السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
ومن رأى حال الناس في هذا الزمن مع الأموال وتنميتها، وأعمالهم فيها، وقارنه بضعف سعيهم للآخرة، وتقصيرهم في الأعمال الصالحة - أيقن أن كثيرا من المسلمين قد أخلوا بوصايا نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن ما خافه عليهم وقعوا فيه بسبب الغفلة عن الآخرة، وحب الشهوات العاجلة، مع أن الله تعالى قد كفل لهم أرزاقهم ببذل الأسباب المعتادة بلا مبالغة في الأخذ بها، ولا خوف من الفقر ..
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: فارق النبي صلى الله عليه وسلم أمته يوم فارقها وقد علمهم كل ما يحتاجون إلى معرفته، فأخبرهم بما ينفعهم ليبادروا إليه، وبما يضرهم ليحذروا منه، وأخبرهم بما يكون بين يدي الساعة من الأمور العظام، والحوادث الكبار، وفي هذا يقول أبو ذر رضي الله عنه: "لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما" رواه أحمد.
ومما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعه بين يدي الساعة: كثرة المال في أيدي الناس، وفشو التجارة، وما ينتج عن ذلك من تقارب الأسواق، والتطاول في البنيان، والتفاخر بالأموال؛ ولذلك أمر عليه الصلاة والسلام بالصدقة مادام المتصدق يجد حاجة في الناس قبل أن تسد حاجتهم فلا يجد المتصدق لها موضعا، روى حارثة بن وهب رضي الله عنه فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تصدقوا؛ فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها يقول الرجل: لو جئتَ بها بالأمس لقبلتها فأما اليوم فلا حاجة لي بها" رواه البخاري.
وسبب ذلك فيض المال في أيدي الناس، وهذا يقع قرب الساعة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يُهِمَّ ربَ المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أَرَب لي" متفق عليه.
وأمة العرب كانت في جاهليتها لا تعرف الأموال الطائلة، ولا الحياة الفارهة، ولا المدن العامرة؛ إن هي إلا حياة بسيطة فيها خشونة وشدة، ولما قدم ربعي بن عامر رضي الله عنه على رستم يفاوضه، وأعجب رستم بكلامه، وانتقده قومه على إعجابه به، وقالوا: أما ترى إلى ثيابه؟ قال رستم: ويحكم، لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخف باللباس والمأكل، وتصون الأحساب، ليسوا مثلكم.
فلما جاء الله تعالى بالإسلام بشر النبي صلى الله عليه وسلم أمة العرب باتساع الملك، وكثرة المال، والاستيلاء على ملك ملوك الأرض آنذاك؛ كما روى ثوبان رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض" رواه مسلم؛ قال النووي رحمه الله تعالى: "وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم... والمراد بالكنزين الذهب والفضة، وهما كنزا كسرى وقيصر ملكي العراق الشام".
ومن نتائج هذا الملك العظيم، والأموال المتكاثرة: حصول الأمن والطمأنينة؛ إذ إن الجوع والخوف قرينان، كما أن الشبع والأمن صنوان، والناس يعدو بعضهم على بعض بسبب المال في الغالب؛ ولذا بشر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالأمن مع المال؛ كما روى عدي بن حاتم رضي الله عنه فقال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجلان أحدهما يشكو العيلة والآخر يشكو قطع السبيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير، وأما العيلة؛ فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه" رواه البخاري.
وفي رواية له قال عدي رضي الله عنه: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل فقال: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟" قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها، قال: "فإن طالت بك حياة لترين الظعينة -أي المرأة في الهودج- ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله" قال عدي: قلت -فيما بيني وبين نفسي-: فأين دُعَّار طيئ الذين قد سعروا البلاد -وكانوا قطاع طريق- "ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى" قال عدي: قلت: كسرى بن هرمز؟! قال عليه الصلاة والسلام: "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه ..." قال عدي رضي الله عنه: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم؛ رواه البخاري.
وقد دلت هذه الأحاديث على أحوال ثلاثة تكون في هذه الأمة:
أولها: كثرة المال فقط، وقد كان ذلك في زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ ولذا خاطبهم عليه الصلاة والسلام فقال: يكثر المال فيكم.
