القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إننا بحاجة إلى تجديد الإيمان في قلوبنا وفي أعمالنا؛ سيَّما في وقت الشدائد والفتن: معاني الإيمان واليقين، وحسن الظن بالله والتسليم، والصبر، وصدق الولاء، والتضرع لله والدعاء، وحسن المجاهدة، وتهذيب النفوس وإصلاحها، والعبودية لله والاستعانة به وحسن التوكل عليه، والعمل بجدٍّ وفأل، وتوحيد الصف وجمع الكلمة، ومدافعة الباطل بلا يأس ..
الحمد لله الحمد لله الذي له الجلال والجمال والكمال، له الأسماء الحسنى والصفات العلا وهو الكبير المتعال، أنعم على خلقه بشرعه، وجعل القلوب مخاطبات بوحيه، فمنها ما اطمأنت ومنها التي ولت فولَّاها -سبحانه- ما تولت، ومنها التي دلت ثم زلت فمنه -سبحانه- يُرجى الثباتُ في الحياة وعند النزع وفي القبر بعد الممات.
أحمده -سبحانه- وهو للحمد أهلٌ، وأسأله العفو والصفح وهو ذو المنة والفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه -وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، وأخلصوا له في السر والنجوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]
حقيقٌ بمن اتقى الله أن يعلم أن يعلم أن لله يوما تُكَعُّ فيه الرجال، وتُنسَف فيه الجبال، وتترادف الأهوال، وتَشهَد الجوارح والأوصال، وتُبلى السرائرُ ويُكشفُ ما في الضمائر؛ فرحم الله من عمل لآخرته ولم تُلْهه الدنيا عن الآخرة الباقية.
أيها المسلمون: لما خلق الله الأرض ودحاها ووضع فيها زينتها وقدَّر فيها أقواتها - أسكنها خلقه من الجن والإنس، وحتى يتم نعمته ويقيمَ حجته والى فيهمُ النبواتِ، وأنزل فيهم الشرائع وبعث إليهم الرسالات، وجعل الهدى والنور الذي جاء به الأنبياء هو تاجُ نعمه وذروةَ سَنامِ فضله؛ فلا زينةُ الدنيا، ولا ممالكُ الأرض، ولا خيراتُ الحياة، ولا كنوزُها تَعدِل نعمةَ الهدى والنور الذي جاء به رسل الله من لَدُنْه؛ إذ كيف تساوي هداية السماء بمتاع الأرض؟! وكيف يقايس ما عَاقِبتُه الحسنى وجنةُ الخلد بما مآله الفناءُ والزوال؟!
وجعل الله حملةَ ميراث الأنبياء ومعتنقي شِرْعة السماء هم خيار أهل الأرض في الأرض؛ فهم الذين خالط وحيُ الله شغافَ قلوبهم، واستضاءوا بنور الله في دروبهم، وهم الذين ذلت جوارحهم وانقادت نفوسهم لشرع الله.
عباد الله: ولما كان دينُ الله عزيزاً وشريعته غالية؛ فإنه لا يستحق حملَها إلا خيارٌ من خيار، فكانت الابتلاءاتُ والمحن تعرض للمؤمنين والأذيةُ والفتن تحيط بالمصدقين حتى لا يبقى على الدين إلا من يستحقه وليعلم الله الذين صدقوا.
الفتنة والابتلاء سنة جارية في الأولين والآخرين.
بسم الله الرحمن الرحيم: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1- 3].
إن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال، بل هو حقيقة ذات تكاليفَ وأمانةٌ ذات أعباء وجهادٌ يحتاج إلى صبر، والله -تعالى- يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكنَّ الابتلاءَ يكشف في عالم الواقع ما هو معلومٌ لله -تعالى- فيحاسب الناس على ما يقع من عملهم؛ فهو فضل من الله وعدل وتربيةٌ للمؤمنين وصقل.
والفتن والابتلاءات أنواعٌ وصور: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35 ]؛ فمنها السراء والضراء، ومنها الفتنة بانتشار المنكرات وغلبة الأهواء، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم وكثرة الاختلاف، وخلط الحق والباطل.
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يملك النصر لنفسه ولا المنعة.
ومن الفتنة أن يعيش المؤمن بدينه كالغريب بين الناس؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَدَأَ الإسْلامُ غرِيبًا، وسَيَعُودُ غرِيباً كَمَا بَدَأ؛ فَطُوْبَى لِلْغُربَاء" رواه مسلم.
