البحث

عبارات مقترحة:

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

فاذكر مصابك بالنبي محمد

العربية

المؤلف خالد القرعاوي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. تأملات في جوانب العظمة النبوية .
  2. مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- .
  3. أهم وصايا النبي –صلى الله عليه وسلم- في مرض موته .
  4. وجوب العناية بفريضة الصلاة. .

اقتباس

نَعلَمُ أنَّ الحديثَ عن الْمُصْطَفَى -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- يَأْسِرُ القُلُوبَ ويُجري المَدَامِعَ! وَلَكِنَّهُ بِحَقٍّ يُقَوِّي العَزَائِمَ, ويُثَبِّتُ على الطَّرِيقِ! فَليسَ الحَدِيثُ عن وَفَاةِ نَبِيِّنا لِلتَّحزُّنِ واستِدرَارِ العَوَاطِفِ! كلاَّ وَرَبِّي إنَّما هِيَ عِظَاتٌ وعِبَرٌ، فقد كانت حَيَاتُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- دَعوةً وجِهَادَاً، وَوفاتُهُ كَذلِكَ هدايةً وإرشادًا! ألا تَعْلَمُونَ يا كِرامُ أنَّهُ بِمُجَرَّدِ نَبَأِ وفاتِهِ خَرَجَ فِئَامٌ عن الدِّينِ! وَرَفعَ البَاطِلُ رَأسَهُ! وطَمِعَ الشَّيطانُ في القَومِ! فَنَتَعَلَّمُ من تِلْكَ المَوَاقِفِ الطَّرِيقَ الأَقوَمَ!...

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله جَعَلَ الموتَ وَسِيلَةً لِلقَائِهِ, نشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ في رُبُوبِيَّتِهِ وَعَليائِهِ أَكرَمَ المؤمنينَ بجنَّتِه ونَعمَائِهِ, وَنَشهَدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ اخْتَارَهُ اللهُ على سَائِرِ أَوليائِهِ, صَلَواتُ رَبِّي وسلامُهُ وَبَرَكَاتُهُ على الرَّحمةِ الْمُهداةِ, وآلِهِ وأَصحَابِهِ الهُدَاةِ ومن تَبِعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الْمَمَاتِ.

أمَّا بعدُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

مَعَاشِرَ المُؤمِنينَ: الحَدِيثُ عن الْمُصطَفى -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- يَأسِرُ القُلُوبَ, ويُجْرِي المَدَامِعَ! وَيُشَنِّفُ الآذَانَ, ومع ذلكَ فهو يُقَوِّي العزائمَ ويَشْحَذُ الْهِمَمَ! لأنَّ مَولِدُه -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- نُورٌ, وَهِجْرَتُهُ عِزٌّ لِلإسلامِ, بَلْ إنَّ في وَفَاتِهِ اكْتِمَالاً لِبَدْرِ الإسلامِ وَعَزَاءً لِجَميعِ الأَنَامِ! أَتعْلَمُونَ يَا كِرَامُ: أنَّ تلكَ الأَحدَاثِ كُلِّها حَدَثَتْ في مثلِ شهرِكُمْ هذا؟!

 اللهُ أكبرُ عبادَ اللهِ: لقد اختارَ اللهُ مُحمَّداً لِيكونَ لِلعالَمِينَ بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَنزَلَ عليه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ) [المدثر: 1- 2]، فقَامَ في الرِّسَالَةِ أَتَمَّ القِيامِ، وَشَمَّرَ بِكُلِّ عَزمٍ وإتمَامٍ, ثَلاثَاً وعِشريِنَ عامَاً! لاقَى فيها المَتَاعِبَ والمَشَاقَّ, فَشَاءَ اللهُ –تَعَالَى- أنْ يَجمَعَ بَينَ يَدَيهِ المُسلِمينَ على صَعِيدِ عَرَفَاتَ, فَأَلْقَى نَظرَةً أَخِيرَةً على أَصحَابِهِ بعدَما أَنزَلَ اللهُ قولَهُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3]، حينَها بَكى ابنُ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عنه وَأرضَاهُ-، وَقَالَ: "واللهِ لَيسَ بَعدَ الكَمَالِ إلَّا النُّقصَانُ".

