الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | خالد بن عبد الله المصلح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ما أعظم الخسارة! وما أكبر الغبن! مسكينٌ مَن هذه حاله! يأتي وقد اجتهد في الفرائض، وجدّ في أنواع النوافل، في ألوان من القربات والصالحات، ثم كل ذلك لا يجد له أثراً ولا يدرك له نفعا! فهو يجمع ولا ينتفع، ويتعب ولا يستفيد، إنه المفلس الحقيقي، وهذا هو أخطر إفلاس يمكن أن يتعرض له الإنسان!.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون عباد الله: الزموا التقوى؛ فإنه من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:2-3]. (فَهُوَ حَسْبُهُ) أي: كافيه ومُغنيه.
عباد الله: هذه الدنيا مزرعة يزرع فيها الناس أعمالهم، ويبذلون فيها سعيهم، ويتقربون فيها بأنواع وألوان من الأعمال، يخرجون منها ليس معهم من متعها ولا من ملذاتها شيء؛ بل يخرجون منها كما جاؤوا إليها، فقد جاؤوا عراة حفاة غرلا، أي: غير مختونين، يخرجون منها على نحو هذا الوصف في التجرد من كل ملذات الدنيا ومتعها وأملاكها.
يقول الله -جل وعلا-: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام:94].
هذه حال الإنسان عندما يخرج ويغادر هذه الدنيا، جاء وصف ذلك بالبيان في كلام من لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وآله وسلم.
في الصحيحين، من حديث أنس -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله"، كلهم يخرجون معه إلى مثواه ومأواه، إلى مدفنه وقبره، "يرجع اثنان ويبقى واحد، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله".
(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) [الإسراء:13]، (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ)، يعني عمله، (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، وهذا العمل موثق، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا)... كتاب منشور تستطيع أن ترى ما فيه وتبصر ما حواه.
الناس في سعيهم في هذه الدنيا على أنواع، وعلى طرائق، على اختلاف سعيهم في الدنيا يكون مبعثهم يوم القيامة، (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة]. (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا)، أي: متفرقين، تفرق أعمالهم في الدنيا. (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، أي: وزن أدنى ما يكون.
فكل شيء عند الله -تعالى- مقيد مكتوب: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ) [الانفطار:10-11]، (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29].
هذا هو حالي وحالك في هذه الدنيا، وحال كل ابن أثنى من كل بني آدم، أعمالهم مختلفة وهم متفاوتون في الآخرة من حيث الفوز والفلاح، ومن حيث الخيبة والخسارة.
لكن أعظم الخاسرين خسارا هم أولئك الذين وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإفلاس، فمن هم المفلسون؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "أتدرون من المفلس؟" أجابه صحابته الكرام، قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع"، يعني: ... لا يملك شيئا، لا من النقود ولا من سائر أنواع الأموال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ " يعني: ... لا يملك شيئا، لا من النقود ولا من سائر أنواع الأموال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ".
عجيب! كيف يكون مفلسا من أتى بزكاة وصلاة وصيام؟ وهنا الصلاة والصيام واجب ومتطوع بها، بل حتى النوافل وأنواع من القربات التي يتقرب بها الناس من الطاعات والتطوعات يأتي بهذا يوم القيامة، كيف يكون مفلسا بصلاة وهي نور، ومن أتى بزكاة وهي برهان، ومن أتى بصيام قال فيه الملك الديان: "الصيام لي وأنا أجزي به"؟ فكيف يكون مفلسا؟!.
استمع إلى بيان من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: "وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا"، جماع ذلك كله أنه صاحب أذى في قوله وفي عمله، أذى في أعراض الناس وفي أموالهم وفي دمائهم، فلم يسلموا منه لا في مال ولا في عرض ولا في دم، "فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
ما أعظم الخسارة! وما أكبر الغبن! مسكينٌ مَن هذه حاله! يأتي وقد اجتهد في الفرائض، وجدّ في أنواع النوافل، في ألوان من القربات والصالحات، ثم كل ذلك لا يجد له أثراً ولا يدرك له نفعا! فهو يجمع ولا ينتفع، ويتعب ولا يستفيد، إنه المفلس الحقيقي، وهذا هو أخطر إفلاس يمكن أن يتعرض له الإنسان!.