أيها المسلمون: الحديث عن الثبات وقت المحن والصبر في البلاء والفتن حديثٌ موجه إلى عموم المؤمنين من الأخيار والصالحين والدعاة وطلبة العلم والمحتسبين حين يتسرب الوهن والإحباط إلى بعض المسلمين، ويرون تسلط الأعداء والمرجفين، ومن يُشعل فتيل الخلافات ويثير النزاعات ويطرحون الأفكار الغريبة المشتتة.
وإذا كان أثرُ العلماء والمصلحين ظاهراً في تسكين الناس وتثبيتهم على الحق حين الشدائد وكثرة الفتن - فإن ثمة مرجفين يجدون -في أوقات ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها- فرصاً لترويج باطلهم وتشكيك الناس في عقائدهم؛ يسخرون من الدين ويلمزون المطوعين من المؤمنين، ويُسهمون في إحباط الأمة وتخاذلها وتمييع مبادئها لتضييع هويتها.
لا تحْذُوا حـذَو عصـابةٍ مفتونةٍ
أيها المسلمون: أيها الأخيار والصالحون: لقد قص الله علينا في كتابه، وروى لنا رسوله في سنته من سِيَر الأمم السابقة وأتباع الديانات السالفة، وقوة اطمئنان القلب لما جاء عن المرسلين -على كثرة الصوارف وشدة بأس المخالف- ما يبين معه أن إيمانهم لو وُزِنَ بالجبال لرجح بها؛ فهذا يُنشَرُ بالِمنشار من رأسه إلى قدميه ما يتزحزح عن دينه، وأولئك تُخدَّد لهم الأخاديدُ فتُسجَر بالنار ثم يقذفون فيها.
كما ضرب لنا نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه الكرام أروعَ الأمثلة في الثبات على الدين؛ مما أوصل لنا الدين كاملا والعقيدة نقية صافية حتى اعتنقها ملايين البشر وعمَّتِ السهلَ والوعر.
وفي كل زمان فتنٌ وابتلاءات؛ ومع ذلك يبقى الدينُ ويبقى الخير، وفي زماننا هذا -ويالزماننا!!- زمنِ زلزلة المفاهيم وخلخلةِ الثوابت وتقلبِ الآراء وانتكاس المبادئ.. زمنِ إعادة النظر في كل شيء دينيٍّ وإِرْثٍ عقديٍّ.. زمنِ السخرية من الدين وأهله وانتقاص الشريعة وحَملتِها، حتى كثر المتساقطون على الطريق واستحكم اليأس في بعض النفوس.
فصار الباعثُ على إعادة النظر في بعض أحكام الشريعة المستقرة ليس دليلا راجحا أو مأخذاً واضحاً، إنما الباعث ضغط الواقع أو اتباع الهوى ومسايرةُ الناس.
أيها المسلمون.. أيها المؤمنون.. أيها الأخيار والصالحون: المؤمن لا يهن ولا يحبط ولا يستكين ولا ييأس ولا يستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا ينظر إلى الهالك كيف هلك، بل ينظر إلى الناجي كيف نجا.
إننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى الفأل والعمل والبشارة وتحفيز الهمم ومعرفة السنن؛ سنن الله في أوليائه وأعدائه، سنن الإدالة والنصر والمد والجزر؛ حتى يطمئن مؤمن ولا يغتر فاجر، ولئلا يكون كثرة الباطل مدعاةً لليأس والقنوط، وقد قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]، وقال: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وقال -سبحانه-: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام:116]
لا يجوز أن يضعف صاحب الحق أو يهين؛ فإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وامتداداً وانحسارا.. ضعفٌ وقوة، وفرقة واجتماع وغربة، وظهور وابتلاء، وتمكين ينطق بذلك وحي السماء، ويؤيده تاريخُ البشر.
وفي الخبر المتفق عليه قال هرقل لأبي سفيان: "هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينكم؟ قال: سجال، يُدال علينا مرةً ونُدَالُ عليهِ أخرى، قال: كذلك الرسلُ تُبتَلَى ثم تكونُ لهمُ العاقِبة".
