البحث

عبارات مقترحة:

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

رب قول يسيل منه دم

العربية

المؤلف حسان أحمد العماري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. خطورة اللسان في الإسلام .
  2. الكلمة بين عوامل البناء والهدم .
  3. مفاسد الكلام الهدام في المجتمع .
  4. الحث على صون اللسان عن الخوض في الباطل. .

اقتباس

ومن ينظر إلى واقع حياة الناس اليوم يجد أن سبب الكثير من المحن والفتن والمشاكل والصراعات كانت بدايتها كلمة باللسان،.. فللسان عند الفتن أثر خطير في إذكاء نارها، وتمزيق شمل أهلها.. لذلك قيل: "كم إنسان أهلكه لسان!.. ورب حرف أدى إلى حتف!.. وكم سُفكت من دماء المسلمين، وثارت العداوات بينهم، وقُطعت الأرحام، وشُوهت الحقائق، وأُوغرت القلوب بالبغضاء والشحناء وسوء الظن؛ بسبب اللسان وسوء استخدامه!!

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي تفرد بالعز والجلال، وتوحد بالكبرياء والكمال، وجلّ عن الأشباه والأشكال، ودل على معرفته فزال الإشكال، وأذل من اعتز بغيره غاية الإذلال، وتفضل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه وهو الخالق الفعال، وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن الكبير المتعال.

 وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال ورفعه إلى المقام الأسنى، فكان قاب قوسين أو أدنى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

 أما بعد:

عباد الله: لقد ميّز الله بني آدم عن سائرِ المخلوقات بنعمة اللسان، وبه تفضّل عليهم، قال الله -جل وعلا-: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد:8، 9]، وقال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-4؟]، أي: يبين عن ما في نفسه بلسانه، فبهذا اللسان ينطق الإنسان بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" خير قولٍ وأفضله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بِضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله" [البخاري: 9].

وبه يعبد الله في أرضه بما شرع من العبادات والأذكار وقراءة القرآن والدعاء، وباللسان يتعارف الناس على بعضهم البعض، وعن طريق اللسان يتعلم الناس العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية، وعن طريق اللسان يُعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ، والصدق من الكذب، والأمانة من الخيانة.

 وباللسان يُؤمَر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، ويُقال الحق، وبه يُعرف الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والمسلم من الكافر، والبرّ من الفاجر، والتقي من الشقي..

 وباللسان تتأجج الخلافات، وتُثار الفتن، وتقوم الحروب، وتُسفك الدماء، وتُقطع الأرحام، وبه أيضاً تتآلف القلوب وتتصالح النفوس ويحل الأمن والأمان وباللسان يبلغ الفرد المنازل العالية والدرجات الرفيعة عند الله، وبه يسقط في دركات النار وسخط الجبار، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بين المشرِق والمغرب. وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من رضوانِ الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يَلقاه" (البخاري في الرقاق 6477).

 ولذلك حذّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خطورة اللسان وسوء استخدامه، فعن معاذ -رضي الله عنه- قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره اللّه عليه: تعبد اللّه ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال: ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون)[السجدة:16]، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول اللّه. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: فأخذ بلسانه، قال: "كُفَّ عليك هذا" فقلت: يا نبي اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم" (أخرجه أحمد والترمذي)..

 وقد أمر الله -سبحانه وتعالى- بالقول السديد الذي ليس فيها عيبٌ أو إثمٌ أو خطأ، ورتب عليه صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71].

أيها المؤمنون/ عباد الله: عند وقوع الأحداث ونزول الفتن وظهور الخلافات يكثر الهرج، وتنتشر الشائعات والقيل والقال، وتتشعب الآراء، ويكثر الكلام بالحق والباطل خاصة في زماننا ومع وجود وسائل الإعلام والاتصالات والمواصلات والإنترنت، فيدلي كل إنسان بدلوه دون علم أو بصيرة أو تثبُّت ودون مراعاة لمصلحة أو جلب منفعة، أهم شيء أن يتكلم ويخوض حتى في الدماء والأعراض ويزين له شيطانه ذلك، والله -عز وجل- قد حذر فقال: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء: 53].

وعن سفيانَ الثقفي قال قلت: يا رسولَ الله: ما أخوفُ ما تخاف عليَّ؟ فأخَذ بلسان نفْسه -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "هذا" (رواه مسلم) ..

ومن ينظر إلى واقع حياة الناس اليوم يجد أن سبب الكثير من المحن والفتن والمشاكل والصراعات كانت بدايتها كلمة باللسان، فبذر بذرتها في مجالس السوء تلك، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت، ثم تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وإذا بها تشتعل وتضطرم رويدًا رويدا حتى يستعصي إطفاؤها حتى على الذين أوقدوا شرارتها، وكما قيل: "رب قول يسيل منه دم"..

 وقال ابن المقفع -رحمه الله-: "اعلم أن لسانك أداة مصلتة، يتغالب عليه عقلك، وغضبك، وهواك، فكل غالب عليه مستمتع به، وصارفه في محبته، فإذا غلب عليه عقلك فهو لك، وإن غلب عليه شيء من أشباه ما سميت لك فهو لعدوك؛ فإن استطعت أن تحتفظ به وتصونه فلا يكون إلا لك، ولا يستولي عليه، أو يشاركك فيه عدوك فافعل". (الأدب الصغير)..

فللسان عند الفتن أثر خطير في إذكاء نارها، وتمزيق شمل أهلها، فإنه يفري في الناس أشد من فري السيف هامات الرجال، حتى قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنما الفتنة باللسان وليست الفتنة باليد" (رواه الدارمي في السنن الواردة في الفتن، 171).

 لذلك قيل: "كم إنسان أهلكه لسان!.. ورب حرف أدى إلى حتف!.. وكم سُفكت من دماء المسلمين، وثارت العداوات بينهم، وقُطعت الأرحام، وشُوهت الحقائق، وأُوغرت القلوب بالبغضاء والشحناء وسوء الظن؛ بسبب اللسان وسوء استخدامه!!

 دخل رجل على عمر بن عبد العزيز، فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: "إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا..

وقد حذر -صلى الله عليه وسلم- من الاستخدام السيئ للسان ومن الكلام الذي لا ينفع فقال: "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذُكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العنت" (رواه أحمد والحديث صحيح)، أي الذين يسببون بهذه النميمة التعب والمشقة والمصائب والمحن بين الناس...

يقول ابن القيم: "أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة والدماء، ثم قال: "ومن نَمَّ والنميمة أصل العداوة المريقة للدماء، فحظهما العذاب الشديد" (غذاء الألباب ج 1 ص 91) ..

لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خطورة اللسان عند الفتن والأزمات إذا تحولت إلى معول هدم، وجعل خطرها كخطر السيف الذي تُسفك به الدماء، وتُزهق به الأرواح، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون فتنة صماء (بكماء) عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقع السيف" (رواه أبو داود).

 كلام، وقيل وقال، وتصريحات، وكذب، وشهادة زور، وتشويه حقائق، وخوض في الباطل، وهؤلاء يندمون يوم القيامة وهم يسألون عن سبب وجودهم في النار، فأجابوا كما أخبر تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر42-48]..

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .. قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

عباد الله:  إننا بحاجة إلى من يكون كلامه دواء، وقوله صدقًا، وتعبيره رحمة وحبًّا، ونطقه أملاً وتفاؤلاً، وحديثه يجمع القلوب، ويصلح بين النفوس، قال تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء 114]..

إننا أحوج ما نكون، وخاصة عند كثرة الفتن وشدة المحن واختلاف القلوب إلى الكلمة الطيبة التي تجمع ولا تفرّق، تبني ولا تهدم، تنشر التفاؤل والأمل لا اليأس والقنوط، نحتاج إلى الكلمة الصادقة والمخلصة، فتقرّب وجهات النظر وتعصم الدماء، وتحفظ الأموال، وتئد الفتنة في مهدها، وتحفظ البلاد والعباد وينتشر بسببها الأمن والأمان والسلام بين الناس..

عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تَدْرُونَ مَنْ الْمُسْلِمُ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" قَالَ: "تَدْرُونَ مَنْ الْمُؤْمِنُ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنَبَهُ" (صحيح: رواه أحمد 6631) ..

 وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"(البخاري ومسلم).

أيها المسلمون/ عباد الله: كونوا معاول للبناء في أوطانكم ومجتمعاتكم لا معاول هدم بالكلمة الطيبة، والقول الحسن، والعمل الصالح، والأخوة والتعاون والتسامح والتراحم، واحفظوا جواركم عن الحرام، واشغلوا ألسنتكم بطاعة الله، وقراءة القرآن، وكثرة الذكر والدعاء، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، تسعدوا في دنياكم وآخرتكم وتتنزل رحمات ربكم، وتفرج كرباتكم، ويتوحد صفكم، ويكفّ الله بأس عدوكم، وتصلح أحوالكم..

اللهم طهّر ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة، وقلوبنا من النفاق والغل والغش، والحسد والكبر والعجب، وأعمالنا من الرياء والسمعة، وبطوننا من الحرام والشبهة، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ..

 اللهم احفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين، واحقن دماءنا ودماء المسلم، وخذ بنواصينا إلى كل خير.. هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.