 وفي أَيَّامِ التَّشرِيقِ أنْزَلَ اللهُ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1]، فقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: "أَجَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، لَقَدْ نُعِيَتْ لَهُ نَفسُهُ".

مَعَاشِرَ المُؤمنينَ: نَعلَمُ أنَّ الحديثَ عن الْمُصْطَفَى -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- يَأْسِرُ القُلُوبَ ويُجري المَدَامِعَ! وَلَكِنَّهُ بِحَقٍّ يُقَوِّي العَزَائِمَ, ويُثَبِّتُ على الطَّرِيقِ! فَليسَ الحَدِيثُ عن وَفَاةِ نَبِيِّنا لِلتَّحزُّنِ واستِدرَارِ العَوَاطِفِ! كلاَّ وَرَبِّي إنَّما هِيَ عِظَاتٌ وعِبَرٌ، فقد كانت حَيَاتُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- دَعوةً وجِهَادَاً، وَوفاتُهُ كَذلِكَ هدايةً وإرشادًا!

ألا تَعْلَمُونَ يا كِرامُ أنَّهُ بِمُجَرَّدِ نَبَأِ وفاتِهِ خَرَجَ فِئَامٌ عن الدِّينِ! وَرَفعَ البَاطِلُ رَأسَهُ! وطَمِعَ الشَّيطانُ في القَومِ! فَنَتَعَلَّمُ من تِلْكَ المَوَاقِفِ الطَّرِيقَ الأَقوَمَ! وصَدَقَ اللهُ : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، و«إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» (صحيح البخاريّ).

عباد الله: لَقَدْ كانَ عن الْمُصْطَفَى -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- يُرَدِّدُ على الحُجَّاجِ: «لِتَأْخُذُوا عنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ, لِعَلِّي لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا»، وَقَبْلَ أنْ يَترُكَ مَكَّةَ حاجَّاً وَدَّعَ الكَعبَةَ المُشَرَّفَةَ، ثُمَّ عادَ إلى المَدِينَةِ النَّبَويَّةِ، لِتَبكي المَدِينَةُ مَرَّةً أُخرى, لا مِن الفَرَحِ كَمَا كانَ عِندَ مَقدَمِهِ الأوَّلِ، ولَكنْ حَزَنَاً لِمَا حلَّ بِهِ من مَرَضٍ!

وأوَّلُ مَعَالِمِ مَرَضِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- وجَعٌ في رَأْسِه وحَرَارَةٌ اشتَدَّتْ عليهِ حتى كانوا يَجِدونَ سَورَتَها من فَوقِ عِصَابَتِه! ومن عَلامَاتٍ قُربِ أَجَلِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- أنْ أَتَاهُ جِبْرِيلُ -عليهِ السِّلامُ- ذاتَ لَيلَةٍ فَقَالَ: "إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ"، فَخَرَجَ إليهم وَوَدَّعَهم وَدعَا لهم طويلاً! ثُمَّ ثَقُلَ برسولِ اللهِ المرضُ فجعلَ يسألُ أزواجَه: "أينَ أنا غداً"؟ فَفَهِمْنَ مُرَادَهُ، وانتقلَ إلى بيتِ عائشةَ -رضي الله عنها- فَمَكَثَ عِنْدَها.

 وفي يَومٍ وَجَدَ نَشَاطًا فَخَرَجَ إلى النَّاسِ لِيعْهَدَ إليهم, فصلَّى بهم وَخَطَبَهُم، وَقَالَ: «عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ»، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وقَالَ: "فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا", فَقَالَ لهُ رَسُولُ اللَّهِ: "لا تَبْكِ يا أَبَا بَكْرٍ"، «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً».

فَأَمَرَهُ أنْ يُصلِّيَ بالنَّاس فَجَلَسَ رسولُ الله في بيتِهِ ولم يَخرُجْ منهُ! فَوجَدَ يَومَاً كَذَالِكَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً ونَشَاطًا، فَخَرَجَ يُهادَي بينَ رَجُلَينِ ورِجْلاهُ تَخُطَّانِ من الوَجَعِ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَشاَرَ إليهِ النَّبيُّ أنْ مَكَانَكَ فجلَسَ إلى جَنْبِ أبي بكرِ. ثمَّ اشتَدَّ الوجعُ بِرَسُولِ اللهِ-صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-, فَكَانَ كُلَّما أفاقَ قالَ: "هل صلَّى النَّاسُ؟ هل صلَّى النَّاسُ؟".