حكمةٌ بالغة وسنةٌ ماضية: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43 ]، (... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...) [آل عمران:140]
أخرج الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأتي على النَّاسِ زمَانٌ الصَّابرُ فيهِم عَلى دِينِه كالقَابِضِ على الجَمْر"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: "ويلٌ للعرَبِ منْ شرٍّ قد اقترَب؛ فِتنًا كقِطعِ الليل المظْلمِ يُصبحُ الرَّجلُ مؤمِنًا ويمسي كافرا؛ يبيعُ قومٌ دينَهُم بعَرَضٍ منَ الدُّنيا قليل، المتمسِكُ يومئذٍ بدينِهِ كالقَابِضِ على الجمر" أو قال: "على الشَّوك" حديث صحيح رواه الإمام أحمد.
إنها ابتلاءاتٌ وإدالات، والشدائد كاشفات لأصحاب النفوس كبيرة والذين لا تزيدهم إلا صبراً ويقيناً وحزماً وعزماً.
إخوة الإسلام.. إخوة الإيمان: إننا بحاجة إلى تجديد الإيمان في قلوبنا وفي أعمالنا؛ سيَّما في وقت الشدائد والفتن: معاني الإيمان واليقين وحسن الظن بالله والتسليم، والصبر، وصدق الولاء، والتضرع لله والدعاء، وحسن المجاهدة وتهذيب النفوس وإصلاحها، والعبودية لله والاستعانة به وحسن التوكل عليه، والعمل بجدٍّ وفأل، وتوحيد الصف وجمع الكلمة، ومدافعة الباطل بلا يأس.
وكل هذه المعاني حققها المؤمنون السابقون في مُثُلٍ تُقوِّي العزائم وتشحذ الهمم، واقرأوا ما قص الله في القرآن من سيرة الرسل الكرام حتى قال الله -تعالى- في الختام: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120]. قال الماوردي -رحمه الله-: "أي نقوي به قلبك وتسكن إليه نفسك؛ لأنهم بُلوا فصبروا، وجاهدوا فظفروا" انتهى كلامه -رحمه الله -.
واقرأ في سيرة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وكيف كان الفأل والعمل في أحلك الظروف والمواقف: فيبشر بظهور الدين وهو طريدٌ بين مكة والطائف -كما أخرجه ابن سعد في (الطبقات)- ويعِد سُراقةَ بسواريْ كِسرى وهو مُطاردٌ في الهجرة، وتحاصر المدينة بعشرة آلاف مقاتل وتنقض اليهود عهدها؛ فيبشر ببشارته الثلاث عند ضربه الصخرة التي عرضت -كما في صحيح البخاري-.
ودرج الصحابة -رضي الله عنهم- وتربَّوْا على هذه المثل؛ فهذا أبو بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-يقف في أحلكِ المواقف حين ارتدتِ العربُ ووقف جيش أسامة بين خطر الروم وبلاء المرتدين، فيثبت أبو بكرٍ وحده حتى يثبِّت الله المؤمنين، وينفِد للروم جيش أسامةَ، ويقاتل المرتدين في اليمامة، ويحفظ الله الدين بمواقف المؤمنين.
إن الثبات يحتاج إلى عزيمةٍ وجد وإيمانٍ ويقين.
أيها المؤمنون: وللدعاء أثرٌ عظيم في الثبات والنصر، والاستعاذة من الفتن واردة في الصحيحين، وفي الحديث المتفق عليه: "وأعُوذُ بِكَ مِنْ فتنةِ المحيَا والممَات".
وما انتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر حتى سقط رداؤه من على منكبه دعاءً وتضرعا.
والعلم النافع يميِّز به المسلمُ بين الحق والباطل حين تلتبس الأهواء، والسير في ركاب جماعة المسلمين أمنٌ من الفتنة، كما في حديث حذيفة المُخرَّج في الصحيحين.
ومن سيماء المؤمنين: التثبتُ من الأخبار خاصة فيما يتعلق بالدين وحملته؛ أما التَّخوُّض في الباطل واعتماد أخبار الفساق والاتكاء على الحكايات والقصص الغريبة - فذلك شأن الجهلة والغوغاء.
عباد الله: إن مرحلة الضعف والانحسار تدعو إلى إعادة بناء الأمة وتسهم في مراجعة حالها مع ربها، وكلما اشتدت الفتن وتلاحقت كلما اشتدت الحاجة للعبادة حيث ينشرح صدر المؤمن ويطمئن قلبه، ويحرسه الله من وسوسة الشياطين وإغوائهم.
