الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | ناصر القطامي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فمع نعمة هطول الأمطار، واعتدال الأجواء يعمد كثير من الناس إلى الخروج إلى المتنزهات البرية، والحدائق العامة؛ بحثًا عن متنفَس بين ضغوط الأعمال اليومية، والواجبات الوظيفية. ومن النعم التي تتعدد منافعها ويعظم الاستفادة منها في وجوه دينية ودنيوية، التمتع بالزينة والطيبات من الرزق الذي أباحها الله -عز وجل- لعباده؛ ولما فيها من التفكر في آلاء الله -عز وجل- ومخلوقاته، ولما فيها من تعزيز أواصر الصلة بين أفراد الأسرة، وإدخال السرور على النفس والأهل والأصحاب. لذا ينبغي للمسلم - حتى ننعم بالسعادة والأجر معًا- أن نراعي الآداب الإسلامية الواجبة والمستحبَة التي هي من سمات المسلم في حِلّه وترحاله، ومن هذه الآداب:
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد معاشر المؤمنين: فمع نعمة هطول الأمطار، واعتدال الأجواء يعمد كثير من الناس إلى الخروج إلى المتنزهات البرية، والحدائق العامة؛ بحثًا عن متنفَس بين ضغوط الأعمال اليومية، والواجبات الوظيفية.
ومن النعم التي تتعدد منافعها ويعظم الاستفادة منها في وجوه دينية ودنيوية، التمتع بالزينة والطيبات من الرزق الذي أباحها الله -عز وجل- لعباده؛ ومن تلك الوجوه الرحلات البرية، لما فيها من التفكر في آلاء الله -عز وجل- ومخلوقاته، ولما فيها من تعزيز أواصر الصلة بين أفراد الأسرة، وإكسابهم المهارات المختلفة، وإدخال السرور على النفس والأهل والأصحاب.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة فقالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبدو إلى هذه التلاع" "أي: يخرج إلى البادية. (رواه أبو داود وصححه الألباني).
وقد كان بعض الصحابة يحب أن يخرج إلى البادية، وقد كان بعض العلماء يخرج إلى الضياع والبساتين للترويح، والله -عز وجل- يقول: (أَلَمْ تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20].
لذا ينبغي للمسلم - حتى ننعم بالسعادة والأجر معًا- أن نراعي الآداب الإسلامية الواجبة والمستحبَة التي هي من سمات المسلم في حِلّه وترحاله، ومن هذه الآداب:
أولا: آداب خاصة بالمكان:
فقد علّمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عند النزول في أي منزل أن نقول: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل عنه" (أخرجه مسلم).
ومن آداب المكان: المحافظة عليه، فهذه الأماكن ملك للجميع، ولا ينبغي لمسلم أن يؤذي غيره بأي شكل من أشكال الإيذاء، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" (رواه الطبراني، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع").
ومنها: عدم ترك الفضلات في المكان الذي يجلس فيه المتنزه؛ لأن هذا المكان مشترك لك ولغيرك، فلا تسئ إلى نفسك وتضر غيرك، قال - -صلى الله عليه وسلم- -: "اتقوا الملاعن الثلاث؛ البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
ومن أهم الآداب التي يجب التمسك بها: اتباع القوانين المنظِّمة، واللوائح المقررة، التي يجب اتباعها؛ كالتقيد بالسير واجتناب الأماكن المحذور الدخول فيها كمجاري السيول وبطون الأودية حال مواسم الأمطار وغير ذلك، فالإخلال بإجراءات السلامة يعرِّض حياة الإنسان للخطر، والمسلم مأمور باتباع الحيطة والحذر والحفاظ على نفسه وأهله من كل ما قد يكون سبب في إيذائهم، كما أوصى الله تعالى بقوله: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195].
عباد الله: ولقاصدي البرية مسائل فقهية مهمة لا غنى لهم عنها وينبغي لهم العناية بها:
المسألة الأولى: مراعاة الستر والبعد عند قضاء الحاجة، كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن جابر -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد" (أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني).