 وفي فجرِ الاثنينِ الثَّانيَ عَشَرَ من شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ والصحابةُ قد اصطفُّوا خلفَ أبي بكرٍ يُصَلُّونَ إذْ رَفَعَ رسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- السِّترَ عن غُرفتِهِ وبَرَزَ للنَّاسِ فكادوا يُفتَنُونَ عن صَلاتِهِم فَتَبَسَّم فَرِحَاً وعادَ إلى مَنزلِهِ.

 ثُمَّ في الضُّحى جاءَتُهُ سَكَرَاتُ المَوتِ، فَكانَ يُدخِلُ يَديهِ في الإناءِ ويُرَدِّدُ: "اللهمَّ أَعنِّي على سَكَرَاتِ الموتِ"، ويقَولُ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لا يجتمعُ دِينَانِ بأرضِ العَربِ».. لا إله إلا اللهُ إنَّ للموتِ لَسَكرَاتٍ، بَلِ الرَّفِيقُ الأعلى، بلِ الرَّفِيقُ الأعلى, مع الذينَ أنعمتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. الصَّلاةَ الصَّلاة وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم حتى جَعَلَ يُلَجْلِجُها في صَدْرِه وما يَفِيضُ بِهَا لسانُه. فَلَمَّا تَغَشَّاهُ الكَرْبُ، قَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَربَ أَبَتَاهُ فقَالَ: "لَيْسَ عَلَى أَبيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ".

أَقبَل عليهِ مَلَكُ المَوتِ لِيُنَادِيَ رُوحَهُ الطَّاهِرَةَ: أَيَّتُها الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ، اخرُجِي إلى مَغفِرَةٍ مِن اللهِ ورِضوَانٍ وَرَبٍّ رَاضٍ غَيرِ غَضَبانَ، لَقَد تُوفِّيَ رسولُ الله في بَيتِ عَائِشَةَ وفي يَومِها وبينَ سَحْرِها ونَحرِها بَعدَ ماستَاكَ أحسَنَ ما كان استِنَانَاً، فَمَا عَدا أَنْ فَرَغَ من السِّواكِ حتى وَضَعَ يَدَهُ، ثمَّ قَالَ: "في الرَّفِيقِ الأعلى"، ثُمَّ قَضَى رَسُولُ الله-صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-!

فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبَّاً دَعَاهُ! يَا أَبتَاهُ! جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأْوَاهُ! يَا أَبَتَاهُ, إِلَى جبْريلَ نَنْعَاهُ! وَعَائِشَةُ تَصرُخُ وَتَبْكِي وَتَخرُجُ وهيَ تَقُولُ: مَاتَ رَسُولُ اللهِ، مَاتَ خَيرُ خَلقِ اللهِ، مَات إِمَامُ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدُ المُرسَلِينَ، فَيُقَابِلُها عُمَرُ, وَيُشهِرُ سَيفَهُ وَهُوَ في نَاحِيةِ المَسجِدِ وَيَقُولُ: واللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ، ولا يَمُوتُ حتى يَقطَعَ أَيدي المُنَافِقِينَ وَأَرجُلَهُم.

عند ذلك أَظْلَمَتْ المدينةُ على أهلِها, وضاقت عليهم أرجَاؤها, وانطفأَ عليهم ضِياؤها, حقَّا لقد انْدَهَشَ النَّاسُ فلم يُصَدِّقوا الخَبَرَ! حتى جاءَ أبو بكرٍ فَدَخَلَ على عائشةَ فَوَجَدَ رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- مُسَجًّى فَكَشَفَ عن وجْهِهِ وأَكَبَّ يُقَبِّلُهُ ويَبْكِي ويقولُ: بأبي أنتَ وأمِّي يا رسولَ اللهِ, إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ طبتَ حيَّاً وميِّتاً فَصَعَدَ المِنبرَ وعمرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ, فحمدَ الله وأثنى عليه، وقَالَ: أمَّا بعدُ. فمن كان يعبدُ مُحمَّداً فإنَّ مُحمَّداً قد ماتَ، ومن كان يعبُدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يَمُوتُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، فبدأَ الناسُ يُرَدِّدُونَ الآيةَ وكأنَّهم لمْ يَقْرَؤُهَا مِنْ قَبلُ!