ثم يفيض المال من كثرته؛ بحيث يحصل استغناء كل أحد عن أخذ مال غيره، وهي الحال الثانية، وكان ذلك في آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم وأول عصر من بعدهم، وتبلغ الكفاية والقناعة في الناس أن يهتم صاحب الصدقة؛ لعدم وجود من يقبل صدقته؛ وذلك ينطبق على ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. كما روى البيهقي عن عمر بن أسيد رحمه الله تعالى قال: "إنما ولي عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرا، ألا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء؛ فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيه فلا يجده، قد أغنى عمر الناس".
والحالة الثالثة: تقع في آخر الزمان بعد نزول عيسى عليه السلام؛ إذ يفيض المال، ويستغني الناس، فلا يجد المتصدق من يتصدق عليه، فيعرض صدقته على من لا يستحقها، فيأبى أخذها ويقول: لا حاجة لي في مالك.
فهذه المراحل الثلاث وقع منها اثنتان، وبقيت الثالثة تقع في عهد المسيح عليه السلام، ويتخلل هذه المراحل الثلاث طمع يقع في الناس، وجشع يستبد بهم، وشح يملأ قلوبهم؛ فلا يشبع غنيهم، ولا يرضى مستورهم، ولا يصبر فقيرهم، ويطلب الناس المزيد على كفايتهم، ويجتهدون في الكسب والادخار بكل الطرق، حتى من أعطي منهم عطاء جزلا لا يقنع بما أعطي بسبب طمعه، وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم ستا من أشراط الساعة وذكر منها: "استفاضة المال حتى يعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطا" رواه البخاري.
واتساع الدنيا للناس، وكثرة المال في أيديهم؛ يصل بهم إلى السرف والتباهي والمفاخرة، وكل ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعه في أمته؛ فأخبر عن التطاول في البنيان؛ كما روى البخاري أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال عليه الصلاة والسلام: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهمُ في البنيان" وفي رواية للإمام أحمد قال عليه الصلاة والسلام: "ورأيتَ أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس فذلك من معالم الساعة وأشراطها" قال: يا رسول الله، ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: "العرب".
قال القرطبي رحمه الله تعالى: "المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر؛ فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان".
والقرطبي يحكي عن زمانه وقد مات في المائة السابعة؛ فكيف لو رأى كثرة الأموال في هذا العصر، وتفاخر الناس بالبنيان حتى إن العرب فاقوا في التفاخر به سائر الأمم؟!
والتطاول في البنيان له صور كثيرة من تشييد الأبراج العالية وما أكثرها في هذا العصر، إلى التنافس في اتساع الدور والقصور، وتنويع أثاثها ومتاعها، إلى تعدد المساكن والبيوت للواحد من الناس وكثرتها، فبيوت في المدن، وأخرى في القرى، وثالثة في المزارع ، ورابعة في مكة، وخامسة في البلاد التي يصطاف فيها، في سلسلة لا تنتهي من التوسع والتطاول في البنيان الذي يكون بين يدي الساعة.
بل إن التطاول في البنيان يتعدى المساكن إلى المساجد، فيتباهى الناس ببنائها وزخرفتها وتزويقها، حتى من يقصر في الصلاة من أثريائهم يفعل ذلك للمباهاة، ولربما بنيت بيوت الله تعالى من أموال محرمة؛ كما يفعله أهل الربا والغش والاحتكار والغناء والتمثيل والرقص، فبعضهم يبتني مساجد من كسبه الخبيث؛ نسأل الله تعالى العافية والسلامة، وذلك من علامات الساعة؛ كما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" رواه أبو داود، وفي رواية للنسائي قال عليه الصلاة والسلام: "من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد" وقال أنس رضي الله عنه "يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى".
ولما أمر عمر رضي الله عنه بتجديد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قال للبناء: "أكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس".
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: "هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده؛ لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه، وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة ورخص في ذلك بعضهم" ا.هـ.
ويستتبع كثرة الأموال في أيدي الناس: اتساع التجارة وتنوعها، وكثرة الأسواق وتقاربها، مع تعدد المعارف والعلوم الدنيوية التي تكون في خدمة المال وتنميته؛ ولذا جاء الربط في بعض الأحاديث بين كثرة المال وبين كثرة القلم في الناس كناية عن العلوم والمعارف؛ كما روى الطيالسي بسند صحيح من حديث عمرو بن تغلب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أشراط الساعة أن يكثر التجار ويظهر القلم" ويحدث الحسن البصري رحمه الله تعالى عن وقت أدركه كانت التجارة فيه قليلة كما كانت الكتابة قليلة فيقول رحمه الله تعالى: "لقد أتى علينا زمان إنما يقال: تاجر بني فلان، وكاتب بني فلان ما يكون في الحي إلا التاجر الواحد والكاتب الواحد" قال الحسن: "والله إن كان الرجل ليأتي الحي العظيم فما يجد به كاتبا" رواه ابن عبد البر.
وقد أدرك كبار السن في هذه البلاد شيئا من ذلك قبل اتساع الدنيا، وكثرة العلوم والمعارف، فالحمد لله كثيرا على نعمه التي لا تحصى.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة تقارب الزمان وتقارب الأسواق، وكل ذلك وقع في هذا الزمن؛ إذ المسافات تقاربت مع سرعة المواصلات، وتقارب الزمان مع تطور الاتصالات، والأسواق تقاربت حسا ومعنى؛ ففي أكثر المدن تكثر الأسواق وتتقارب، وهي في ازدياد واتساع ما دام الناس يشترون ويستهلكون، وسبب ذلك كثرة الأموال في أيديهم.ومع تقارب الزمن، وسرعة الاتصال أضحى التجار يتبادلون التجارة فيما بينهم وهم في بيوتهم أو مكاتبهم مع تباعد ما بينهم من المسافات، واختلاف البلدان.
وتبلغ التجارة في فشوها مبلغا يتقحمها النساء مع الرجال، فيضربن في الأرض، ويسافرن بلا محرم، ويزاحمن الرجال، مع أن إدارة التجارة في الأصل هي من خصائص الرجال؛ لأنهم الضاربون في الأرض، الساعون على أزواجهم وأولادهم بالرزق؛ روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وكان من أسباب مشاركة المرأة في التجارة، وإدارتها لها: خروجها من المنزل للدراسة ثم للعمل، واتساع المال في يدها، فصارت ندا للرجل في ذلك، ووقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الأشراط والعلامات التي تدل على قرب الساعة، ودنو القيامة؛ نسأل الله تعالى الموافاة على الإيمان والسنة، وأن يغفر لنا الخطيئة والزلة، إنه سميع مجيب.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ) [النور:52].
أيها الناس: لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما سيقع بعده من كثرة المال في الناس خاف عليهم الفتنة بالدنيا والتقصير في حق الآخرة، وحذرهم من زينتها وزهرتها، وأخبرهم أنها إلى زوال، وحثهم على التنافس في الأعمال الصالحة التي تقربهم من الآخرة؛ نصحا لهم، وشفقة عليهم، ورحمة بهم؛ يروي عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، إني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت خزائن مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا ولكن أخاف أن تنافسوا فيها" رواه البخاري.
ولما قدم أبو عبيدة رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بجزية أهل البحرين سمعت الأنصار بقدومه فوافقت صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: "أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء؟" قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم؛ فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم" وفي رواية: "وتهلككم كما أهلكتهم" رواه الشيخان.
ومن رأى حال الناس في هذا الزمن مع الأموال وتنميتها، وأعمالهم فيها، وقارنه بضعف سعيهم للآخرة، وتقصيرهم في الأعمال الصالحة - أيقن أن كثيرا من المسلمين قد أخلوا بوصايا نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن ما خافه عليهم وقعوا فيه بسبب الغفلة عن الآخرة، وحب الشهوات العاجلة، مع أن الله تعالى قد كفل لهم أرزاقهم ببذل الأسباب المعتادة بلا مبالغة في الأخذ بها، ولا خوف من الفقر، ومهما عملوا وخافوا وخططوا فلن ينالوا من الدنيا إلا ما كتب لهم، وقد حضهم الشارع الحكيم على العمل لأخراهم؛ روى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصية" وصلوا وسلموا...