البحث

عبارات مقترحة:

الرزاق

كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

آداب الكرم والضيافة

العربية

المؤلف عبد العزيز بن محمد القنام
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. تعريف الكرم وفضله .
  2. مقارنة بين الكرماء قبل الإسلام وبعد الإسلام .
  3. آداب الكرم .
  4. حث الإسلام على حسن الضيافة .
  5. آداب حسن الضيافة .
  6. من أنواع الكرم وأصناف المكرمين .
  7. من الدواعي التي تحفز إلى الكرم .

اقتباس

ومن هنا يختلف مفهوم الكرم في الإسلام عنه في الجاهلية؛ فالمسلم حينما يبذل ماله لا ينظر إلى ثناء الناس، ولا يبغي الشهرة وذيوع الصيت، وإنما يصرف نيته إلى الله، فيجعل غايته ..

الحمد لله الكريم المنان، جليل النعم جزيل الإحسان، ذي الفضل العظيم، والخير العميم، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأومن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران:92]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه ومصطفاه وحبيبه، كان الكرم من سجاياه الحميدة، وبسط اليدين بالسخاء من صفاته الملازمة العظيمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: فتقوى الله -عباد الله- ملاك كل خير، وهي الزاد لمن جد به إلى الآخرة السير؛ (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)، (ولباس التقوى ذلك خير).

عباد الله: الكرم ضد البخل، وهو: بذل المال أو الطعام أو أي نفع مشروع عن طيب نفس، وهو من أشرف السجايا، وأعز الخصال، وأخلد المآثر. قال الجيلاني -رحمه الله-: "فتشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أود لو كانت الدنيا بيدي فأطعمها الجياع".

ناهيك في فضله أن كل نفيس جليل يوصف بالكرم، ويعزى إليه؛ فالكريم اسم من أسمائه تعالى، وصفة من صفاته عز وجل، إذا عُصي غفر، وإذا اطلع أمهل وستر، وإذا وعد وفى. لا يضيع من لجأ إليه، ولا يثلم من توكل عليه. يداه مبسوطتان بالخيرات، وله خزائن الأرض والسماوات. لا ينازع في قسمة رزقه، ولا يراجع في تدبير خلقه؛ فهو الكريم بالإطلاق: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)، وكتابه كريم: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كريم: (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)، والجنة رزقها كريم: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 4].

وكما أنه الكريم، فقد حث عباده على الكرم وبذل المال ابتغاء وجهه، ونهاهم عن الشح والبخل، ووعد المنفقين بالخلف؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: أَنفق أُنفق عليك". رواه البخاري ومسلم.

الكرم والجود من مكارم الأخلاق، ومن أفضل الصفات على الإطلاق، أوصى الله بها نبيه العظيم، وحثنا عليها في كتابه الكريم، وجعلها من دلائل الإيمان، وشرّفها بالذكر في القرآن، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 254].

والكرم من الأخلاق العريقة، والقيم النبيلة، عرفها منذ الأزل أصحاب النفوس العظيمة في تعاملاتهم، وجعلوها دليل الرفعة والفخار؛ لما فيها من الإيثار، وعلو الهمم والأقدار؛ سئل أحدهم عن الكرم فقال: "هو التبرع بالمعروف قبل السؤال، والرأفة بالسائل مع البذل"، قال أحد الحكماء: "أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروعه".

الكرم من أنبل صفات العرب قبل الإسلام، وقد ظهر منهم في كل عصر ومصر أقطاب اشتهرت بالكرم ورويت عنهم مواقف عظيمة في الجود والسخاء، أبرزهم وأشهرهم حاتم الطائي الذي كان مضرب المثل فيهم بالكرم؛ ومما يؤثر عنه في ذلك ما ذكره التنوخي في المستجاد قال: إن رجلاً سأل حاتمًا الطائي فقال: "يا حاتم: هل غلبك أحد في الكرم؟! قال: نعم، غلام يتيم، وذلك أني نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس فذبحه وأصلح لحمه وقدمه إليّ، وكان فيما قدم الدماغ، فقلت: طيب والله، فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأسًا بعد رأس ويقدم الدماغ وأنا لا أعلم، فلما رجعت لأرحل نظرت حول بيته دمًا عظيمًا، فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها، فقلت له: لم فعلت ذلك؟! قال: سبحان الله!! تستطيب شيئًا أملكه وأبخل عليك به!! إن ذلك لسبة على العرب قبيحة، فقيل: يا حاتم: فبماذا عوضته؟! قال بثلاثمائة ناقة حمراء، وبخمسمائة رأس من الغنم، فقيل: أنت أكرم منه، قال: هيهات، بل هو -والله- أكرم؛ لأنه جاد بكل ما ملك، وأنا جدت بقليل من كثير".