إفلاس الدنيا بذهاب الأموال وفنائها يمكن أن يعوض، وغاية ما هنالك حتى لو لم ترجع له ثروته أن يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! إنا لله وإنا إليه راجعون، فتحط من سيئاته وترتفع درجاته بصبره واحتسابه، هذا إفلاس الدنيا؛ لكن إفلاس الآخرة ليس عنه عوض، ولا عنه خلف، إذا ذهبت الحسنات لا ترجع، وإذا زالت، فكيف تدرك؟.
ولهذا؛ جاء التحذير العظيم الشديد ممن لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- من أن يكون الإنسان على هذه الحال، فقد جاء عن سلمان وحذيفة وعبد الله بن مسعود وجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل لترفع له يوم القيامة صحيفة حتى يرى أنه ناجٍ"، لماذا؟ لما فيها من القربات وأنواع الصالحات والأعمال الزاكيات، فما تزال مظالم بني آدم تتبعه من غيبة ونميمة وأكل المال بالباطل وانتهاك حرمات واعتداء على أنفس وما دونها من الدماء، لا تزال مظالم بني آدم تتبعه حتى ما تبقى له من حسنة، فتتبدد تلك الحسنات، بل ويحمل عليه من سيئاتهم.
هكذا حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من هذه الحال ومن هذا المآل، ولا تظن أو يخيل إليك أن هذا فقط في حق من يوافقك من الصالحين أو الاعتداء على أهل الخير والبر، بل هذا الاعتداء على كل من لا يجوز أن يعتدى عليه من مسلم أو كافر، بل حتى الحيوان إذا اعتديت عليه بغير حق... "دخلت امرأة النار في هرة، حبستها، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض".
النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول، فيما جاء في المسند من حديث عبد الله بن أنيس: " ينادي الله -تعالى- يوم القيامة فيقول: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة"، هذا في النار، ومع هذا حفظ حقه، فلا يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار يطلبونهم بمظلمة.
"لا ينبغي لأحد أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة"، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: حتى اللطمة وهي الصفعة على الوجه وإن كانت بخفة ولا يلزم أن تكون بشدة وبقوة، حتى اللطمة، قال له أصحابه -رضي الله عنهم- لما سمعوا هذه المقولة: "كيف هذا ونحن نأتي غرلا يوم القيامة؟" كيف نوفي هذه المظالم ونحن نأتي على صفة ليس معنا شيء ولا نملك لأنفسنا شيء في ذلك اليوم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بالحسنات والسيئات"، إنما تؤخذ الأمور يوم القيامة بالحسنة والسيئة.
ولذلك؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في بيان كمال العدل يوم القيامة: "لتؤدّنّ الحقوق يوم القيامة إلى أهلها"، أي: يعطى كل ذي حقا حقه مهما كان صغيرا دقيقا، فالناس يوم القيامة أشحاء بحقوقهم، حتى الوالد مع ولده، وحتى الأم مع ابنها، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37]، هذا الفراق لئلا يطالب بالحقوق... (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر:30-31].
قال الزبير بن العوام -رضي الله عنه-: "إنه لشر كبير ذلك الموقف عندما يأتي الخصوم بين يدي الملك العلام الخبير الذي لا تخفى عليه خافية".
فيعطي كل ذي حقا حقه، جل في علاه، سبحانه وبحمده، ليس فقط في بني آدم، بل حتى إن الله -تعالى- يقيم العدل بين الحيوانات، كما جاء في حديث أبي هريرة: "لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجَلحاء"، يعني التي ليس لها قرن، "من الشاة القَرناء". الله أكبر! ما أجل عدل الله -عز وجل- وأعظم ميزانه سبحانه وبحمده!.
روى الإمام أحمد والطبرانى بسند صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسير مع أبى ذر الغفاري, فرأى عنزتين تنتطحان، فقال النبي لأبى ذر: "أتدرى ما بينهما يا أبا ذر؟!"، فقال أبو ذر: "لا أدرى"...، فقال النبي: "ولكن الله يدرى، وسيحكم بينهما يوم القيامة".
اللهم اغفر لنا ما كان من الذنوب، وتجاوز عن الخطأ والتقصير يا ذا الجلال والإكرام، وزين بالإيمان قلوبنا يا ذا الجلال والإكرام.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أحمده جل في علاه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله حق التقوى، واجعلوا بينكم وبين حقوق الخلق وقاية، فإن حقوق الخلق عظيمة الشأن، فأول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، ثم في الأموال، ثم في الأعراض.
