الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
وينبغي التذكير بأنه ليس ثمة أسباب شرعية من الطاعات والعبادات لتحصيل المكسب الدنيوي، فتكون منفردة بالتأثير فيه من غير الإتيان بالأسباب الكونية، فلو قضى المسلم مثلاً ليله بالقيام ونهاره بالصيام، وكان يدعو لنفسه بالتوفيق والنجاح دون أن يسلك الأسباب الكونية كالدراسة والمذاكرة التي تحصلها بعد الله بالنجاح في دراسته؛ فإنه لن ينجح أبداً بمجرد الدعاء والعبادة، وليس بر الوالدين أيضًا سببًا للنجاح مستقلاً بذاته دون الأسباب الكونية...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وردت كلمة سبب في القرآن الكريم في تسعة مواضع بجذورها، والسبب في اللغة: الحبل، وقيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب، يقول سبحانه (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف:84- 85]، أي: أتاه الله -تعالى- من كل شيء معرفة وذريعة يتوصل بها فاتبع واحدًا من تلك الأسباب، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- "والقرآن الكريم مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب والعقاب على الأسباب بطرق متنوعة فيأتي بباء السببية تارة كقوله -تعالى-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24]، باء السببية، بسبب ما أسلفتم في الأيام الخالية.
ويأتي باللام تارة كقوله -تعالى- (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) أي: لكي تخرج الناس (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [إبراهيم: 1].
ويأتي بذكر الوصف المقتضي للحكم تارة والشرط المترتب على حصول المشروط كقوله -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) [الطلاق:2]، أو قوله سبحانه (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً).
فمن سنن الله الكونية والشرعية ربط المسببات بأسبابها والله -تعالى- أولاً وأخيرًا خالق الأسباب والمسببات، والقرآن الكريم يرشدنا إلى سنن الله في الأسباب ومسبباتها حتى نفقه السنن، ونسير على هداها؛ فالله -تعالى- جعل أسبابًا للمسببات في أصل الخلقة والنشأة والتكوين، وهذه هي الأسباب الكونية، وهي أسباب عامة يترتب عليها ما اختاره الإنسان، فمنها ما هو حلال، ومنها ما هو حرام في الشرع؛ لأنها لا تختص بالمسلمين بل بعموم الخلق.
وهي وإن كان الله -تعالى- قد جعلها أسبابًا؛ فإنها بخلق الله -تعالى- وتدبيره وتصريفه؛ فإن شاء –سبحانه- أمضاها على ما خلقها له، ووضع فيها آثارها، وإن شاء عطلها عن ذلك، بل لو شاء جعلها بضدّ ما خُلقت له (لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) سبحانه ولا راد لقضائه.
قال ابن القيم -رحمه الله- في تصنيفه في مواقف بعض الناس من أسباب القوة المؤثرة في الأحداث قال في أصحاب المنهج السليم: "ومنهم مَن أثبتها –أي الأسباب- خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً، وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به؛ من كونها تحت تدبيره ومشيئته وهي -أي الأسباب، سواء كانت أسباب الشفاء من الأدوية، أو ما شابهها، أو أسباب الرزق من الحذق والدراية في السوق وما شابهها من أسباب-...
قال: "هي طوع المشيئة والإرادة، ومحل جريان حكمه عليها، فيقوي –سبحانه- إن شاء بعضها ببعض، ويبطل إن شاء بعضها ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته، ويعريها منها ويمنعه من موجبها، مع بقائها عليه؛ ليعلم خلقُه أنه الفعَّال لما يريد، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته -جل وعلا-، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت مع كونه سبباً".
