اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
أوليس في شرعنا أسس وقواعد مثلى لبناء جيل متعلم واعٍ؟ فلماذا يدخل بعض المعلمين اليوم وهمهم آخر الشهر، والتلاميذ همهم جرس الخروج؛ إلا من رحم الله. نحن لا نعمم، ولكن نتحدث عن ظاهرة تفرض نفسها بقوة، وهي ظاهرة انحدار مستوى التعليم في بلداننا الإسلامية وهذا أمر جلي لا يحتاج إلى إثبات.. إن التربية تشكو إلى الله في زماننا، أما ترون أبنائنا داخل المدارس وخارجها سجائر وسباب، وأمور أخرى لا تخفى على أحد، إذاً هناك خلل في المناهج وفي المربي، وفي المتلقي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: إن أولى ما علق به المؤمن همته، وصدق فيه عزيمته، وصرف إليه ملاحظته ووقف عليه محافظته ما كان عائدًا على الدين والمسلمين بتمام السلامة ودوام الاستقامة ووقوع الألفة، وزوال الفرقة، وسكون الدهماء وسبوغ النعماء، ولا يتم ذلك إلا بالعلم، ولا يتحقق العلم إلا بالتعلم، فلا شيء أحضر عادة وأحمد عاقبة وأدعى إلى انتظام الأمور وصلاح الجمهور ونجاح المطالب والمقاصد ورشاد المصادر والموارد من العلم الذي به تستنير العقول، وتنجو به الأمة من الأفول، وتسلم من الذبول، وتتبين من خلاله مواقع أقدامها لتسلك سبيل النجاة وتبتعد عن طرق غوايتها.
فالعلماء هم العَطِرة التي زكاها الله، واصطفاها، وارتضاها، واجتباها، وإذا عرفنا أن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما العلم بالتعلم"؛ إذا عرفنا ذلك أدركنا مكانة التعليم، وتبينت لنا خطورته، وأنه الأمر الذي ينبغي أن يحظى بأكبر اهتمامنا ويشغل أكثر تفكيرنا.
ولا شك أن الناظر اليوم إلى التعليم في أمتنا يقف على واقع مر أليم؛ تغلب عليه المصلحة الشخصية والمادية، ومعلوم أن المادة إذا سيطرت أفسدت الأذواق، وعطلت الإبداع، وإلى جانب المادة نجد الارتجال في التعاطي مع موضوع التعليم، وعدم تهيئة الأجواء الملائمة التي تعين الطالب على التحصيل؛ وذلك من خلال الإغراق في الملهيات والشهوات والسهرات، فالتعليم اليوم يشكو من عوائق كثيرة وشائكة؛ بدءًا بضياع الهدف ومرورًا بالاستغلال والاستهتار، وأشياء أخرى جعلت التعليم في أمتنا ينزل إلى هذه الدركات.
إن الأمر يستدعي التدارك؛ لأنه لا تقوم الدول ولا تنهض ولا تنافس في كل المجالات إلا بالتعليم الجيد؛ القائم على أسس متينة من العلم والمعرفة والبحث، ومسايرة العصر دون التخلي عن الأصل الذي هو عزنا ومجدنا هذا الأصل الذي افتتح بالدعوة إلى القراءة (اقرأ) ثم نزلت بعدها (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1]، فمن العار على أمة اقرأ ألا تقرأ وألا تتبوأ أرقى مراتب العلم.
حتى أعظم كلمة والتي من أجلها خُلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وأُرسل من أجلها النبيون، وهي لا إله إلا الله هذه الكلمة والتي سماها الله كلمة التقوى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) [الفتح: 26]، هذه الكلمة صدرت الدعوة إليها بالعلم فقال تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19]، فما محل هذه الكلمة في تعليمنا اليوم؟ وهل يتعلم أبناؤنا شروط لا إله إلا الله ونواقضها ومقتضياتها، وما محل سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعليمنا اليوم، وهو -صلى الله عليه وسلم- النموذج الذي أقامه الله علمًا لمن أراد الوصول إليه -سبحانه وتعالى- فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
وما محل اللغة العربية من تعليمنا اليوم؛ بقواعدها، وأصولها، ومتونها وشواهدها، وغير ذلك وهي التي بها يُفهَم القرآن وتُعرَف السنة والسيرة والأحكام، وبها يعرف التاريخ، وغير ذلك.