حق الله مبني على المسامحة، فمن أخطأ تاب واستعتب أو عفا الله عنه بجوده وكرمه -سبحانه وبحمده-، لكن حقوق الخلق مبنية على أضيق ما يكون. أرأيت لو أن عليك دَينا والطلاب قد وقفوا عند بابك وتعرف أن لك عند فلان مالاً، أكنت تصفح وتسامح وتسقط ذلك الحق؟ الجواب: لا.
... يوم القيامة الأمر أشد وأعظم، فهي جنة أو نار، والإنسان يبحث عن حسنة ويتوقى سيئة، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه، هاوية فريق في الجنة وفريق في السعير.
لذلك؛ توقّ حقوق العباد، فظلم العباد شر مكتسب يكتسبه الإنسان، وهو أعظم خطر يقدم به العبد على الله -تعالى- بعد الشرك بالله جل في علاه، فيجب على المؤمن أن يكون شديد الحذر من حقوق الخلق، وينبغي أن يسعى في التبرؤ من الحقوق قبل أن يفوت الأوان؛ لذلك قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة: "من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن ألا يكون دينار أو درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه".
قال أبو بكر بن عياش -رحمه الله-: "قال لي رجل مرة وأنا شاب: خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا".
وأنا أقولها لي ولكم يا إخوان: خلصوا رقابكم من حقوق الخلق ما استطعتم إلى ذلك سبيلا في الدنيا، فإن أسير الآخرة غير مفكوك، كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين، فخلص نفسك، ولك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام أسوة حسنة.
قال مالك -رحمه الله-: بلغني أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لما ولي الخلافة ضرب رجلا ثم ندم أن ضربه، وهو خليفة رسول الله، وهو الصدّيق، فرجع إلى نفسه بالملامة، وقال: ما لي ولهذا؟ يعني: لماذا ضربته؟ وكأنه لام نفسه، فسمعته عائشة -رضي الله عنها- فأرسلت إلى عمر، فجاءه عمر، فقال أبو بكر لعمر: إني ضربت رجلاً وقد كنت معافى من هذا أن أضرب أحداً، كره أن يضرب أحداً -رضي الله عنه-، فقال له عمر -رضي الله عنه-: كذلك الإمام. أي: هكذا يكون الإمام المقدم في أصحابه يخشى حقوق الناس، فقال أبو بكر لعمر: فما المخرج؟ قال: أن نأتي الرجل فنسأله أن يجعلك في حل. فذهب أبو بكر وعمر إلى ذلك المضروب يستحلانه، وهذا مصداق قوله -صلى الله عليه وسلم- "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار أو درهم".
قال حبيب، وهو أحد الرواة: دخل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- على بيته، فوجد غلامه يعلف ناقة له وإذا في علفها شيء، يعني من الأمور التي كرهها عثمان -رضي الله عنه-، فأخذ بأذن غلامه، منبها له على خطئه، ثم ندم -رضي الله عنه-، فقال للغلام، وهو رقيق مملوك لعثمان -رضي الله عنه-: "قم فاقتص مني"، فأبى الغلام، فلم يزل به عثمان حتى قام فأخذ بأذن عثمان -رضي الله عنه- الذي تستحي منه الملائكة، ثم قال له عثمان: "اعرك". أَمَرَهُ أن يعرك بشدة، "شدّ شدّ"، هكذا يقول له -رضي الله عنه-، حتى عرف عثمان أنه بلغ منه مثلما حصل منه، قال عثمان كلمة، استمع إليها واجعلها عملاً لك في دنياك: "واها لقصاص الدنيا قبل قصاص الآخرة!".
ما أطيب قلوبهم! وما أجمل سرائرهم! قوم عمر الإيمان قلوبهم، فنفذت أبصارهم من الدنيا إلى يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين حفاة عراة غرلا يبتغون النجاة، فكانوا على أكمل حال في هذه الدنيا، بذلوا وسعهم وجهدهم في التخلص من حقوق العباد.
كم من مجلس فيه من الغيبة ما الله به عليم نحن شركاء فيه! كم من مجلس وكلام يصدر منا فيه من الاعتداء على الخلق بسب أو شتم أو نيل أو كذب أو نميمة ونحن شركاء في ذلك أو مباشرون له!... ألا يجدر بنا أن نحاسب أنفسنا يا إخوان؟!...
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى...