الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
قِصَّة من القصص القرآنية، ذات مدلولاتٍ عجيبة، ووقائعَ فريدة، مليئة بالعِظات والعِبر. قصَّة تتعلَّق بشخصية كريمة، لنبيٍّ من الأنبياء، وما واجَهَه في حياته من حوادثَ ووقائع، وابتلاءات ومِحَن، جاءتْ تفصيلاتها في سورة سُمِّيت باسمه، إنَّها قصَّة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف -عليه السلام-.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنَّ خير الكلام كلامُ الله، وخير الهَدي هَديُ محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
إخوة الإيمان: قِصَّة من القصص القرآنية، ذات مدلولاتٍ عجيبة، ووقائعَ فريدة، مليئة بالعِظات والعِبر.
قصَّة تتعلَّق بشخصية كريمة، لنبيٍّ من الأنبياء، وما واجَهَه في حياته من حوادثَ ووقائع، وابتلاءات ومِحَن، جاءتْ تفصيلاتها في سورة سُمِّيت باسمه، إنَّها قصَّة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف -عليه السلام-.
جاء في الآية الثالثة من السورة: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3]، وخُتِمتْ في آخِر آية منها بقوله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
وسنقِف مع أجزاء مِن هذه القصة، ونذكر بعضَ ما أشار إليه أهلُ العلم من الفوائد والعِبر، وسيكون ذلك في عِدَّة خُطبٍ -إن شاء الله-.
قال الله تعالى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)[يوسف: 4]، فأوَّلها يعقوب -عليه السلام- بأنَّ الشمس: أمُّه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنَّه ستنتقل به الأحوالُ إلى أن يصيرَ إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكرامًا، فكانتْ هذه الرؤيا مقدِّمة لما وصل إليه يوسف -عليه السلام- مِنَ الارتفاع في الدنيا والآخرة، فقال يعقوب -عليه السلام- عندئذٍ: (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يوسف: 5]، فيعقوب -عليه السلام- خَشِي أن يَحسُدَهُ إخوتُهُ؛ لأنَّ الشيطان عدوٌّ لا يفتر.
وتأمَّلْ هذا الخطاب الأبويَّ، والأسلوب التربويَّ الرائع، الذي هو أقربُ إلى الإقناع، ومن ثَمَّ التطبيق والانتفاع، فيعقوب -عليه السلام- حين نهاه عَلَّل له ذلك، وبيَّن السبب: (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)، ثُمَّ علَّل أيضًا لِمَ يكيدون له: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، ثم قال: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف: 6].
ونِعمة الله على العبد، نعمةٌ على مَن يتعلَّق به مِن أهل بيته وأقاربه ومَن حوله، ونافعٌ في التربية إخبارُ الابن والبنت بمَن كان من أقاربهم على خِصالٍ حميدة، وصِفات كريمة.
وعودًا إلى القصة؛ رأى أبناءُ يعقوب من محبَّة أبيهم ليوسفَ وأخيه الشقيق (بنيامين) ما لم يكن لواحدٍ منهم، فغاظهم ذلك، وصاروا يَحقِدون على أخيهم، فأضمروا له الشَّرَّ، وائتمروا فيما بينهم على الخَلاص منه، وظنُّوا أنهم بهذا العمل يستأثرون بحبِّ والدهم، ثم يتوبون بعدَ ذلك من عملهم هذا: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف: 8 - 9].
لقد تشاوروا على قتْله، ولكن أحدهم كان أرشدَ وأعقلَ: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [يوسف: 10]، فالمقصود يحصُل بإبعاده عن أبيه من غير قتْل، واتَّفقوا على هذا الرأي.
ها هنا وقفة مع أولئك الآباء الذين يُفضِّلون بعضَ أبنائهم على بعض، ويُظهِرون ذلك، ويفرِّقون بينهم في العَطيَّة، فإنَّ هذا مما يوقِع العداوةَ والبغضاء بينهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) [يوسف: 11 - 14]، فأرسل يوسفَ معهم إلى البرية، وعندما خرجوا به نفَّذوا مخططَهم، فأنزلوه في بِئر وتركوه، ورجعوا في اللَّيْل يُظهرون الحزنَ، ويرفعون أصواتهم بالبُكاء؛ ليكونَ إتيانهم متأخرًا عن عادتهم وبكاؤُهم دليلاً لهم، وقرينةً على صِدقهم: (وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 16 - 18].