ونزيد في ضرب المثال ليتضح المقال، مثلا جعل الله -تعالى- الدراسة وقوة التحصيل والحفظ والفهم سبب للنجاح في الدراسة؛ يشترك في هذا المسلم والكافر، كما هو مشاهد ومعلوم، ولكن مِن الطلاب مَن يستعمل الغشّ في الامتحانات ليحصل النجاح، فيكون قد سلك سببًا كونيًّا، لكنه محرّم، ومنهم مَن يستعمل الواسطة لأجل ذلك وهو محرم أيضًا، ومع ذلك نقول فيمن سلك السبب المباح هل كل من ذاكر ودرس دراسة وافية يعني ذلك أنه ناجح لا محالة وبشكل قطعي يقيني؟!
الجواب: بالطبع لا؛ لأن الله -تعالى- هو مالك الأسباب ومسبباتها، وقد يضعف -تعالى- لحكمة بالغة تلك الأسباب التي هي المذاكرة والحفظ والفهم قد يضعفه عند الامتحان فلا ينجح ذلك الطالب نجاحًا مبهرًا، بل قد يعطّل الله -تعالى- ذلك كله حتى لا ينجح مطلقًا، وكله راجع لحكمته -جل وعلا-.
فقد يكون من أسباب إضعاف الله -تعالى- لتلك الأسباب وتعطيلها معصية عظيمة فعلها ذلك الطالب؛ كسبّ الله -تعالى- مثلاً، أو سبّ الدين، أو ضرب أمه أو إهانة والده، وقد يكون بارًّا بهما، لكن تكون الحكمة من ذلك حفظ دين الطالب من الفتنة وحفظ نفسه من العُجب لو أنه نجح نجاحًا كبيرًا.
وكما جاء في حديث عقبة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ الْمَاءَ لِيُشْفَى" وقال الهيثمي: صحيح.
والإنسان قد يفهم الحكمة وقد تخفى عليه تماما وتبقى حكمة الله -تعالى- المصاحبة لعلمه وعدله فوق كل حكمة.
معاشر الأخوة : ما تقدم يتعلق بالأسباب الكونية التي يشترك فيها جميع البشر فماذا عن الأسباب الشرعية؟
إنها كل ما جعل الله -تعالى- أسبابًا لوقوع مسببات بنصوص الشرع، كما جاء في النص الشرعي أنه -تعالى- جعل الرقية والعسل والحبة السوداء علاجًا للأمراض، وكما جعل التقوى وصلة الرحم بنص الكتاب والسنة مصادر للرزق، وهذه الأسباب خاصة بالمسلمين دون غيرهم، وهي أيضًا ممكنة الإضعاف والتعطيل لحكم جليلة كذلك.
وينبغي التذكير بأنه ليس ثمة أسباب شرعية من الطاعات والعبادات لتحصيل المكسب الدنيوي، فتكون منفردة بالتأثير فيه من غير الإتيان بالأسباب الكونية، فلو قضى المسلم مثلاً ليله بالقيام ونهاره بالصيام، وكان يدعو لنفسه بالتوفيق والنجاح دون أن يسلك الأسباب الكونية كالدراسة والمذاكرة التي تحصلها بعد الله بالنجاح في دراسته؛ فإنه لن ينجح أبداً بمجرد الدعاء والعبادة.
وليس بر الوالدين أيضًا سببًا للنجاح مستقلاً بذاته دون الأسباب الكونية، لقد علمنا الله -تبارك وتعالى- أنه مالك الملك، مالك السماوات والأرض قيوم السماوات والأرض بيده ملكوت كل شيء، الأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن له جنود السماوات والأرض، وعنده خزائن السماوات والأرض؛ فهو المستحق أن يُعبَد وأن يُتقَّى، وأن يستسلم له وأن يتوكل عليه وأن يسأل وحده -تبارك وتعالى- لأنه المالك لذلك كله.
بل حتى أثناء اتخاذك الأسباب المادية من سعي في الأرض وارتزاق تطلب من الله -تبارك وتعالى- طعامك وشرابك وتقول بعدما تفرغ من طعامك كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا فرغ من طعامه "اللهم أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت".