ومراعاة السِّتر من الفطرة السليمة التي فطر الله -عز وجل- الناس عليها، ولذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بالستر، فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى الغائط فليستتر" (رواه أبو داوود وأحمد).
وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خذ الإداوة فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته" (متفق عليه).
المسألة الثانية: النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة:
فعن سلمان -رضي الله عنه-، قال: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن نستقبل القبلة بغائط أو بول.." (أخرجه مسلم).
المسألة الثالثة: الوضوء عند اشتداد البرد:
فمن الأفعال المستحبة إسباغ الوضوء على المكاره عند اشتداد البرد، وهو وإن كان فيه مشقة على النفس، إلا أن في طواعية النفس وتدريبها على الاستجابة لأوامر الله -عز وجل-؛ ولذا جعل الله -عز وجل- ثواب إسباغ الوضوء عند البرد عظيم، فقد روي أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات" قالوا: بلى يا رسول الله.. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره .." (أخرجه مسلم).
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إسباغ الوضوء في المكاره, وإعمال الأقدام إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً" (رواه أبو يعلى والبزار (بإسناد صحيح) والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم).
المسألة الرابعة: تسخين الماء البارد للوضوء:
من محاسن الشريعة الإسلامية السمحة أنها تكفل لأصحابها كل سُبل الراحة، ومع الأوامر والنواهي حرصت على عدم المشقة والتعب، كما قال الله -عز وجل-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، وتسخين الماء عند الوضوء لمن خاف المشقة والتعب من الماء البارد لا حرج فيه، بل ربما يساعد المسلم على إسباغ الوضوء.
والله -عز وجل- غني عن أن يعذب عباده، فقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل واقفًا في الشمس، فقال: "ما هذا؟"، قالوا: نذر أن يقف في الشمس، فنهاه عن ذلك، وأمره أن يستظل. (رواه البخاري).
المسألة الخامسة: أحكام التيمم:
من الرخص التي جعلها الله -عز وجل- لعباده تيسيرًا وتخفيفًا عليهم، فقد شرع الله -عز وجل- التيمم عند عدم وجود الماء، أو عند تعذر استعماله، كما قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا). أما مجرد التحسس من الماء البارد فلا يجوز له بذلك أن يتيمم، بل يجب عليه أن يمس بشرته الماء ويتوضأ.
ولما روي عن جابر -رضي الله عنه- قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجّه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر " أو يعصب" على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده". (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وفيها أربعة أحكام:
أولا: إذا دخل وقت صلاة مفروضة، وتعذر استعمال الماء إما لعدمه أو لخوف استعماله بالضرر المتحقق أو بغلبة الظن، وإما لشدة برودته (وليس عنده ما يسخنه)، أو لمرضه ويخشى من زيادة مرضه أو تأخر برأه، أو كان قليل ويحتاجه للشرب أو لاستعماله في الأكل، جاز له التيمم.
ثانيا: صفة التيمم: وهي أن يضرب كفيه على الأرض ضربة واحدة، ويمسح بها وجهه وظاهر كفيه.
ثالثا: إذا تيمم وصلى وفي أثناء ذلك توفر الماء، أو تذكر مكان وجوده عنده فإنه يجب عليه أن يقطع الصلاة ليتوضأ على القول الراجح؛ لقول الله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)، وهذا قد وجد الماء. ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته" (أخرجه البزار وصححه الألباني).
رابعا: أما إذا وجد الماء (في الوقت) بعد أداء الصلاة، فإنه لا يجب عليه أن يعيد الصلاة؛ لأنه صلى على الوجه المشروع الذي أمره الله -عز وجل-، كما جاء عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين". (رواه أبو داود والنسائي وصححه الشيخ الألباني).
ومن باب أولى أنه لا يعيد بعد انتهاء وقت الصلاة.
المسألة السادسة من المسائل الفقهية التي تهم قاصدي البرية: حكم الغسل من الجنابة:
يجب على من يخرجون للصحراء (البر) ويبيتون فيها الليلة والليلتين أن يحتاطوا ويستعدوا لو احتاج الشخص للغسل من الجنابة، بأن يراعي جيدًا ما سبق من أحكام في مراعاة الستر والبعد عن أعين الناس.