وحينما جاء الإسلام أضفى على الكرم معايير جديدة، ووجهه نحو مقاصد سامية رشيدة، فاتجه به إلى القيم الروحية، والمعاني الدينية، فلم يعد الباذل يرجو الفخر والثناء من الورى، وإنما غايته الثواب والجزاء في العقبى، ربط فعلها بمرضاة الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان: 8-9].

وقال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:265]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا". رواه الشيخان. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها".

أيها المسلمون: للكرم في ظل الإسلام آداب وسلوكيات، يجب على المنفق أن يتحلى بها، ويتمسك بها كل باذل جواد، وهذه الآداب هي التي تحدد نظرة الإسلام للكرم، فيسود الحب والوئام، ويعم الخير وينتشر السلام، وتختفي مظاهر الأثرة والأنانية، وتزول من النفوس الأحقاد والكراهية، ويتلاشى الحسد والشقاق، ويحل محله الود والوفاق.

ومن الآداب التي حثّ الإسلام عليها، وأمر المسلمين أن يتصفوا بها: الإنفاق من طيب المال، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة:267]

وروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه -وهو ابن الناقة الصغير- حتى تكون مثل الجبل"

فالباذل أو المعطي إنما يعمد إلى طيب ماله وأجوده، يمنح إخوانه المعسرين، فيعطي الفقراء والمحتاجين، ويمنح المعوزين المساكين، من فضل الله رب العالمين.

أيها المسلمون: لقد حث الإسلام على المبادرة بالعطاء، وتعجيل الإنفاق، وأوجب على المعطي أن يبادر السائل بالبذل؛ فقد روي عن جابر -رضي الله عنه- قال: "ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فقال: لا".

فالتؤدة محمودة في كل شيء إلا في اصطناع المعروف؛ فإن التؤدة فيه تنقيص له، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لكل شيء شرف، وشرف المعروف تعجيله"، فطلاقة الوجه وطيب اللقاء يملأ نفس المعطي رحمة، ويملأ نفس المتلقي بشرًا وأمنًا؛ فالموسرون لا يسعون الناس بأموالهم، ولكن يسعهم منهم بسط الوجه وحسن الخلق، وقد جاء في الحديث: "تبسمك في وجه أخيك صدقة".

وقد حرص الإسلام على مكارم الأخلاق، وسعى إلى تأكيد القيم والمثل العليا في المجتمع؛ فدعا المنفق إلى الزهد فيما بين يديه، وحثه على الإنفاق بما لديه؛ لأنه يفنى وينفد والرغبة فيما عند الله أبقى وأخلد، ولأنه سبحانه باق خالد لا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فلا يجد المنفق حرجًا فيما يبذله، ولا يشعر بضيق فيما ينفقه قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:96]

فإذا فطن المسلم إلى هذه الحقيقة فإنه ينصرف عن الطمع في الدنيا، ويزهد فيما فيها، ويتعلق بالآخرة ويطلب ثوابها وخيرها، فيتضاءل عنده الكثير، فلا يأسى على ما بذل، ولا يفرح بما حصل وكسب، فينفق بسخاوة نفس، وطيب سريرة، وطلاقة وجه.

أيها المسلمون: إن نقاء الجوهر وعلو الهمة يرفع منزلة صاحبه ويعلي شأنه، إذا ما أدرك القيمة الحقيقية من وراء ذلك، بأن يوجه همته وإمكاناته إلى الغاية النبيلة، والمقاصد الشريفة التي تهدف إلى خير الإنسان وسعادة البشرية، وهي تلك الأهداف التي عُني الإسلام بتحقيقها، وصرف الهمة إليها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وكل من تعلق بشيء من هذه الخلال، وتخلق بطرف من تلك الخصال وصف بقدر ما بلغ ونال، وقد وصف الله سبحانه أنبياءه بالكرم فقال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) [الدخان:17].