والعبادة وقت الفتن هي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته حيث قال: "بادِرُوا بالأعمالِ الصالحةِ فتناً كقِطعِ الليلِ المظْلِم يصبحُ الرجلُ مؤمِناً ويُمسِي كافِرا" رواه مسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "العبادةُ في الهَرْج كهجرة ٍإليَّ" رواه مسلم.
فرقٌ بين من يتخوض في لُجَّة الفتن وبين من يركن إلى الله -تعالى- ويهاجر بقلبه إليه، ويتملق بين يديه ويدعو إلى سبيله ويسعى إلى الإصلاح وتسكين الفتن وتثبيت الناس على الحق ودلالتهم عليه، فرق بين من ينشر الخير ويزكيه وبين من ينشر العيوب والإحباط والتثبيط.
إنها سلبية لا تليق بالمسلم، ومن قال: "هلك الناس فهو أهلكهم"، والمؤمن -أبداً- قائم على سفينة المجتمع ألا تكثر خروقها، وليس عليه إلا السعيُ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]
لقد قيل لمن هو خيرٌ منا: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) [الشورى:48] وقال من هو خيرٌ منا: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) [هود:88].
والمسلم يلزم نفسه بمجالس الصلاح ويهرب من مواطن الريَب والفساد: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف:28].
وجماع كل الوصايا وجماع كل الوصايا ما وصى الله -تعالى- به رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- في آخر سورة الحجر؛ حيث قال الله -سبحانه-: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:87-99].
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشرٌ لا يملك أن يضيق صدره وهو يسمع الشرك بالله والاستهزاء بدعوة الحق فيغار ويضيق بالشرك والانحراف؛ لذلك يؤمر بالتسبيح والحمد والعبادة والثبات حتى يأتيه الأجل، فيُعرِض عن الكافرين ويلوذ بجوار الرب الكريم؛ ويؤمر بالصدع والبيان لأن الصدع بالحق والجهر به ضرورةٌ في الدين لتتنبهَ الفطرة الغافلة وتتعلمَ الأمم اللاهية: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42].
أما جعلُ العقيدة والشريعة عضين يُعرض جانب ويُوارى جانب مراعاةً للجماهير وأهواء الناس فهذا خلاف ما أُمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والصدع بالحق لا يعني الغلظة المنفرة ولا الخشونة والتعالي، كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني إخفاء الحق وكتمانه؛ إنه البيان الكامل في حكمةٍ ولطف، ولينٍ ويسر: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:88].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الحمد أول كتابه وآخر دعوى أحبابه ساكني دار ثوابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيداً وتقديساً لجنابه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن الصبر وصية الله للرسل والأنبياء والصلحاء والأولياء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]
الصبر رفيق الدرب حين تظلم الدنيا، والصبر منحةٌ من الله للثبات على الحق، وحين يغتر الدهماء بالباطل إذا تكاثر واستشرفت له النفوس وتطاولت له الأعناق: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]
الصبر هو الواحة الخضراء لمن فقد الظل في الصحراء، وفي خطاب الله لرسوله الكريم: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34]
وبعد أن ذكر الله قصة نوحٍ -عليه السلام- والذي دعا قومه عشرة قرون حتى نصره الله قال الله -تعالى- لنبيه: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49].
وبعد المعارك الطاحنة في سورة (آل عمران) ونزال المشركين وجدال الكتابيين وذكر أحوال المنافقين؛ ختم الله السورة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]
وإذا علم الله صدق النوايا، وتميز الصابرون الصادقون، وانقطعت العلائق بأسباب الأرض، وتعلقت بالله القلوب - تحققت سنة الله: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا) [يوسف:110]
وأخيراً: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الزخرف:43]
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء -أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي- وعن صحابة نبيك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة.
اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يا رب العالمين.
اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخْرِجْ أمة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من بينهم سالمين.
اللهم ادفع عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح أحوال المسلمين. اللهم أصلح أحوال المسلمين. اللهم احقن دماءهم وآمنهم في أوطانهم، وأرغد عيشهم، واجمعهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُأمر فيه بالمعروف ويُنهَى فيه عن المنكر ياسميع الدعاء.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا ولولدينا ووالديهم وذرياتهم ولجميع المسلمين، اللهم اغفر ذنوبنا. اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسر أمورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا. اللهم أغثنا. اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحًّا غدقًا طبقًا مجللا نافعًا عامًّا غير ضار ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام، اللهم تسقي به العباد وتحيي به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام. ياحي يا قيوم ياذا الجلال والإكرام. ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.