وَرَاحُوا بِحُزنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيهُم وَقَد

وَهَنَت منهم ظُهُورٌ وَأَعضُدُ

يُبْكُّونَ مَنْ تَبكِي السَّمَوَاتُ يَومَهُ

وَمَن قَد بَكَتهُ الأَرضُ فَالنَّاسُ أَكمَدُ

وَهَلْ عَدَلَتْ يَوماً رَزِيَّةُ هَالِكٍ

رَزِيةَ يَومٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ

لَقَد غَسَّلُوا رَسُولَ اللهِ وَعَليهِ ثِيَابُهُ, فَصاروا يَصُبُّونَ المَاءَ فَوقَ القَمِيصِ وَيَدلِكونَهُ!

فلو أنَّ رَبَّ العَرشِ أَبقَاكَ بَينَنَا سَعِدنَا، وَلَكنْ أَمْرُهُ كَانَ مَاضِياً، فاللهمَّ احشُرنا تَحتَ لِوائِهِ، وأَورِدْنَا حَوضَهُ، واسقِنَا بِيدِهِ شَربَةً هَنِيئَةً مَرِيئَةً يَا رَبَّ العَالَمينَ.

أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ الله لي ولكم فاستغفروه من كلِّ ذَنْبٍ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ .

الخطبة الثانية:

 الحمدُ للهِ كَتَبَ الفَنَاءَ على أَهلِ هذه الدَّارِ وجعلَ الآخرةَ هيَ دَارُ القرارِ, نَشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ذو العِزَّةِ والاقتدارِ, ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه المُصطفى الْمُختَارُ, صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه الأخيارِ, ومن سارَ على نهجِهِمُ إلى يَومِ القَرَارِ.

 أمَّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ: وَتَفَكُّروا وَتَأمَّلوا في وَفَاةِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ فَهِيَ خَيرُ واعظٍ لَنا وَزَاجِرٍ! لقد تُوفِيَ رَسُولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- وغُسِّلَ وكُفِّنَ وَدُفِنَ في مَكَانِه الذي ماتَ فيهِ! لقد تُوفِيَ رَسُولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- عن ثلاثٍ وستينَ سَنَةً قَضَاها في الدَّعوةِ والإصلاحِ, والهِدَايَةِ والإرشَادِ! وصَلَّى عليه الرِّجالُ والنِّساءُ والصبيانُ أَرْسَالاً دونَ أنْ يَؤُمَّهُم أَحَدٌ! لقد تُوُفِّيَ رَسُولُ الله بعد ما تَرَكَنَا على مَحَجَّةٍ بَيضَاءَ, لا يَزِيغُ عنها إلاَّ أَهْلُ الضَّلالِ والأهواءِ.

 يا مُؤمِنُونَ: ما بَالنا لا نَتَّعِظُ بِموتِ إمامِ المُتَّقينَ وحَبِيبِ رَبِّ العالمينَ فَلَعَلَّنَا نَظُنُّ أَنَّنا مُخلَّدونَ! أو أنَّنَا معَ سوءِ أفعَالِنا عندَ اللهِ مُكرمُونَ!

 لقد التَحَقَ الْمُصطَفَى بالرَّفِيقِ الأعلى, وحُبُّه في قلوبِنَا مَغْرُوسٌ وسِيرَتُه وشَرِيعَتُه في الجوارحِ والنُّفوسِ, والحُبُّ الصَّادَقُ يَكونُ بالإتِّباعِ لا الابتِدَاعِ! وَبِمَحَبَّةِ سُنَّتِهِ ونُصْرَةِ شَرِيعَتِه! فَمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَهُ فَليتَّبِعَ سُنَّتَهُ إلى يومِ الدِّينِ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31].

 لَقد كَانَ رَسُولُنا -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- حَرِيصَاً علينا عَقِيدَةً وعِبَادَةً وسُلُوكاً وَمَنْهَجَاً حتى وهو يَجُودُ بأنفاسِهِ الشَّريفةِ, يأمرُ بالمعروفِ ويَنْهى عنِ الْمُنْكَرِ! فما أصْدَقَهُ وأَنْصَحَهُ! حقَّاً (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].