فلم يُصدِّقْهم أبوهم بذلك؛ لأنَّه رأى من القرائن والأحوال، ومِن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه، ما دلَّه على ما قال، وقال يعقوب: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)، وهو الصَّبر الذي لا شَكْوى فيه.
وانظرْ شؤمَ الذنوب، فالذنب الواحِد يستتبع ذنوبًا متعدِّدة، فهم هنا وقعوا في العقوق، وقطْع الرَّحِم، والاحتيال، والكَذِب، وكلها كبائر، ونواصِل في الخُطبة الثانية.
نفعني الله وإيَّاكم بالسُّنة والقرآن، ونفعنا بما فيهما من الهُدى والبيان، واستغفروا الله إنَّه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله اللطيف الخبير، الحكيمِ السميع البصير، وصلَّى الله وسلَّم على رسوله محمَّد، وعلى آله وصحْبه.
أمَّا بعدُ:
معاشرَ الكرام: فاستكمالاً للقصَّة: مرَّت قافلةٌ أمامَ البئر بلُطف الله -عزَّ وجلَّ- ورحمته، وكانتْ قاصدةً مصر، فذهب أحدهم ليأتيَ لهم بالماء من البئر، فلمَّا أدْلى دَلْوَه، تعلَّق به يوسف، حتى خرجَ من البئر، فأسَرَّه الواردون على الماء عن بقية القافِلة، وقالوا: اشتريناه وتبضَّعْناه مِن أصحاب الماء؛ مخافةَ أن يشاركوهم فيه إذا عَلِموا خبرَه؛ قاله مجاهد، وابن جرير، ولأهل العلم قولٌ آخر، وهو ما رُوي عن ابن عبَّاس مِن أنَّ قوله: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً)؛ يعني: إخوة يوسف، أسرُّوا شأنه، وكتموا أن يكونَ أخاهم، وكتم يوسف شأنَه؛ مخافةَ أن يقتله إخوته، واختار البيع.
(وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ) [يوسف: 19 - 20]، قيل: الضمير في (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) عائدٌ على القافلة، وقيل: عائدٌ على إخوة يوسف، ومعنى (شَرَوْهُ): باعوه؛ لأنَّهم كانوا زاهدين فيه، ورجَّح هذا ابنُ كثير، والله أعلم.
وبعدَ ذلك باعتْه القافلة في مصر، وكان الذي اشتراه وزيرَ الملِك، فأرسله إلى بيته، وأوْصَى زوجته بالإحسان إليه، فصار ليوسفَ بعدَ ذلك مقامٌ كريم في منزل وزيرِ الملِك، وأُلْهِم -عليه السلام- تفسيرَ الرُّؤى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21]، لا يعلمون حِكمتَه في خلقه، وتلطُّفَه لِمَا يريده.
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 22]؛ أي: وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ -أي: كمالَ قوَّته المعنوية والحِسيَّة-، وصلح لأنْ يتحمَّلَ الأحمال الثقيلة مِن النبوَّة والرِّسالة؛ آتيناه حُكْمًا وَعِلْمًا؛ أي: جعلناه نبيًّا رسولاً، وعالِمًا ربانيًّا.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)؛ أي: المحسنين في عبادة الخالِق، والمحسنين إلى عباد الله، يُؤتيهم مِن جُملة الجزاء على إحسانهم علمًا نافعًا، وكان الإحسانُ ونفْع الناس من سجايا يوسف -عليه السلام- كما وصَفَه أصحابُ الرؤيا في السِّجن: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 36].
وفي الحديث: "أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعُهم للناس". صحَّحه الألباني.
وللحديث بقيَّة فيما بعد -إن شاء الله-.
ثم صلُّوا وسلِّموا، اللهمَّ اجعل القرآن الكريم ربيعَ قلوبنا، اللهمَّ أصلح ولاةَ أمور المسلمين.