُ هذه الشبهةِ بجهودِ العلماءِ الكبيرةِ في تنقيحِ السنَّة، وبيانِ ضعيفِها، والضوابطِ التي وضَعوها للقَبولِ والرفضِ، والاستدلالِ والترجيحِ بين الأحاديث.
ولا شكَّ أن كلَّ ما سبَقَ مِن تلاعُباتِهم بالألفاظِ، فالقرآنُ يتبيَّنُ بالسنَّةِ؛ فلا مفاضَلةَ بينهما إلا في حالةِ التعارُضِ، وتقديمِ الأدلَّةِ على بعضِها إن وُجِدَ - وليس هو موجودًا على الصورةِ الفاسدةِ التي يتوهَّمونَها - أما أن يَتِمَّ رفضُ أحدِهما كليًّا، فهذا غيرُ واردٍ أبدًا في الإسلام.
فاللهُ تعالى أمَرَ بطاعةِ رسولِهِ ^، وهو سبحانه يَعلَمُ أن القرآنَ سيُتْلى إلى يومِ القيامة؛ فطاعةُ رسولِهِ ^ هو أمرٌ مستمِرٌّ إلى يومِ القيامةِ كذلك. والقولُ أنها مسألةٌ ظرفيَّةٌ، مجرَّدُ احتمالٍ عقليٍّ لا دليلَ عليه، والسيرُ مع الاحتمالاتِ العقليَّةِ يُبطِلُ كلَّ الدَّلالاتِ حتى في القرآنِ الكريم، بل حتى في كلامِ الناس؛ ولهذا فهو باطلٌ شرعًا وعقلًا وعرفًا.