من العِظَاتِ يا مؤمنُونَ: نُدرِكُ حِرْصَ الرَّسُولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- على جَنَابِ التَّوحيدِ وَوُجُوبِ تَنْقِيَةَ أَرْضِ الجزيرةِ من مَظاهرِ الشِّركِ والضَّلالِ وما ذَاكَ إلا لِخَطَر بقاءِ اليهودِ والنَّصارى في جزيرةِ العربِ فهي جزيرةُ الإسلامِ وحصنُهُ الحَصِينُ! فما بالُ كَثِيرٍ من إخوانِنا يَتَسَاهلونَ باستِقدامِ الكَفَرَةِ إلى بلادِ الحرَمَينِ ويَتَحَجَّجونَ بِحُجَجٍ واهِيَةٍ! وأَعذَارٍ مَكرُورَةٍ!

مَعَاشِرَ الشَّبابِ: أَأدرِكتُم حِرْصَ الرَّسولِ الأكْرَمِ على إقامةِ الصَّلاةِ والوصيَّةِ بها؟ حتى وهوَ يَجودُ بِنَفسِهِ وأَنْفَاسِهِ الشَّرِيفَةِ يَقُولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "الصَّلاةَ الصَّلاة, هل صَلَّى النَّاسُ؟!". فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِن شَبَابِنا وَعُمَّالِنا عن صلاتِهم ساهونَ؟ وفي شَبَابِهم وَعَمَلِه لا هونَ, ألا يَظُنُّ أولئكَ أنَّهم مَبعُوثُون! ليومِ عَظيمٍ يومَ يَقومُ النَّاس لِرَبِّ العَالَمِينَ!

 أيُّها المُؤمِنُونَ: أدرَكْتُم عِظَمَ مَنزِلَةَ أبي بكرٍ فقد نَصَرَ اللهُ به الدِّينَ وثَبَّتَ به المؤمنينَ فَجَزَاهُ اللهُ عنَّا وعن المُسلِمِينَ خيراً, فأينَ أهلُ الرَّفضِ الذينَ يَسُبُّونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ, ألا لعنَةُ اللهِ على الظَّالِمينَ. فواللهِ لَيسَ بَعدَ الأَنبِيَاءِ مَنْ هو خَيرٌ مِنهُ.

عبادَ اللهِ: في وفاةِ نبيِّنَا تَسْلِيَةٌ لِكُلِّ مَكْرُوبٍ! فمن أُصيبَ بِمُصِيبةٍ فَلْيَذكُرْ مُصَابَ الأُمَّةِ بِرَسُولِها فإنَّها تَخِفُّ عليه كُلُّ المَصَائِبُ, أيُّها المؤمنونَ: لقد قال المولى قولاً كريمَاً تَشريِفَاً لِنَبِيِّنَا وتَكرِيمَاً, وإرشَادَاً لنا وتَعْلِيمَاً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]. فاللهم صلِّ وسلِّم وبَارِك على نَبِيِّنَا وقُدْوَتِنَا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن والاه.

اللهمَّ إنِّا نشهدُ أنَّه بلَّغَ الرِّسالةَ وأدَّى الأمانَةَ ونَصحَ الأُمَّةَ وجاهدَ في الله حقَّ جهاده

اللهمَّ اجزه عنَّا وعن المسلمين خيرَ الجزاءِ.

جزا اللهُ عنَّا كُلَّ خيرٍ مُحمَّداً

فقد كَانَ مَهديَّاً وقد كانَ هَادِيَاً

اللهمَّ ارزقنا إتِّبَاعَ سُنَّتِه والتمسُّكَ بها ظاهرا وباطنا قولا وعملا واعتقادا.

اللهمَّ أوردنا حوضَه واسقنا من يده شربةً لا نظمأُ بعدها أبدًا يا ربَّ العالمينَ .

اللهمَّ إنَّا نسأَلُكَ إيماناً صادقاً ولِسانَاً ذَاكِرَا وعَمَلا صَالِحَاً مُتقَبَّلاً .

اللهمَّ ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة

ربَّنا اغفر لنا ولإخوانِنِا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنِّكَ رؤوفٌ رحيمٌ. (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].