الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الحياءُ من الحياةِ، ومنه الحَيَا للمَطَرِ وعلى حسب حياةِ القلب يكونُ فيه قوةُ خُلُقِ الحياء، وقلةُ الحياء من موت القلب والروح، فكُلَّما كانَ القلبُ أَحْيىَ كانَ الحياءُ أتمَّ. فحقيقةُ الحياء: أنه خُلُقٌ يبعث على تركِ القبائح، ويمنَعُ من التفريط في حقِّ صاحب الحق. والحياءُ يكونُ بينَ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ذي الفضل والإِحسان جَعَلَ الحياء شعبةً من شعب الإِيمان، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريكَ له (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29].
وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى جميع الثقلين الإِنس والجان، صَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نَشَرُوا دينه في جميع الأوطان، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيُّها الناسُ: اتقوا الله -تعالى-، واستحيُوا منه حقَّ الحياءِ، واعلمُوا أنه رقيبٌ عليكم أينَما كنتُم يسمَعُ ويرى، فلا تبارزوه بالمعاصي، وتَظُنُّوا أنكم تَخْفَوْنَ عليه، فإنَّه يسمَعُ السرَّ والنجوى.
عبادَ الله: إنَّ الحياء خصلَةٌ حميدةٌ، تكُفُّ صاحبَها عمَّا لا يليقُ، وقد قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إن الحياءَ لا يأتي إلا بخيرٍ".
وأخبرَ أنه شعبةٌ من شعب الإِيمان؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "الإيمانُ بضعٌ وسبعون شعبةً أو بضع وستون شعبة، فأفضلُها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإِيمان".
وقد مرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- برجلٍ وهو يَعِظُ أخاه في الحياء، أي: يلومه عليه، فقال: "دَعْه فإنَّ الحياءَ من الإِيمان".
دَلَّت هذه الأحاديثُ على أنَّ الحياءَ خُلُقٌ فاضل.
قال الإِمامُ ابن القيم -رحمه الله-: والحياءُ من الحياةِ، ومنه الحَيَا للمَطَرِ وعلى حسب حياةِ القلب يكونُ فيه قوةُ خُلُقِ الحياء، وقلةُ الحياء من موت القلب والروح، فكُلَّما كانَ القلبُ أَحْيىَ كانَ الحياءُ أتمَّ.
فحقيقةُ الحياء: أنه خُلُقٌ يبعث على تركِ القبائح، ويمنَعُ من التفريط في حقِّ صاحب الحق.
والحياءُ يكونُ بينَ العبد وبين ربِّه -عز وجل-، فيستحي العبدُ من ربِّه أن يراهُ على معصيتِه ومخالفته، ويكون بين العبد وبين الناس.
فالحياءُ الذي بينَ العبد وربه، قد بيَّنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جاء في "سنن الترمذي" مرفوعاً: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "استحيُوا مِنَ الله حقَّ الحياء" قالوا: إنَّا نَسْتَحْيِي يا رسولَ الله؟ قال: "ليسَ ذلكم، ولكن مَنْ استحيى مِنَ الله حقَّ الحياء؛ فليحفَظُ الرأسَ، وما وعى، وليحفَظِ البطنَ وما حَوَى، وليذكُرِ الموتَ والبِلَى، ومَنْ أرادَ الآخرة تركَ زينةَ الدنيا، فمَنْ فَعَلَ ذلك فقد استحَيى مِنَ الله حقَّ الحياء".
فقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: علاماتِ الحياء من الله -عز وجل-: أنَّها تكونُ بحفظ الجوارح عن معاصي الله، وبتذكر الموت، وتقصير الأمل في الدنيا.
وقد جاء في الحديث الآخر: "أنَّ من استحيَى مِنَ الله استحيى الله -تعالى- منه".
وحياءُ الربِّ من عبده، حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجُودٍ وجلال، فإنَّه تبارك وتعالى حَيِيٌّ كريم، يستحيي من عبدِه إذا رَفَعَ إليه يديه أن يردَّهما صِفْرا، ويستحيي أن يعذِّبَ ذا شيبةٍ شابَتْ في الإِسلام.
وأما الحياءُ الذي بين العبد وبين الناس، فهو الذي يكُفُّ العبدُ عن فعل مالا يليقُ به، فيكره أن يطَّلِعَ الناسُ منه على عيبٍ ومذمة، فيكُفُّه الحياءُ عن ارتكابِ القبائح، ودناءة الأخلاق، فالذي يستحيي من الله يجتنبُ ما نهاهُ عنه في كل حالاته في حال حضوره مع الناس، وفي حال غيبته عنهم.
وهذا حياءُ العبودية والخوف والخشية من الله -عز وجل- وهو الحياءُ المكتَسَبُ من معرفةِ الله، ومعرفةِ عظمته، وقربِه من عباده وإطلاعه عليهم، وعلمِه بخائنةِ الأعين وما تُخفي الصدورُ.
وهذا الحياء من أعلى خِصَالِ الإِيمان، بل هو من أعلى درجات الإِحسان؛ كما في الحديث: "الإِحسان أن تعبُدَ الله كأنَّكَ تراه، فإنْ لم تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ".
والذي يستحي من الناس لا بُدَّ أن يكون مبتعداً عما يُذَمُّ من قبيح الخصال، وسيِّئ الأعمال والأقوال، فلا يكونُ سبّاباً، ولا نمَّاماً ومُغتاباً، ولا يكون فاحشاً ولا مُتَفَحِّشاً، ولا يجاهرُ بمعصيةٍ، ولا يتظاهرُ بقبيحٍ، حياؤه من الله يمنَعُه من فسادِ الباطن، وحياؤُه من الناس يمنَعُه من فسادِ الظاهر، فيكونُ صالحاً في باطنه وظاهره، في سرِّه وعلانيته، فلهذا صار الحياءُ من الإِيمان.
ومَنْ سُلِبَ الحياءَ، لم يبقَ له ما يمنَعُه من ارتكابِ القبيح والأخلاق الدنيئة، وصار كأنه لا إيمانَ له، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مما أدركَ الناس من كلامِ النبوة الأولى: إذا لم تستَحِ فاصنعْ ما شئتَ" [رواه البخاري].
ومعناه: إنَّ مَنْ لم يستحِ صَنَعَ ما شاء من القبائحِ والنقائص، فإنَّ المانِعَ له من ذلك هو الحياءُ وهو غير موجود، ومَنْ لم يكن له حياءٌ انهمك في كل فحشاء ومنكر؛ فعن سلمانَ الفارسي -رضي الله عنه- قال: "إنَّ الله إذا أرادَ بعبده هلاكاً نَزَعَ منه الحياءَ، فإذا نَزَعَ منه الحياء لم تلقَه إلا مقيتاً مُمَقَّتاً، فإذا كان مقيتاً ممقَّتاً نَزَعَ منه الأمانة، فلم تلقَهُ إلاَّ خائناً مُخَوَّناً، فإذا كانَ خائناً مُخَوَّناً نزع منه الرحمةَ، فلم تلقَه إلاَّ فَظّا غَليظاً، فإذا كان فَظّاً غليظاً نَزَعَ رِبْقَةَ الإِيمان من عنقه، فإذا نَزَعَ رِبْقةَ الإِيمان من عُنقِه، لم تلقَه إلا شيطاناً لَعينا ملعَّنا".
وعن ابنِ عباس قال: "الحياءُ والإِيمان في قرنٍ، فإذا نزع الحياء تَبِعَه الآخرُ".
وقد دل الحديثُ وهذان الأثران على أنَّ مَنْ فَقَدَ الحياء لم يبقَ ما يمنعه من فعل القبائح، فلا يتورعُ عن الحرام، ولا يخافُ من الآثام، ولا يكُفُّ لسانَهُ عن قبيحِ الكلام، ولهذا لمَّا قَلَّ الحياءُ في هذا الزمان أو انعدمَ عند بعضِ الناس، كَثُرت المنكراتُ وظَهَرَتِ العوراتُ، وجاهَرُوا بالفضائح، واستحسنوا القبائحَ، وقَلَّت الغَيْرةُ على المحارمِ أو انعدمت عند كثيرٍ من الناس، بل صارت القبائحُ والرذائل عند بعض الناس فضائلَ، وافتخروا بها.
فمنهم المطرب والملحن والمغني الماجنُ، ومنهم اللاعبُ التاعب الذي أَنهكَ جسمه، وضيَّعَ وقته، في أنواع اللعب، وفنونِ الرياضة التافهة، كاشفاً لعورتِهِ أمامَ الناس إلا سترةً يسيرةً يضعُها على عورته المُغَلَّظة.
وأقلُّ حياءً وأشدُّ تفاهةً، من هؤلاء المغنين واللاعبين مَنْ يستمع لغوهَم، أو ينظرُ ألعابَهم، ويضيِّع كثيراً من أوقاته في ذلك.
ومن قلةِ الحياءِ وضَعْفِ الغَيرة في قلوب بعض الرجال: استقدامُهم النساء الأجنبياتِ السَّافرات أو الكافرات، وخلطُهم لَهُنَّ مع عوائِلهم داخلَ بيوتهم، وجعلُهُنَّ يزاولْنَ الأعمالَ بينَ الرجال، وربَّما يستقبلْنَ الزائرينَ ويَقُمْنَ بصَبِّ القهوة للرجال، فأينَ الغَيرةُ؟ وأين الحياءُ؟ وأينَ الشهامةُ والرجولة؟
ومن ذهابِ الحياء في النساء اليومَ: ما ظهر في الكثير منهن من عدم التستر والحجاب والخروج إلى الأسواق مُتطيباتٍ مُتَجمَّلاتٍ لابساتٍ لأنواعِ الحلي والزينة لا يُبالين بنظرِ الرجال إليهن، بل رُبَّما يفتخرْنَ بذلك، ومنهن مَنْ تُغطي وجهَها في الشارع وإذا دَخَلتِ المعرضَ كَشَفَتْ عن وجهِها وذراعَيْها عند صاحبِ المعرض ومازحَتْهُ بالكلامِ وخَضَعَت له بالقولِ، لِتُطمعَ الذي في قلبه مرضٌ.
ومن ذهابِ الحياء من بعضِ الرجال أو النساء: شَغَفُهم باستماعِ الأغاني والمزامير من الإِذاعات، ومن أشرطةِ التسجيل، حتى إنهم يطلبون من الإِذاعات إعادةَ بثِّ هذه الأغاني ويَهْدُونَها إلى أقاربهم وأصحابهم.
وأين الحياءُ ممَّن يشتري الأفلامَ الخليعةَ، ويعرضُها في بيته أمامَ نسائه وأولاده بما فيها من مناظرِ الفجور، وقتل الأخلاق، وإثارة الشهوة، والدعوة إلى الفَحشاء والمنكر؟
أينَ الحياءُ ممَّن ضَيَّعُوا أولادَهم في الشوارع يخالطون من شاؤوا، ويصاحبون ما هَبَّ ودَبَّ، مِنْ ذَوي الأخلاق السيِّئة، أو يضايقون الناسَ في طُرُقاتهم، ويقفون بسياراتِهم في وسط الشارع، حتى يمنَعُوا المارة، أو يُهدِّدون حياتهم بالعبثِ بالسيارات، وبما يُسمونه بالتفحيط؟
أين الحياءُ من المدخِّن الذي ينفث الدخان الخبيث مِنْ فمِه في وجوهِ جلسائه ومَنْ حولَه، فيخنُقُ أنفاسَهم ويقزِّزُ نفوسهَم، ويملأُ مشامَّهم من نَتْنِه ورائحته الكريهة؟
أينَ الحياءُ من الموظَّفِ الذي يستهترُ بالمسؤولية، ويُتعبُ المراجعين بحبس معاملاتهم.
أينَ الحياءُ من التاجر الذي يخدَعُ الزبائن، ويغُشُّ السلعَ ويكذبُ على الناس؟
إنَّ الذي حمل هؤلاء على النزول إلى هذه المستويات الهابطة، هو ذهابُ الحياء، كما قالَ صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئتَ".
فاتَّقُوا الله -عبادَ الله- وراقبُوا الله في تصرُّفاتكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:12 - 14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي يمن على مَنْ يشاءُ من عبادِه بالفضل العظيم.
وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم، وأشهَدُ أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالدين القويم، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيُّها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلَمُوا: أَنَّ الحياءَ الممدوحَ، هو الحياء الذي يكُفُّ صاحبَهُ عن مساوئ الأخلاق، ويحملُه على فعلِ ما يُجَمِّلُه ويُزَيِّنُه.
أما الحياءُ الذي يمنَعُ صاحبه من السعي فيما ينفَعُه في دينه ودنياه، فإنه حياءٌ مذموم، وهو ضعفٌ وخَوَرٌ وعَجْزٌ ومهانة، فلا يستحي المؤمنُ أن يقولَ كلمةَ الحق، وأن يأمُرَ بالمعروف وينهَى عن المُنْكَرِ، ولا يستحي المؤمنُ أن يسألَ عن أمورِ دينه، فإنَّ الحياءَ الذي يمنَعُ من فعلِ الخير أو قول الحق إنَّما هو تخذيلٌ من الشيطان.
فاتَّقُوا الله -عبادَ الله- واعلموا أنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله ... إلخ.