ما أحوجنا إلى تعليم تذوب فيه المصالح الشخصية، وتعلو المصلحة العامة العليا، وذلك يحتاج إلى تضافر الجهود؛ كلّ من موضعه وموقعه.
أيها الأحباب: لا يختلف اثنان أن أعظم مُصلِح في تاريخ البشرية هو سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثَم فإن أيّ إصلاح نرومه يجب أن نرجع فيه إلى منهج المصلح الأكبر وإن لم نفعل؛ فإن انتسابنا إليه -صلى الله عليه وسلم- يبقى انتسابًا سطحيًّا خاليًا من سر التزكية، فهو -صلى الله عليه وسلم- قدوة لجميع مكونات الجسد الإسلامي حكامًا، قضاة، معلمين، سياسيين، مجاهدين، وغير ذلك.
وإننا إذا ما رجعنا إلى منهجه -صلى الله عليه وسلم- في قضية التعليم سنجد ما يغنينا ويشفينا، ويكفينا ويرقينا ويزكينا، كيف لا والتعليم إحدى وظائفه الكبرى -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى قول الله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة:2].
وهذا من عظيم معجزاته -صلى الله عليه وسلم- فهو اليتيم الذي علّم الناس الأدب، وهو الأمي الذي علم الدنيا العلم، ولله در القائل:
كفاك بالعلم في الأمّيّ معجزة | في الجاهليّة والتّأديب في اليتم |
قلت: إننا إذا رجعنا إلى المنهج النبوي في قضية التعليم، وجدنا أن مسألة التعليم هي من القيم الحضارية الكبرى في السنة النبوية، فمن منهجه -صلى الله عليه وسلم- في هذه القضية العظيمة أولاً إيجاد الدافعية للتعليم.
إن غرس حب العلم، والعناية به، من أهم الصفات التي ينبغي أن يتسم بها المسلم وفي عصرنا الحاضر، تزداد هذه القضية تأكيدًا، وتستحق مزيدًا من الرعاية والعناية؛ إذ كثرت الصوارف والشواغل للجيل المعاصر من الملاهي والفتن، ووسائل قضاء الشهوات، مما يجعل العلم والعناية به في مرتبة متأخرة من اهتمامات كثير من الناس.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يسلك مبدأ إثارة الدافع خلق الدافع لدى المتعلم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من علّم علمًا فله أجر مَن عمل به لا يَنقص من أجر العامل شيء"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورثه".
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فداءهم أن يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة؛ وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه وقبول النبي -صلى الله عليه وسلم- تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية.
من حقنا أن نتساءل هذا الدور الذي هو إيجاد الدافعية للتعلم من يقوم به اليوم؟ أقول وبدون تحفظ: الإعلام هو المسئول الأول عن هذا الأمر؛ لأنه هو الوسيلة الوحيدة التي تخاطب الملايين في وقت واحد، فلماذا لا تعقد في الإعلام ندوات وبرامج يحضر فيها أهل العلم والثقافة يبينون للناس فضل العلم، وفضل التعلم، وما أعد الله للذين يعلّمون الناس الخير.
أين الإعلام؟ لماذا لا يساند التعليم؟ بل نقول: لماذا يخرب الإعلام التعليم ويشغل المتعلمين والمعلمين، مسلسلات لا تنتهي، وسهرات ومباريات، وملهيات إلى غير ذلك من الصوارف.
إن الإعلام سلاح خطير بل هو أخطر سلاح في عالم اليوم ومع الأسف الإعلام اليوم على مستوى العالم هو في قبضة من قال الله فيهم (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ) [المائدة: 82].
ومن مظاهر عدائهم: محاولتهم صرف المسلمين عن العلم والتعلم بكل الوسائل، ومن مظاهر عدائهم محاولتهم صرف المسلمين عن العلم والتعلم بكل الوسائل، وقد نجحوا في ذلك إلى أبعد حد، ودلائل ذلك قائمة في عالم التعليم تعليمًا وتعلمًا وأخلاقًا وأدبًا إلا من رحم الله.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يعلّمهم ويزكيهم، ويبيّن لهم ويرّقيهم ويخرجهم بإذن ربهم من الضلالة، وينقذهم من الجهالة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه شموس الهدى، وأنهار الندى الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى مَن تبعهم بالهدى والحق إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: لقد راعى -صلى الله عليه وسلم- مسألة الخطاب الحضاري في الفكر التربوي، فلم يكن خطابه -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس خطابًا جافًّا أو سياسيًّا محضًا، إنما كان خطابه خطابًا تربويًّا لم يكن يغلب عليه طابع الحاكم بقدر ما غلب عليه طابع المعلم الوقور الذي تحدث إلى تلاميذه، وترتفع الرءوس كثيرًا اليوم، ويتطلع مناظرو التربية في العالم الإسلامي إلى فلاسفة التربية الغربية، ورموزها مع العلم أن التربية عند هؤلاء علم حديث النشأة، إنما بدأ مع العصر الحديث، أو ما يسمى بعصر النهضة.
ونحن إذ لا ننكر ما بذله علماء الغرب من جهود في هذا العلم وغيره، ولا نغلو فندعو المسلم إلى هجر ورفض جميع ما عند أولئك؛ نحن إذ نقف هذا الموقف، فلسنا بحال مع من يدعو الأمة إلى أن تختذل تاريخها، وتطوي صفحاته، فتغضّ الطرف جهلاً أو تجاهلاً، وتهيل الركام على تراثها الحق.
لقد بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في أمة سيطر عليها الجهل، واستولت الخرافة فصنع -بإذن الله- منها أمة حاملة للهداية للبشرية أجمع؛ أمة حاملة منهج العلم ومنهج التعليم والتفقه، حتى إن الله -تعالى- ذكر ذلك في سياق المنة فقال: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164].
وما أجمل ذلك الوصف! وأبر هذا القسم الذي صدر من معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- في قوله يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه" -صلى الله عليه وسلم-.
فما أحوجنا معاشر المعلمين والمربين إلى التماس هديه التربوي في خطابه والتأسي بسنته، ولقد كان من أساليبه في التعليم -صلى الله عليه وسلم-: احترام العقل، ومعرفة القدرات، وهذه مسألة بالغة الأهمية، ونفتقدها كثيرًا في تعليمنا اليوم؛ التعليم الذي يركز على الجيوب أكثر من العقول إلا من رحم الله؟
هذه مسألة بالغة الأهمية معرفة القدرات، حتى إن الكثير من أصحاب القدرات والمواهب اليوم قد ذهبوا وضاعوا؛ إما نتيجة لضعف المناهج أو نتيجة للطمع والجشع.
ولقد عرف -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فانعكس ذلك على تربيته وتدريسه وعطائه لهم، فالذي يعرف تلاميذه معرفة دقيقة هو القادر على أن يعلّمهم ما يحتاجون إليه، ويتناسب مع قدراتهم، وهو القادر على توجيههم للتخصص المناسب، وهو القادر أيضًا على العدالة والدقة في تقويمهم، وإعطائهم الدرجات التي يستحقونها، فهو مثلاً يقول لأبي هريرة -رضي الله عنه- حين سأله عن الشفاعة قال: "لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث".
فهو -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن تلميذه أبا هريرة من أحرص أصحابه على الحديث، ويستنهض بهذا الثناء مزيدًا من همته؛ لأن الإشادة تكون سببًا للاستزادة، ويقول -صلى الله عليه وسلم- مبينًا خصائص تلاميذه: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ –يعني بعلم الفرائض المواريث- زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ , وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ".
أفليس هذا مظهرًا من مظاهر إدراكه -صلى الله عليه وسلم- لمدارك أصحابه العقلية والنفسية؟
وكان -صلى الله عليه وسلم- يراعي الفروق العقلية الفردية بين أصحابه ومتلقيه، فعن أبي رفاعة -رضي الله عنه- قال: "انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسي حسبت قوائمه حديدًا، قال فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها" (رواه مسلم).
فالناس معادن وقدرات، وطاقات متفاوتة؛ حرصًا وذكاء، واستعدادًا وهمة وتحصيلاً، والمعلم الموفَّق يتعامل مع الجميع، ويخاطب الكل، وهنا تكمن مهاراته في إقناع الجميع، وتحقيق التوازن بينهم، والاعتناء بالفروق الفردية والملَكات العقلية، وهذا الأمر الذي هو الاعتناء بالفروق الفردية والملَكات العقلية أمر لم تبتكره التربية المعاصرة، بل أشار إليه أسلافنا الأوائل وأدركوه، وأوصوا به المعلم.
يقول الإمام النووي -رحمه الله- يخاطب المعلمين: "وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهيمهم، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم، حريصًا على هدايتهم، ويُفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه، فلا يعطيه ما لا يحتمله، ولا يقصر عما يحتمله بلا مشقة، ويخاطب كل واحد على قدر درجته، وبحسب فهمه وهمته، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمه فهمًا محققًا، ويوضح العبارة لغيره ويكررها إلا لمن لا يحفظها إلا بتكرار، ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا يحفظ له الدليل، فإن جهل دليل بعضها ذكره له ويذكر الدلائل لمحتملها" ا هـ رحمه الله.
أوليست هذه أسس وقواعد مثلى لبناء جيل متعلم واعٍ؟ فلماذا يدخل بعض المعلمين اليوم وهمهم آخر الشهر، والتلاميذ همهم جرس الخروج؛ إلا من رحم الله.
نحن لا نعمم، ولكن نتحدث عن ظاهرة تفرض نفسها بقوة، وهي ظاهرة انحدار مستوى التعليم في بلداننا الإسلامية وهذا أمر جلي لا يحتاج إلى إثبات.
ولقد كان من أساليبه التعليمية -صلى الله عليه وسلم-: الجمع بين التربية والتعليم، فمن وظائفه الكبرى -صلى الله عليه وسلم- تعليم العلم والتزكية (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ)؛ لذا لم يكن -صلى الله عليه وسلم- يخرج أقوامًا يحفظون المسائل فقط، بل ربَّى أصحابه تربية علمية وأخلاقية وجهادية وقيادية وإدارية، وقبل ذلك كله تربية إيمانية، فهذا حنظلة -رضي الله عنه- يحكي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يشهد معه مجالس العلم والتذكير فكأنه –أي: حنظلة- كأنه يرى الجنة والنار.
فهي إذاً مع ما فيها من التحصيل المعرفي تنقل المسلم بمشاعره إلى الدار الآخرة، وبالتالي يظهر أثرها على سلوك المتعلم وهديه، ومن ثَم لم ينفصل التعليم والتربية عن روح الدين وأسه.
أيها الأحباب: أما إن الحديث جدّ، فإن التربية تشكو إلى الله في زماننا، أما ترون أبنائنا داخل المدارس وخارجها سجائر وسباب، وأمور أخرى لا تخفى على أحد، إذاً هناك خلل في المناهج وفي المربي، وفي المتلقي، ونحن دائما لا نعمم؛ فهناك أهل الفضل، ولكن نتحدث عن الغالب؛ إنه ليس بين شبابنا وبين اتباع تعاليم الإسلام إلا أن يعرفوها، وأن يروها مجسدة في المعلم؛ فديننا قوي أخّاذ ما عرفه أحد على حقيقته إلا أحبه واتبعه، ولكن المشكلة هنا: كيف السبيل إلى أن يعرف الشباب المسلم ما هو الإسلام إذا كانوا لا يستطيعون النظر في كتبه، ولا يعرفون النظر في كتب العقائد والأخلاق والسير واللغة، هذه الكتب التي يسميها بعض أعداء العلم وأعداء الإسلام "الكتب الصفراء"؛ تنفيرًا للناس عنها وفيها من الكنوز ما لا يعلمه إلا الله.
إذا كانوا لا يستطيعون النظر في كتبه ولا يعرفونها، وإذا كانوا يرون المتزين بزي علمائه جامدة أفكارهم يقولون بألسنتهم ما لا يحققونه بأفعالهم، يأمرون الناس بالعزة ويذلون لأهل الدنيا، ويزهدونهم فيها ويتسابقون إليها.
إننا ننشد في تعليمنا المجد والعز والكمال، ولا يتم ذلك أبداً مهما حاولنا لا يتم ذلك إلا بوقف أبنائنا على تاريخهم، وتعليمهم علوم دينهم ولسانهم، وإفهامهم أن هذه الأمة بقدَر من الله أنه لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وما كان صلاح أولها إلا بالإيمان الصحيح والخُلُق المتين، فإذا أضعناهما فقد أضعنا المعراج الذي نعرج عليه إلى ما نريد من ذرى المعالي... وسرنا في طريق الحياة بساقين جذماوين، نزحف زحف المُقْعَد الزَّمِن، ونتدحرج تدحرج الكرة، فنتمرغ في الوحل، ونحن نحسب أننا نرقى في سلالم المجد والعلاء.
اللهم أصلح أحوالنا..