وكان -صلى الله عليه وسلم- أعظم الناس في إكرام الضيف على الإطلاق، وقد وصفه الله بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة:40]، وقد وصفته خديجة بمثل ذلك قبل الرسالة؛ فلما دخل عليها فزعًا مما لقي في الغار بعد نزول سورة "اقرأ" قال: "زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: "أي خديجة: ما لي؟! لقد خشيت على نفسي"، وأخبرها الخبر فقالت له:" كلا. أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف". رواه البخاري.

وضرب الصحابة أروع الأمثلة في إكرام الضيف؛ نسوق مثالاً واحدًا ذكره أبو هريرة فقال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فإذا هو بـأبي بكر وعمر، فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟!"، قالا: الجوع يا رسول الله! قال: "وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما"، قال: "قوموا"، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأتهم المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أين فلان؟!" قالت: ذهب يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه فقال: الحمد لله؛ ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني. فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بسر وتمر ورطب حتى ينتقي الضيف ما يشاء، فقال: كلوا من هذه حتى يسكن الجوع، ريثما تذبح الذبيحة وتطبخ، وأخذ المدية فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إياك والحلوب"، أي لا تذبح ذات ضرع ترضع أولادها وتنتفعون من حليبها ولبنها. فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم". رواه مسلم.

وأول من ضيّف الضيفان ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مالك والبيهقي بسند حسن عن سعيد بن المسيب أنه قال: "كان إبراهيم -عليه السلام- أول الناس ضيَّف الضيف". يعني أول من سن سنة الضيافة. وقد أثنى الله تعالى عليه في كتابه العزيز في إكرام ضيفه من الملائكة حيث يقول سبحانه: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) [الذريات: 24- 27].

ومن ضروب الكرم الإيثار، وهو صفة المتقين الأخيار، والمؤمنين الأطهار، وهو أعلى مراتب الكرم، يقول الله سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

أيها المسلمون: لقد عظّم الإسلام الكرم والجود، وأبغض كل بخيل شحيح كنود، وغرس حب البذل في نفوس أتباعه؛ لما فيه من خير وفضل، فهو يصون وجه المحتاج عن المسألة، ويحفظ من مذلة الحاجة، وينأى به أن يريق ماء وجهه في طلب المسألة، ومن الناس أعطوه أو منعوه، تجملوا معه أو سخروا منه، رقوا لحاله أو جفوه واستغلظوا له، فقدر المسلمون قيمة العطاء؛ طمعًا في الثواب من رب الأرض والسماء، فحرصوا على التنافس فيه، والتسابق إليه، وبهذه الروح تفهم المسلمون القيمة الحقيقية للثروة والمال، قيل: "ما جمعت من المال فوق قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك". ويروى أن عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنه- كان ينفق على أربعين دارًا من جيرانه عن يمينه، وأربعين عن يساره، وأربعين أمامه، وأربعين خلفه، ويبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد.

أيها المسلمون: حثَّ الإسلامُ على حسن الضيافة، وإكرام الضيف؛ لما فيه من بذل للمودة، وإظهار الحب، وتقوية للروابط بين المسلمين، وتدعيم لأواصر المحبة في القلوب، فجعل إكرام الضيف من دلائل الإيمان؛ روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما زاد بعد ذلك فهو صدقة".

ومن أدب الضيافة: الصدق في البذل، وعدم الرياء، ومجانبة المن والأذى، والإخلاص لله، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:262]

ولقد عُني الإسلام بالجار أشد عناية، واهتم برعايته، ودعا إلى تفقده، وتلمُّس حاجته، والمحافظة عليه وحمايته، وتحقيق الأمن والسعادة له، روي عن أبي شريح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟! قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"

فالاهتمام بالجار يبدأ من الجانب الإنساني والوجداني، وهو الذي يزكي النفوس، ويثير نوازع الرحمة والخير فيها؛ بأن يعين الجار جاره إذا احتاج معونته؛ فلا يؤذيه بمظاهر الثراء والنعيم حتى لا يزيد من آلامه ومعاناته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه"

وكذلك أكد الإسلام رعايته للأرحام، ودعا إلى توثيق صلة الرحم، والاهتمام بذوي القربات والإحسان إليهم؛ فالمسلم يثاب بالإنفاق على أهله وذوي قرابته، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة".

وقد حث القرآن الكريم على الإحسان إلى ذوي القربى، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]

وأوصى ذوي الفضل من المؤمنين بتفقدهم ورعايتهم قال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22].

فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن سعادة المجتمع وأمنه رهين بمبدأ التكافل؛ فاسعوا إلى الإنفاق والبذل والعطاء، وتلمسوا حاجة إخوانكم فاقضوها حتى تسود روابط المحبة والإخاء يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10]

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكريم ذي المن والعطاء، والعز والعظمة والكبرياء، أحمده تعالى وأشكره على جزيل الآلاء وترادف النعماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أنداد ولا شركاء، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أفضل الرسل وخاتم الأنبياء، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه الحنفاء، ومن سار على منهجهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله -جل وعلا-؛ فإنها العدة في الشدة والرخاء، والذخيرة في السراء والضراء.

أيها المسلمون: إن للكرم دواعي تدعو إليه، وأسبابًا تحث عليه، وتدفع المرء إلى الجد في طلبه، والحرص على تحصيله، ولذا فقد قرر القرآن الكريم أن المال مال الله، وأن الناس مستخلفون فيه، ينفقون منه، ويتمتعون به، يقول الله سبحانه: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور: 33]

ومن هنا يختلف مفهوم الكرم في الإسلام عنه في الجاهلية؛ فالمسلم حينما يبذل ماله لا ينظر إلى ثناء الناس، ولا يبغي الشهرة وذيوع الصيت، وإنما يصرف نيته إلى الله، فيجعل غايته رضاه، وهدفه الفوز بثوابه، وطاعته لربه، وحبه لإخوانه وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"

ودعا الإسلام المسلمين جميعًا إلى بذل المعروف، والحرص على الجود، قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء: 29].

ومن أسبابه: وفرة المال، واتساع الحال؛ فالمعطي يبذل المال عن قدرة ويسر، دون أن يجد في بذله مشقة أو عناءً؛ موقنًا أن هذا عين الوفاء؛ فهو يقدم بعض ماله لمن أعسر واحتاج من إخوانه، يفرج به كربتهم، ويسعف به أزمتهم، ويعالج به حاجتهم، فيحظى بخير الدارين، ويجمع بين المحبتين، محبة الله ومحبة إخوانه، ويفوز بالثواب العظيم يوم القيامة، وهو ما عناه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".

أيها المسلمون: ومن دواعي الكرم الرغبة في الحمد والشكر، ومحبة الثناء وطيب الذكر، فتنفرد إرادته بحب عرض الدنيا، فيتكرم ويسمح ليحمد ويمدح، وهذا الكرم مذموم بعيد عن الدين؛ لما يشوبه من الرياء، ويذهب بمروءة العطاء، وقيمة البذل والسخاء.

وقد حذّر الإسلام المسلمين من الانزلاق إلى مهاوي الرياء؛ لأنها تمحق ثواب الصدقة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) [البقرة: 264].

وقد يكون الداعي إلى الكرم استجلاب منفعة، أو دفع مضرة، فيضطر إلى اصطناع المعروف، رجاء بلوغ بغيته، والوصول إلى أمنيته، وهذا ليس خالصًا لله تعالى يقول سبحانه: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر:11].

فاتقوا الله -عباد الله-، وتأدبوا بأدب الكرم تسعدوا في الدنيا، وتفوزوا في الآخرة.

ألا وصلّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم -جلّ في علاه-، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه. وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداءك وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداءك وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداءك وأعداء المسلمين، اللهم طهّر بلادنا من المجرمين، اللهم طهر بلادنا من أهل الفساد والضلال، اللهم طهر بلاد المسلمين من المجرمين والمفسدين يا ذا الجلال والإكرام.