كما يجب مراعاة أحكام الغسل، من تعميم سائر الجسد بالماء ثلاثا، والوضوء قبله، والتسمية، وغير ذلك من الآداب والسنن.
وللجنب الذي لم يجد ماءا كافيا لغسله، أو يتعذر استعماله للماء لمرض أو جرح أن يتيمم، أخذا بالرخصة التي شرعها الله -عز وجل- له، بأن يضرب كفيه على الأرض ضربة واحدة ويمسح بها وجهه وظاهر كفيه.. لا كما يظن البعض من وجوب التمرغ في التراب للتيمم من الجنابة إن لم يجد ما يغتسل به.
كما أن له تسخين الماء عند خوف المشقة من الماء البارد، كما سبق في الوضوء.
المسألة السابعة: تهيئة المكان للبول:
من أحكام البرية: أن يهيئ الإنسان مكانا لبوله إذا أراد البول، كأن يتخذ ساترا من الريح حتى لا يرجع رذاذ بوله عليه؛ لما جاء عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، قال: "كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دمثاً في أصل جدار فبال، ثم قال: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعاً". (أخرجه أبو داود, وضعفه الشيخ الألباني).
المسألة الثامنة: النهي عن البول في الجُحر:
فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البول في الجحر؛ لما قد يسببه من أذى للإنسان، كأن يكون في الجحر دابة تخرج فتؤذيه، فعن عبد الله بن سرجس -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "نهى أن يُبال في الجُحر" قالوا لقتادة: "ما يكره من البول في الجحر؟ قال: كان يقال أنها مساكن الجن" (أخرجه أبو داود والنسائي).
وهذا الحديث ضعيف الإسناد إلا أن معناه صحيح، والعلة في ذلك حتى لا يخرج عليه شيء من الجحر فيؤذيه أو يقطع عليه بوله، فيتحرك وينجس جسده وثوبه.
المسألة التاسعة: عدم البول في الماء الراكد:
والماء الراكد هو الذي لا يجري، وقد صح عند الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ" (أخرجه البخاري).
وذلك لأن البول في هذه المياه يفسدها على الناس، وقد يظن من مَر به أن فساده لقراره أو مكثه، ولربما تسبب في انتشار الأمراض والأوبئة كما هو معروف في زماننا؛ ولذا كان نهي الشريعة عن هذا الفعل أدبًا راقيًا من آداب قضاء الحاجة، وفيه رعاية الإسلام لمشاعر الناس ومصالحهم.
واتفق العلماء على أن الغائط ملحق بالبول، وأنه لا فرق بين البول في نفس الماء أو في إناء يصبه فيه، أو يبول بقربه فيجري إليه.
المسألة العاشرة: ذكر الخلاء:
وهو قول (أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، ويقال هذا الذكر عندما يريد الشخص أن يرفع ملابسه لقضاء الحاجة، أما في الأماكن المخصصة لقضاء الحاجة والتي تسمى اليوم (بالحمامات) فيقال عند إرادة الدخول إليها .
المسألة الحادية عشر: التكشف عند قضاء الحاجة (في الصحراء):
من الواجب على المسلم الحرص على الستر وعدم التكشف، حتى وإن لم يجد أحد قريبا منه، فعليه مراعاة عدم التكشف إلا بقدر الحاجة، وألا يكشف عن عورته حتى يدنوا من الأرض، كما كان فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض" (أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني).
المسألة الثانية عشرة: النهي عن الاستجمار بالروث والعظم، وبأقل من ثلاثة أحجار:
وهذه الأشياء من الآداب التي أمرنا بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتي يجب أن يراعيها المسلم، فلا ينبغي أن يستجمر (يتطهر) بعظم، لما ورد من أنها طعام الجن، ولا بروث، ولا ينبغي ألا يستجمر بأقل من ثلاثة أحجار، لأن ذلك أدعى للطهارة. فعن سلمان -رضي الله عنه-، قال: "لقد نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستقبل القبلة...، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم" (رواه مسلم).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الغائط فأمرني أن آتيه بثلاث أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد ثالثاً، فأتيته بروثه فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: "هذا رجس أو ركس". (أخرجه البخاري).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يستنجى بعظم أو روث" (رواه الدارقطني وصححه الشيخ الألباني).