فالعطاء منه -جل وعلا- تدعوه كذلك أن يعينك فيما يواجهك من مشكلات؛ ذاك أمر لا بد منه، وأيضًا تطلب منه هدايتك وتوفيقك لما يحبه ويرضاه -تعالى- من الأقوال والأعمال كما في حديث الاستفتاح فيما رواه جابر، قال -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول في ذلك دعاء الاستفتاح: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق وأحسن الأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء الأخلاق والأعمال لا يقي سيئها إلا أنت".
وكما كان توكل الأنبياء والرسل على ربهم وهم يواجهون أقوامهم، وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام في صراعهم مع عدوهم كانوا يؤمنون بألا ملجأ من الله إلا إليه، ولا توكل لهم إلا عليه، لكنهم لم يكونوا يفعلون كما فعل بعض المتأخرين عندما وصلت جيوش نابليون إلى مصر اجتمع علماء الأزهر في ذلك الوقت في المسجد يقرءون صحيح البخاري وصحيح مسلم لعل ذلك يدفع الجنود الفرنسيين عن بلاد الإسلام.
لا، ما هكذا تتخذ الأسباب..
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته أعدوا العدة من مئونة وسلاح وتمركزوا تمركزًا حربيًّا، لكن قلوبهم لم تعتمد على عدتهم ولا حنكتهم في الحرب، وإنما اعتمدت قلوبهم على الله القوي العزيز، ولما سمعوا أن المشركين قد يعودون إليهم بعد غزوة أحد المؤلمة ليستأصلوهم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بالمسلمين جرحى متعبين، خرجوا إلى حمراء الأسد على بُعد سبعين كيلو مترًا من المدينة، وعندما مرَّ بهم قوم قد لقَّنهم أبو سفيان أن يقولوا للمسلمين: إن أبا سفيان وقومه عائدون إليكم ليستأصلوا شأفتكم، وليزيلوكم من الوجود، قالوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
كما في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم خليل الرحمن عندما أُلقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173] امتثالاً لقوله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64] أي: أن الله -تبارك وتعالى- كافيك وكافي مَن اتبعك مِن المؤمنين، فهو حسبكم وكافيكم كلكم (حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم-بذل الأسباب الكونية أيضًا، فأخذ هو وأصحابه ما يستطيعون من قوة وأسباب، واعتمدوا على رب الأسباب، اعتمدوا على الله -تبارك وتعالى-، وعندما أقبل المشركون لقتالهم في المدينة لم يجلس -صلى الله عليه وسلم- في بيته ليقرأ القرآن أو في المسجد ليعظ الناس مكتفيًا بذلك، وإنما كان البعض يجمعهم ويحثهم على أن ينفقوا في سبيل الله فيشتري بالمال السلاح وآلات الحرب ويشتري الخيل والجمال وينظم صفوفه ويخرج للعدو متخذًا ما أمره الله -تعالى- أن يتخذه من أسباب مادية كونية كما في قوله -تعالى-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60].
بل خرج يوم أحد -صلى الله عليه وسلم- وقد لبس درعين الواحد فوق الآخر، وكان بالرغم من ذلك سيد المتوكلين -صلوات الله وسلامه عليه-؛ لأن قلبه بالرغم من العتاد والدروع كان معلقًا بخالق الأسباب.
وقسْ -أخي المسلم- حياتك على هذا الأساس، فحتى في طلب العلم الشرعي مجرد الدعاء لا يكسب المرء علومًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قطع ذلك الأمر بقوله: "إنما العلم بالتعلم" (رواه الطبراني وحسنه ابن حجر).
ولكن لا ننسى أن من سلك سبيل العلم، ويحتاج للتأييد والتثبيت، وهو ما تأتي به التقوى، ويأتي به الدعاء وباقي الطاعات؛ فإننا عندما نرى أوضاع الأمة اليوم، ونتعجب لا بد بعد التعجب أن نفتح باب الأسباب، وننظر من خلال ذلك الباب لماذا يا ترى سارت أحوال الأمة في الحضيض؟
ولعلنا نفرد لذلك مقامًا خاصًّا إن شاء الله ..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ..