الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | علي بن يحيى الحدادي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
العافية في الجسد، من الأمراض الظاهرة والباطنة التي تؤلم الإنسان، أو تشتد، فتعوقه عن أداء أعماله ومصالحه. والعافية من كل مكروه دنيوي وأخروي، من أعظم المطالب، ولهذا كان طلب الله العافية من أحسن الأدعية، وأجمعها لكل خير في الدنيا والآخرة، عن...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن نعم الله -تعالى- علينا كثيرة، لا تعد ولا تحصى؛ كما قال تعالى ممتنا على عباده: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 32 - 34].
وإذا أعطي العبد ثلاث نعم كان كمن ملك الدنيا كلها، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" [رواه الترمذي وغيره].
وها نحن نتقلب في نعم عظيمة، تجمع هذه الثلاث وغيرها، فلله الحمد والمنة.
أول هذه النعم: نعمة الأمن، وهي أجلها وأكبرها؛ لأنه مع الخوف لا يهنا المرء بطعام، ولا شراب، ولا بصحة؛ لأنه يترقب القتل والاغتيال، والموت في كل لحظة ينزل به أو بأهله، يترقب سلب ماله، وانتهاك عرضه، وتخريب دياره.
فإذا ارتفع الأمن -والعياذ بالله- فسدت الحياة، ولهذا دعا إبراهيم أول ما دعا لأهل مكة، فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) [إبراهيم: 35].
وبعد دعوات أخرى، قال: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
وفي الآية الأخرى، حكى الله عنه أنه قال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 126].
ففي كل الموضعين قدم إبراهيم الدعاء بالأمن على طلب الرزق؛ لأنه إذا حصل الأمن أمكن طلب المعاش والرزق، وساغ الطعام والشرب، وصلح أمر الدين والدنيا.
النعمة الثانية: العافية في الجسد، من الأمراض الظاهرة والباطنة التي تؤلم الإنسان، أو تشتد، فتعوقه عن أداء أعماله ومصالحه.
والعافية من كل مكروه دنيوي وأخروي، من أعظم المطالب، ولهذا كان طلب الله العافية من أحسن الأدعية، وأجمعها لكل خير في الدنيا والآخرة، عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله عَلِّمْني شَيْئًا أسْألُهُ الله -تعالى-؟ قَالَ: "سَلوا الله العَافِيَةَ" فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلتُ: يَا رسولَ الله عَلِّمْنِي شَيْئًا أسْألُهُ الله -تعالى-، قَالَ لي: "يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رسول اللهِ، سَلُوا الله العَافِيَةَ في الدُّنيَا والآخِرَةِ" [رواه الترمذي، وقال: "حسن صحيح".
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يدعو الله، ويسأله ويطلبه العافية دينه ودنياه عامة، وربما خصص، فسأل الله العافية في سمعه وبصره وبدنه، وفي أهله وماله.
فأكثر من طلب الله العافية.
وإذا كنت صحيحاً في بدنك، فاستشعر أنك في نعمة عظيمة، إياك واحتقارها، أو استعمالها فيما يغضب من أنعم بها عليك، فإن المعاصي تزيل النعم.
النعمة الثالثة: توفر قوت اليوم والليلة، أي عندك ما يكفيك، ويقوم به بدنك في يومك وليلتك، فكيف إذا كان في البيت أنواع القوت، وأنواع الفواكه، وصنوف الحلوى، والألوان المتعددة، من المشارب الباردة والحارة، والحالية والمرة، ما يكفيه لأسابيع أو شهر أو أكثر.
ثم هو يبيت ساخطاً، ويقوم ساخطا، يشكو القدر، ويندب الحظ، ويسب الدولة.
فأين هذا من الاعتراف بنعمة الله عليه؟ وأين هو من مقام الشكر الذي أمر به في قوله تعالى: (وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) [الزمر: 66].
أفما يخاف مثل أن يدخل في قوله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) [النحل: 83] أي الكافرون بالنعمة.
فاللهم لك الحمد على نعمة الأمن في الأوطان، ولك الحمد على نعمة العافية في الأبدان، ولك الحمد على نعمة القوت والمعايش.
اللهم أوزعنا شكر نعمك، ولا تسلبنا بمعاصينا فضلك، إنك سميع مجيب
أقول هذا القول، وأستغفر لله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإن نعمة الأمن لا تثبت بعد توفيق الله إلا بأسباب عظيمة، ومنها: الاعتصام بحبل الله، والبعد عما يسخطه، من الشرك والبدع والمحدثات.
ومنها: لزوم الجماعة، ولزوم السمع والطاعة، وحفظ هيبة الدولة، وتوقير سلطان الله في الأرض، والصبر على ما يقع منه من الجور والظلم، ما لم يكن كفراً بواحاً، فبه تجتمع الكلمة، ويستقر الأمن، وتقام الحدود، ويرتدع أهل الإجرام عن العدوان.
وإن نعمة العافية في البدن تحتاج بعد فضل الله إلى الاقتصاد في المأكل والمشرب، وتناول المباحات، والابتعاد عما يضر البدن، من الأغذية المحرمة والضارة، وإعطاء الجسد حقه من الحركة والرياضة، فعلى العاقل أن يسعى فيما يصلح قلبه وبدنه، وظاهره وباطنه.
وإن نعمة القوت تحتاج الى السعي في طلب الحلال، مع الحرص على الكسب الطيب، ومع الرضا والقناعة بما قسم الله، وليس معنى: الرضا والقناعة؛ أن لا تسعى في طلب الأكثر، وإنما المقصود أن ترضى بما قسم الله لك، فلا تكرهه، ولا تتسخطه، فما أتاك الله فهو خير كثير، ألوف من البشر يتمنى بعض ما أنت تحتقره وتزدريه.
ومن أراد راحة البال، والسعادة في الحال والمآل، فلينظر في أمور الدنيا، من مال وأمن وصحة، إلى من هو دونه، حتى يعرف قدر نعمة الله عليه، ولينظر إلى من هو فوقه في الأخلاق والعلم والعبادة، حتى يعرف قدر تقصيره، فيسعى إلى تكميل نفسه، وبذلك يجتمع له خيري الدنيا والآخرة.