المسألة الثالثة عشرة: النهي عن الاستجمار باليمين:
من الآداب أيضًا عدم الاستجمار باليد اليمنى، وإنما الاستجمار يكون باليد اليسرى، فقد روي عن أبي قتادة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء" (متفق عليه).
عباد الله: صح عند الإمام مسلم عَنْ سَلْمَانَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: "قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ! فَقَالَ: أَجَلْ؛ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ".
وقوله: "حَتَّى الْخِرَاءَةَ" قال الخطابي: الخراءة بكسر الخاء ممدودة الألف: أدب التخلي والقعود عند الحاجة ا.هـ.
فما أعظم ديننا، وما أجل رسالته، وما أسمى غايته، وما أنبل هدايته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية:
ومن المسائل الفقهية التي تهم قاصدي البرية -وغيرهم- وهي المسألة الرابعة عشرة: تحري القبلة للصلاة في الصحراء: فيلزم من أراد أن يصلي أن يجتهد في تحري القبلة، ويعتمد على ذلك بالنجوم أو بمشرق الشمس ومغربها، أو بالأدوات الحديثة كالبُوصلة وغير ذلك، وإلا فيعتمد على غلبة الظن؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء واستقبل القبلة فكبر" (أحرجه البخاري ومسلم).
فإن صلى بغير اجتهاد، وأخطأ فعليه القضاء, وإن أصاب فصلاته صحيحة، أما إن اجتهد في تحري القبلة، فتبين بعد الصلاة أنه صلى إلى غير القبلة، فلا يلزمه الإعادة؛ لأنه صلى باجتهاد حسب ما أُمر به.
المسألة الخامسة عشرة مسألة الأذان في الصحراء:
يستحب للمسلم إذا حضر وقت الصلاة وهو في البرية أن يؤذن، ويرفع صوته بالأذان، لما له من فضل عظيم، بل إن الجن والجمادات تشهد للمؤذن يوم القيامة، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- بالأذان في البادية، كما روي عنه قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أراك تحب الغنم والبادية فإن كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (رواه البخاري).
وزاد ابن ماجه: "ولا حجر ولا شجر إلا شهد له".
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يغفر للمؤذن منتهى أذانه ويستغفر له كل رطب ويابس سمعه" (رواه أحمد والطبراني في الكبير وصححه الشيخ الألباني).
المسألة السادسة عشرة فضل الصلاة في الأرض الفلاة:
ومن المسائل الفقهية التي تهم قاصدي الصحراء: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زكى الصلاة في الأرض الفلاة "أي: الخالية"، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة في الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاةٍ فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
المسألة السابعة عشرة: القصر والجمع للصلاة:
فقد رجّح شيخ الإسلام ابن تيمية وهو اختيار الشيخ محمد بن عثيمين -رحمهما الله- أنه إذا كان مكان السفر مما يعد في عرف الناس سفراً، فيكونوا مسافرين، ويجوز لهم الترخص برخص السفر الأربع وهي: الجمع بين الصلاتين، والقصر (قصر الصلاة الرباعية)، والمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، والفطر في نهار رمضان، أو لمن بلغ مسافة سفره مسافة القصر، أما غير ذلك فلا يجوز له أن يقصر الصلاة الرباعية.
أما الجمع، فالأصل فيه أنه يجوز، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع من غير سفر ولا مرض، على اختلاف بين العلماء في الأفضلية، في الجمع أو في تركه، ولا حرج في هذا وذاك والله أعلم .
وإن كان هناك مسجد قريب، فيستحب الصلاة فيه جماعة، وإذا صلى في المسجد خلف إمام مقيم فلا يجوز له الجمع ولا القصر، وإنما يصلي بصلاته، فالإمام جعل ليؤتم به.
والمسافر تسقط عنه صلاة الجمعة، فلا يقيم وينشأ صلاة للجمعة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقيم الجمعة في السفر، فمن أقامها في السفر فقد خالف هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لكن إذا كان هناك مسجد قريب تقام فيه صلاة الجمعة ويُسمع منه الأذان، فإنه يلزم الذهاب والصلاة معهم.
المسألة الثامنة عشرة: الصلاة على التراب دون حائل كفرش ونحوه:
لا حرج أن يصلي المرء على التراب، بل رغّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، كما روي عن سلمان -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تمسحوا بالأرض فإنها بكم برَّة" (رواه الطبراني في الصغير وصححه الشيخ الألباني).
المسألة التاسعة عشرة: مسألة الصلاة في النعال:
يجوز الصلاة في النعال ما دامت لا يتصل بها نجاسة تمنع من صحة الصلاة، وهذه من محاسن الشريعة الإسلامية، فقد جاء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" (أخرج أبوداود والبزار والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
وجاء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إذا صلى أحدكم فليلبس نعليه أو ليخلعهما بين رجليه ولا يؤذي بهما غيره" (صحيح ابن خزيمة، وصححه الشيخ الألباني".
المسألة العشرون: تغطية الفم (في الصلاة):
فقد ورد النهي عن تغطية الفم في الصلاة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة" (أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم, وحسنه الشيخ الألباني).
والنهي هنا نهي كراهة، فإذا احتاج الإنسان لتغطية فاه لمرض أو تثاؤب، أو رائحة كريهة تؤذي من حوله، فلا شك أن الأفضل تغطيه الفم في مثل هذه الحالات.
المسألة الحادية والعشرون: ومن المسائل الفقهية التي تهم قاصدي الصحراء: حكم تسوية التراب في موضع السجود أثناء الصلاة: فعن معيقيب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمسح وأنت تصلي, فإن كنت لابد فاعلاً فواحدة تسوية الحصى" (رواه البخاري ومسلم).
والمقصود مسح التراب الذي يكون في موضع السجود، لا الذي يعلق على الجبهة.
المسألة الثانية والعشرون: مسألة الصلاة إلى النار
الصلاة إلى النار بالحطب من عادات المجوس، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التشبه بمثل هؤلاء، أما الصلاة في البرد الشديد إلى المدفأة أو الشمعة إذا احتاج الإنسان إليه ولم يكن يشغله ذلك عن التدبر في صلاته والخشوع فيها فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة والعشرون: مسألة إطفاء النار عند النوم:
يجب عند النوم إطفاء أي نار، إلا لضرورة شديدة، ولا يخفى أضرار إضاءتها وتركها ليلا؛ لذا نهى عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: احترق بيت بالمدينة على أهله فحُدث بشأنها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إن هذه النار إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم" (أخرجه البخاري ومسلم).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تناموا" (أخرجه البخاري ومسلم).
ومثلها المدفأة بأنواعها, لا تترك مشتعلة حال النوم؛ لما في ذلك من خطر (الاحتراق والاختناق) أيضًا، إلا إذا كانت هناك حاجة شديدة كشدة برد يصعب معه النوم، مع أخذ الاحتياط اللازم لذلك.
المسألة الرابعة والعشرون: تحريم قتل الحشرات والدواب بالنار:
نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حرق الدواب أو الحشرات بالنار؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" (أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني).
فلا ينبغي الإقدام على ذلك، وهناك وسائل أخرى كثيرة يمكن إبعاد الحيوانات والحشرات بها بدلاً من النار؛ لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.
وبهذا يعلم أيها الكرام عظمة هذا الدين الذي لم يدع شاردة ولا واردة إلا كان عندنا فيها من الله برهان .
فما من خيرٍ إلاَّ والنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- دلَّ أمَّته عليه، وما من شرٍّ إلاَّ حذَّر أمَّته منه. قال أبو ذرّ -رضي الله عنه-: "لقد تركَنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وما يقلب طائرٌ جناحيْه في السَّماء إلاَّ ذَكَر لنا منْه علمًا".
اللهم....